البحث

التفاصيل

موقف اليهود في المدينة المنورة

الرابط المختصر :

الحلقة الرابعة والستون (64)

موقف اليهود في المدينة المنورة

الشيخ الدكتور علي محمّد محمّد الصّلابيّ

لقد قامت الحجج القاطعة، والبرآه ين السَّاطعة لليهود على صدق رسالة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنَّ ذلك لم يزدْهم إلا عناداً، وعداوةً، واستكباراً، وحقداً، وحسداً على الرَّسول صلى الله عليه وسلم والَّذين آمنوا معه، فعن صفية بنت حُيَيِّ بن أخطب: أنَّها قالت: كنتُ أحَبَّ ولدِ أبي إليه، وإلى عمِّي أبي ياسر، لم ألقَهُما قطُّ مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلـمَّا قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قُباء، في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حُيَيُّ بن أخطب، وعمِّي أبو ياسر بن أخطب، مُغَلِّسَيْن. قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالَّيْنِ، كسلانينِ، ساقطينِ، يمشيان الهُوَيْنَى. قالت: فَهَشِشْتُ إليهما، كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليَّ واحدٌ منهما، مع ما بهما من الغَمِّ. قالت: وسمعتُ عمِّي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حُيَيِّ بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: أتعرفه، وتُثْبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله! ما بَقِيتُ.

وقد شنَّ اليهودُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، حملاتٍ إعلاميَّةً لتشويه صورة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وتنفير النَّاس منه، ونَزْع الثِّقة بينه، وبين النَّاس. لقد شعر اليهود بخطورة هذا الدِّين على مصالحهم، وعلى عقيدتهم المنحرفة المزيَّفة، القائمة على الاستعلاء، واحتقار النَّاس، عدا الجنسَ اليهوديَّ؛ لقد جاء ينادي بعقيدة التَّوحيد، وهم يقولون: «عزير ابن الله»، وجاء ينادي بالمساواة بين أفراد الجنس البشريِّ، وأنَّه لا يعلو شعبٌ على شعبٍ، ولا جماعةٌ على جماعةٍ، وهم يرون: أنَّهم شعب الله المختار، يترفَّعون عن بقيَّة الأجناس، وينظرون إليهم على أنَّهم دونهم، وأقلُّ منهم؛ ولذلك لم يلتزموا ببنود الوثيقة، وشرعوا في التَّشكيك في نبوَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، وأكثروا من الأسئلة لإحراج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخدعوا المؤمنين، ودلَّسوا عليهم، وغير ذلك من الأعمال الخبيثة.

 

1 - محاولة اليهود تصديع الجبهة الدَّاخلية:

ومن وسائلهم الخبيثة في حرب الإسلام محاولاتُهم المستمرَّة لتمزيق الصَّفِّ المسلم، وتخريبه بتقطيع أواصر المحبَّة بين المسلمين، وذلك بآثارة الفتن الدَّاخلية، والشِّعارات الجاهليَّة، والنَّعرات الإقليميَّة، والدَّعوات القوميَّة، والقَبَلِيَّة، والسَّعي بالدَّسيسة والوقيعة بين الإخوة المتالفين المتوادِّين المتحابِّين، فهم في توادِّهم، وتعاطفهم، وتراحمهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ؛ تداعى له سائر الأعضاء بالحُمَّى والسَّهر.

فقد تفتَّق ذهنُ أحد شيوخهم الكبار في السنِّ، عن حيلةٍ هدف بها إلى تفريق وحدة الأنصار، وذلك بآثارة العصبيَّة القبليَّة بينهم؛ ليعودوا إلى جاهليتهم، فتعود الحروب بينهم كما كانت، ويخسر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك أقوى أنصاره، وفي بيان هذا الخبر يقول محمَّد بن إسحاق - رحمه الله تعالى! -: ومَرَّ شأس بن قيس - وكان شيخاً قد عَسَا، عظيمَ الكفر، شديدَ الضِّغْن على المسلمين، شديدَ الحسد لهم - على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، في مجلسٍ قد جمعهم يتحدَّثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلْفَتِهم، وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الَّذي كان بينهم في الجاهليَّة، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة بهذه البلاد، لا والله! ما لنا معهم - إذا اجتمع مَلَؤهم بها - من قرارٍ، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم، فقال: اعْمِدْ إليهم، فاجلس معهم، ثمَّ اذكر يوم بُعاث، وما كان قَبْلَه، وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار.

وكان يومُ بُعاث يوماً اقتتلتْ فيه الأوس والخزرج، وكان الظَّفَر فيه يومئذٍ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذٍ حُضَيْر بن سماك الأشهليُّ أبو أُسيد بن حُضَير، وعلى الخزرج عمرو بن النُّعمان البَيَاضي، فَقُتِلا جميعاً. قال ابن إسحاق: ففعل، فتكلَّم القوم عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا، حتَّى تواثب رجلانِ من الْحَيَّيْنِ على الرُّكب: أوس بن قَيْظيٍّ - أحد بني حارثة بن الحارث، من الأوس - وجبَّار بن صخر - أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا، ثمَّ قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة، فغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظَّاهرة - والظَّاهرة: الحَرَّة - السِّلاحَ السِّلاحَ، فخرجوا إليها. فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتَّى جاءهم، فقال: يا معشرَ المسلمين! اللهَ اللهَ! أَبِدَعْوَى الجاهلية، وأنا بين أظهُركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بين قلوبكم؟!

فعرف القوم أنَّها نزغةٌ من الشَّيطان، وكيدٌ من عدوِّهم، فبكوا، وعانق الرِّجال من الأوس والخزرج بعضُهم بعضاً، ثمَّ انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوِّ الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس، وما صنع: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيات اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 98 - 99] وأنزل الله في أوس بن قَيْظيٍّ، وجبَّار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما؛ الَّذين صنعوا ما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيات اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 100 - 105] .

ونرى من خلال القصَّة، قدرة القيادة النَّبويَّة على إحباط مخطَّط اليهود الهادف لتفتيت وحدة الصفِّ، واهتمام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأمور المسلمين، وإشفاقه عليهم، وفزعه ممَّا يصيبهم من الفتن والمصائب، فقد أسرع إلى الأنصار، وذكَّرهم بالله، وبيَّن لهم: أنَّ ما أقدموا عليه من أمر الجاهليَّة، وذكَّرهم بالإسلام، وما أكرمهم الله به من القضاء على الحروب والفتن، وتطهير النُّفوس من الضَّغائن، وتأليف القلوب بالإيمان، وكانت لكلمات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أثرٌ في نفوسهم، وسرت في كيانهم رُوحٌ جديدةٌ، مسحت كل أثرٍ لأمر الجاهليَّة بفضل الله تعالى، ثمَّ بكلمات نبيِّه صلى الله عليه وسلم المعبِّرة، ورُوحه القويَّة المؤثِّرة، وهيئته الوثَّابة المنذرة، وأدركوا: أن ما وقعوا فيه كـان من وساوس الشَّيطان، وكيد عدوِّهم من اليهـود، فبكوا ندمـاً على ما وقعوا فيه من الذُّنوب، وتعانق رجال الإسلام؛ تعبيراً عن محبَّتهم الإيمانيَّة لبعضهم.

2 - التَّهجم على الذَّات الإلهيَّـة:

ذكر غيرُ واحدٍ من كُتَّاب السِّير، والمفسِّرين: أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه، قد دخل بيت الْمِدْرَاس على يهود، فوجد منهم ناساً كثيراً، قد اجتمعوا إلى رجلٍ منهم، يقال له: (فِنْحاص)، وكان من علمائهم، وأحبارهم، ومعه حَبْرٌ من أحبارهم، يقال له: (أشيع)، فقال أبو بكر لفِنْحاص: ويحَك! اتَّق الله، وأَسْلِم، فوالله! إنَّك تعلم: إنَّ محمداً لَرسولُ اللهِ، قد جاءكم بالحقِّ من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التَّوراة، والإنجيل. فقال فِنْحاص لأبي بكرٍ: والله! يا أبا بكر! ما بنا إلى الله من فَقْرٍ، وإنَّه إلينا لفقير، وما نتضرَّع إليه كما يتضرَّع إلينا، وإنَّا عنه لأغنياء، وما هو عنَّا بغنيٍّ، ولو كان عنَّـا غنيّاً ما استقرضنا أموالنـا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الرِّبا ويُعْطِينـاه، ولو كان عنا غنيّاً ما أعطانا الرِّبـا. فغضب أبو بكر، فضرب وجه فِنْحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده! لولا العهدُ الذي بيننا وبينكم؛ لضربتُ رأسَك أيْ عدوَّ الله! فذهب فِنْحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا محمد! انظر ما صنع بي صاحبك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ: « ما حملك على ما صنعت؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله! إنَّ عدوَّ الله قال قولاً عظيماً؛ إنَّه يزعم: أنَّ الله فقيرٌ، وأنَّهم أغنياء، فلـمَّا قال ذلك؛ غضبتُ لله ممَّا قال، وضربتُ وجهه! فجحد ذلك فِنْحاص، وقال: ما قلتُ ذلك؛ فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص؛ ردَّاً عليه، وتصديقاً لأبي بكر: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: 181] .

ونزل في أبي بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه، وما بلغه في ذلك من الغضب: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186] .

وذكر القرآن الكريم في أكثر من موضعٍ، سوءَ أدبهم مع الله - سبحانه وتعالى - وعـدم تنزيهـه عن النَّقائص، وَوَصْفَـه بما لا يليق به سبحانه، وهذا عين الوقاحة، وانعدام الأدب؛ ومن هذه الآيات قول الله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64] . ويبدو من مضمون الآية : أنَّ هذا الموقف الَّذي وقفوه ، كان منبعثاً ممَّا كان يملأ صدورهم من الغيظ ، والسُّخط من رسوخ قدم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وانتشار دعوته، ولعلَّ ممَّا يصحُّ أن يضاف إلى هذا الاحتمال كون المسلمين قد انصرفوا عنهم، أو قاطعوهم بسبب مواقف الكيد، والجحود؛ الَّتي ما فتئوا يقفونها، واستجابةً لأمر القرآن، ونهيه، وتحذيره، فأثَّر ذلك في حالتهم الاقتصاديَّة تأثيراً سيئاً، فزاد سخطهم، وغيظهم، وتَبَرُّمُهم، ودفعهم إلى ما كان منهم من سوء الأدب في حقِّ الله، ومن ردٍّ غير جميلٍ لرسول الله (ص).

وقد جاء بعد هذه الآية ما يدلُّ على صحَّة ما ذهبتُ إليه، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمنوا واتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأََدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالآنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 65  66].

3 - سوء أدبهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم والنَّيل من الرُّسل الكرام والقرآن الكريم

وكان اليهود يسيئـون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حضرتـه، وأثناء خطابـه؛ إذ يلمزونه، ويحيِّونه بتحيَّةٍ فيها من الأذى والتهجُّم ما يدلُّ على سوء أخلاقهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء ناسٌ من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السَّامُ عليك يا أبا القاسم! فقلتُ: السَّام عليكم! وفعل الله بكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَهْ يا عائشة! فإنَّ الله لا يحبُّ الفحش، ولا التفحُّش»، فقلت: يا رسول الله! ترى ما يقولون؟ فقال: «ألستِ تريني أردُّ عليهم ما يقولون؟ وأقول: وعليكم»، قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك [البخاري (2935) ومسلم (2165/11)] وهي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ويَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [المجادلة: 8] .

وهذه الآية تُظْهِر الحقد الَّذي هيمن على نفوس اليهود، ودفعهم إلى استخدام كلِّ الوسائل، والطُّرق لهدم الإسلام، والتخلُّص من صاحب الرِّسالة صلى الله عليه وسلم ، والسَّيطرة على المسلمين، ولكن يظهر من دعاء بعض اليهود على الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالموت - مع التَّظاهر بالسَّلام عليه - الضَّعفُ الَّذي كانوا عليه عند التجائهم إلى هذا النَّوع من السَّلام، فالممارس لمثل ما قام به اليهوديُّ الَّذي سلَّم على الرَّسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «السَّام عليك» يعيش أزمةً نفسيَّةً متولِّدة عن فقدان عزٍّ كان يظنُّ أنه ينعم فيه، لقد تغلَّبت قوىً جديدةٌ على ماضيه وحاضره ، ولم يستطع أن يتفاعل مع مَنْ تغلَّب عليه ، ومنعهم الحسد والغيرة من الآنقياد للدِّين الجديد، وممَّا زاد في تأزُّم اليهود: أنهم جرَّبوا محاربة الإسلام بوسائلهم الَّتي كانوا يظنُّون أنَّها لا تُقهر، فكان الفشل حليفهم، لذلك لجؤوا إلى الطُّرق السَّلبيَّة، والوسائل الملتوية، فالدُّعاء على الخصم مع التَّظاهر بالسَّلام، هو سلاح العاجزين، ووسيلة الخائبين، وتِرْيَاقُ الحاقدين.

ولـمَّا سمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما صدر عن عائشة رضي الله عنها، دعاها إلى الرِّفق، واللِّين، وبيَّن لها: أنَّ المسلم لا يجوز له أن يترك الغضبَ يتحكَّم فيه، فالرِّفق في الإسلام ثمرةٌ لا يثمرها إلا حسن الخُلُق، فالله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف.

وأمَّا نَيْلُهم من المرسلين: فقد أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من يهود، فيهم أبو ياسر ابن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وعازر بن أبي عازر، وغيرهم، وسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عمَّن يؤمن به من الرُّسل، فقال صلى الله عليه وسلم : «نؤمن بالله، وما أُنزل إلينا، وما أُنزل إلى إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى، وما أُوتي النبيون من ربهم، لا نفرِّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون»، فلما ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام جحدوا نبوَّته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ابن مريم، ولا بمن امن به، فأنزل الله فيهم: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 59] .

وأمَّا عن محاولاتهم للنَّيل من القرآن الكريم في أسئلتهم، ونقاشهم، الَّذي لا ينتهي: فعن ابن عباسٍ رضي الله عنه قال: لـمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ قالت أحبار اليهود: يا محمد! أرأيتَ قولك: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 85] إيَّانا تريد أم قومك؟ قال: «كُلاًّ»، قالوا: فإنَّك تتلو فيما جاءك: أنّا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيءٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّها في عِلْم الله قليلٌ، وعندكم في ذلك ما يكفيكم؛ لو أقمتموه». قال: فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [لقمان: 27] .

4 - دعم حزب المنافقين، وتآمرهم معهم:

حدَّثنا القرآن الكريم، عن قيادة اليهود الفكريَّة لحزب المنافقين، فهم شياطين المنافقين؛ يخطِّطون لهم، ويوجِّهونهم، ويدرسون لهم أساليب الكيد، والمكر، والخداع، والدَّهاء، وآثارة الفتن. قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمنوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14] .

قال النَّسفي في تفسيره: «وشياطينهم الَّذين ماثلوا الشَّياطين في تمرُّدهم، هم اليهود». وكان اليهود في المدينة يتآمرون مع المنافقين ضدَّ المسلمين، وفي هذا التآمر يقول تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَولِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 138 - 139] .

قال الأستاذ محمد دَرْوَزَة: «وجمهور المفسرين على أنَّ الكافرين هنا هم اليهود، وفي الآية قرينةٌ على صحَّة ذلك، كما أنَّ فيما بعدها قرينةً ثانيةً أيضاً، وواضحٌ: أن اتِّخـاذ المنافقين اليهـود أولياء، وتواثـقهم معهم، إنَّمـا هما أثران من آثار التآمر الموطَّد بين اليهود، والمنافقين تجـاه الدَّعوة والقوَّة الإسلاميَّة». وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾ [محمد: 25 - 26] . والجمهور على أنَّ الآية الأولى عَنَتِ المنافقين، وأنَّ الَّذين كرهوا ما نزَّل الله هم اليهود، وهكذا تبدو في الآية الثَّانية صورةٌ من صور التآمر بين الفريقين ضدَّ الإسلام، والمسلمين، ونلفت النَّظر إلى ما حَكَتْهُ الآية الثَّانية، من وَعْد المنافقين لليهود بطاعتهم، والسَّير على الخطَّة ؛ الَّتي يضعونها، ففي هـذا كما هو ظاهرٌ صورةٌ لبعض ما كان لليهود من التَّوجيه والتَّأثير والنُّفوذ في المنافقين، وحركتهم، وأعمالهم.

وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [المجادلة: 14 - 16] . قال الماورديُّ في تفسيره لهذه الآية: «يعني: المنافقين؛ تولَّوا قوماً غضب الله عليهم: هم اليهود»، وفسر الماورديُّ الصدَّ عن سبيل الله بأنه: الصَّدُّ عن الجهاد ممايلةً لليهود.

ودفع اليهود المنافقين لإشعال حربٍ ضدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعن أسامة بن زيدٍ رضي الله عنـه قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمارٍ على قطيفـةٍ فَدَكِيَّة، وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعودُ سعدَ بن عُبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتَّى مرَّ بمجلسٍ فيه عبد الله بن أُبيِّ بن سَلول، وذلك قبل أن يُسْلم عبد الله بن أُبيِّ، فإذا في المجلس أخلاطٌ من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رَواحة، فلـمَّا غَشِيَتِ المجلسَ عَجَاجةُ الدَّابة، خَمَّر عبد الله بن أُبيٍّ أنفَه بردائه، ثمَّ قال: لا تُغبِّروا علينا، فسلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أُبيِّ بن سَلول: أيها المرءُ! إنَّه لا أحسنَ ممَّا تقول - إن كان حقَّاً - فلا تُؤْذِنَا به في مجلسنا، ارجع إلى رَحْلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله! فَاغْشَنَا به في مجالسنا، فإنَّا نحبُّ ذلك، فاستبَّ المسلمون، والمشركون، واليهود، حتَّى كادوا يتثاورون، فلم يزلِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهم حتَّى سكنوا، ثمَّ ركب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دابته، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : «يا سعدُ! ألم تسمع ما قال أبو حُبَاب - يريد عبد الله بن أُبيٍّ - قال كذا، وكذا». قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: يا رسول الله! اُعْفُ عنه، واصفحْ، فوالَّذي أنزل عليك الكتاب! لقد جاء الله بالحقِّ الذي أَنزل عليك، ولقد اصطلح أهلُ هذه البحيرة على أن يُتَوِّجوه، فيعصِّبُونه بالعصابة، فلـمَّا أبى الله ذلك بالحقِّ الذي أعطاك الله شَرِقَ بذلك، فذلك فعل به ما رأيتَ. فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

5 - طعنُ اليهود في مَنْ آمن من الأحبار (عبد الله بن سَلام) رضي الله عنه:

«بلغَ عبدَ الله بن سَلام مَقْدَمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فأتاه، فقال: إنِّي سائلُك عن ثلاث لا يعلمهنَّ إلا نبيٌّ، قال: ما أوَّل أشراط السَّاعة؟ وما أوَّل طعامٍ يأكله أهل الجنة؟ ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ الولدُ إلى أبيه؟ ومن أيِّ شيء يَنْزِعُ إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خَبَّرَني بهنَّ انفاً جبريلُ»، قال: فقال عبد الله: ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمَّا أوَّلُ أشراط السَّاعة، فنارٌ تحشر الناسَ من المشرق إلى المغرب، وأمَّا أولُ طعامٍ يأكله أهلُ الجنة، فزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وأما الشَّبهُ في الولد، فإنَّ الرَّجل إذا غَشيَ المرأةَ، فسبقها ماؤه؛ كان الشَّبه له، وإذا سبق ماؤها؛ كان الشَّبهُ لها».

قال: أشهد أنَّك رسول الله، ثمَّ قال: يا رسول الله! إنَّ اليهود قومٌ بُهْتٌ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود، ودخل عبدُ الله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيُّ رجل فيكم عبدُ الله بن سلام!» قالوا: أعلمُنا وابن أعلمِنا، وأخبرُنا وابن أخبرِنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفرأيتم إن أسلم عبد الله!» قالوا: أعاذه اللهُ من ذلك. فخرج عبد الله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمَّداً رسول الله، فقالوا: شَرُّنا، وابن شَرِّنا، ووقعوا فيه» [البخاري (3329)] . فكانوا يؤذون من آمن من أحبارهم، ويثيرون حولهم الشُّكوك، ويقذفونهم بتهمٍ باطلةٍ قبيحةٍ، وقد حدَّثنا القرآن الكريم عن هذه الوسيلة، ودافع عن هؤلاء المؤمنين، الَّذين وجَّه اليهود ضدَّهم تلك الحملات الظَّالمة.

قال الله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيات اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 113 - 115] . قال الواحديُّ في (أسباب النُّزول): «قال ابن عباسٍ، ومقاتلٍ: لـمَّا أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيد، وأسيد بن سعية، وأسد بن عُبيد، ومن أسلم من اليهود، قالت أحبار اليهود: ما آمن لمحمَّد إلا شرارُنا، ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين ابائهم، وقالوا لهم: لقد خُنتم حين استبدلتم بدينكم ديناً غيره، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ الآية».

6 - بثُّ الإشاعات والشَّماتة بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين:

كان اليهود يتحيَّنون الفرص للنَّيل من المسلمين، والبحث عمَّا يفرِّق كلمتهم، ومن ذلك استغلالهم - في الأشهر الأولى من الشَّهر - لوفاة أحد النُّقباء، الَّذين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، وهو أبو أُمامة أسعد بن زُرَارةَ الأنصاريُّ الخزرجيُّ رضي الله عنه، فعندما أخذته الشَّوْكة، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: بئس الميِّتُ ليهود - مرَّتين - سيقولون: لولا دفع عنه صاحبه، ولا أملك له ضرّاً، ولا نفعاً، ولأتَمَحَّلَنَّ له»، فأمر به، فكُوِيَ بخطَّين فوق رأسه فمات، [أحمد (4/138) والحاكم (4/214) ومجمع الزوائد (5/98)] . وفي روايةٍ: فكواه حَوْران، على عنقه، فمات، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : «بئس الميتُ لليهود، يقولون: قد داواه صاحبه، أفلا نفعه!» [الطبراني في المعجم الكبير (5584) وعبد الرزاق في المصنف (19515)] .

ولم تكن حادثة أبي أُمامة هي الحدث الوحيد الَّذي أبان الحقد اليهوديَّ على المسلمين، فقد أشاعوا في أوَّل الهجرة: أنَّهم سحروا المسلمين، فلا يُولد لهم ولد، أشاعوا ذلك ليضيِّقوا على المسلمين الخناق، ويفسدوا عليهم حياتهم الجديدة، التي عاشوها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعكِّروا ذلك الجوَّ الصَّافي؛ الَّذي يملؤه الحبُّ، والتآلف بين المسلمين.

وممَّا يدلُّ على مقدار ما فعلته تلك الإشاعة بين المسلمين، شدَّة الفرحة التي اعترتهم حيث ولد بينهم أوَّل مولودٍ ذكر من المهاجرين، وهو عبد الله بن الزُّبير رضي الله عنه، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: «أنَّها حَمَلَتْ بعبد الله بن الزُّبير في مكَّة، قالت: فخرجت وأنا مُتِمٌّ، فأتيت المدينة، فنزلت قُباءً، فولدت بقُباء، ثمّ أتيت به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فوضعتُه في حجره، ثمَّ دعا بتمرةٍ، فمضغها، ثمَّ تفل في فيه، فكان أوَّل شيءٍ دخل جوفه ريقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ حَنَّكَه بالتَّمرة، ثمَّ دعا له، فَبَرَّك عليه، وكان أولَ مولود وُلِدَ في الإسلام، ففرحوا به فرحاً شديداً؛ لأنَّهم قيل لهم: إنَّ اليهود قد سحرتكم، فلا يُولدُ لكم» [البخاري (5469) ومسلم (2146/26)]، وفي روايةٍ مسلم [(2146/25)]: «وسمَّاه عبد الله، ثمَّ جاء بعدُ وهو ابن سبعٍ، أو ابن ثماني سنين، يبايع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، أمره الزُّبير رضي الله عنه بذلك، فتبسم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حين رآه  مقبلاً، وبايعه»، وكان أوَّل من وُلِدَ في الإسلام بالمدينة بعد مَقْدَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم، فلا يُولدُ لهم بالمدينة وُلد ذكر، فكبَّرَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وُلد عبد الله [الحاكم (3/548)] .

7 - موقفهم من تحويل القبلة:

تكاد تكون حادثة تحويل القبلة، من بيت المقدس إلى الكعبة المشرَّفة هي الفاصل بين الحرب الكلاميَّة، وحرب المناوشات، والتدخُّل الفعليَّ من جانب اليهود، لزعزعة الدَّولة الإسلاميَّة الناشئة، فعن البَرَاء بن عازبٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان أولَ ما قَدِمَ المدينة نزل على أجداده - أو قال: أخواله - من الأنصار، وأنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى قِبَلَ بيت المقدس ستةَ عَشَرَ شهراً، أو سبعةَ عَشَرَ شهراً، وكان يُعجبه أن تكون قبلتُه قِبَلَ البيت، وأنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى أوَّل صلاةٍ صلاها، صلاةَ العصر، وصلَّى معه قومٌ، فخرج رجلٌ ممَّن صلَّى معه، فمرَّ على أهل مسجدٍ؛ وهم راكعون، فقال: أشهد بالله! لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكَّة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم أنَّه كان يُصلِّي قِبَلَ بيت المقدس، وأهلُالكتاب، فلـمَّا ولَّى وجهه قِبَلَ البيت؛ أنكروا ذلك [البخاري (40) ومسلم (525)]، وقد نزلت في هذه الحادثة آيات عظيمة، فيها عِبَرٌ، وحكمٌ ودروسٌ للصفِّ المسلم.

قال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشُوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آياتنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 149 - 152] .

* ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا ولاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142] : أخبر الله - تبارك وتعالى - بما سيقوله اليهود عند تحوُّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من آثارة الشُّكوك، والتَّساؤلات قبل وقوع الأمر، ولهذا دلالته؛ فهو يدلُّ على نبوَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ؛ إذ هو أمر غيبيٌّ، فأخبر عنه قبل وقوعه، ثمَّ وقع، فدلَّ ذلك على أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسولٌ، ونبيٌّ يخبره الوحي بما سيقع؛ إذ من الأدلَّة على صدق رسالة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، أن يخبر بأمور غيبية ثمَّ تقع بعد ذلك.

وهو يدلُّ أيضاً على علاجٍ للمشاكل قبل حدوثها، حتَّى يستعدَّ المسلمون، ويهيِّئوا أنفسهم لهذه المشاكل للتغلُّب عليها، والردِّ عليها، ودفعها؛ لأنَّ الأمر حين يكون مفاجئاً لهم، يكون وقعه على النفس أشدَّ، ويربك المفاجأ، أمَّا حين يُحدَّثون عنه قبل وقوعه، فالحديث يطمئنهم، ويوطِّن نفوسهم، ويعدُّها لمواجهة الشَّدائد. قال أبو السعود في تفسيره: «وأخبر بالأمر قبل وقوعه؛ لتوطين النُّفوس، وإعدادها على ما يبكتهم، فإنَّ مفاجأة المكروه على النَّفس أشقُّ، وأشدُّ، والجواب العتيد لشغب الخصم الألد أردُّ»، وقد وصف الله تعالى اليهود بالسَّفه؛ لاعتراضهم على تحويل القبلة، وللكيد ضدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو السعود: «والسفهاء الذين خفَّت أحلامُهم، واستمهنوها بالتَّقليد، والإعراض عن التدبُّر، والنَّظر. وقولهم: ثوبٌ سفيهٌ، إذا كان خفيف النَّسيج، وقيل: السَّفيه: البهَّات الكذَّاب، المتعمِّد خلاف ما يعلم، وقيل: الظَّلوم الجهول، والسُّفهاء هم اليهود».

* ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة 143] : يقول ابن كثير: «يقول تعالى: إنما حوَّلناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم، لنجعلكم خيارَ الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداءَ الأمم؛ لأنَّ الجميع معترفون لكم بالفضل. والوسط هاهنا: الخيار، والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي: خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه الصَّلاة الوسطى الَّتي هي أفضل الصَّلوات وهي العصر».

فهي أمَّـةٌ وسطٌ في التَّصوُّر والاعتقاد، في التَّفكيـر والشُّعـور، في التَّنظيم والتَّنسيق، في الارتباطات والعلاقـات، في المكان في سـرَّة الأرض وأوسـط بقاعها.

- ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [البقرة: 143] . فالآية تذكِّر أنَّ الصَّلاة نحو بيت المقدس كانت فتنةً؛ أي: اختباراً، والتَّحوُّل من بيت المقدس إلى الكعبة كان أيضاً اختباراً، وامتحاناً. قال البيضاويُّ في تفسيره: «وما جعلنا قبلتك بيت المقدس إلا لنعلم مَنْ يتَّبع الرَّسول، ممَّن ينقلب على عقبيه، إلا لنمتحن به النَّاس، ونعلم من يتَّبعك في الصَّلاة إليها، ممَّن يرتدُّ عن دينك إلفاً لقبلة ابائه، أو لنعلم من يتَّبع الرَّسول ممَّن لا يتَّبعه، وما كان لعارض يزول بزواله، وعلى الأول: معناه: ما رددناك إلى الَّتي كنت عليها، إلا لنعلم الثَّابت على الإسلام، ممَّن ينكص على عقبيه؛ لقلقه، وضعف إيمانه».

فالصَّلاة إلى الكعبة في بداية الأمر، ثمَّ الصَّلاة إلى بيت المقدس، ثمَّ العودة إلى الكعبة، واستمرار ذلك لا شيء فيه؛ ما دام الباري سبحانه أمر بذلك، ومن ثَمَّ فالتَّوجه في كلِّ حالةٍ هو عبادة، وما على الناس إلا أن ينقادوا لأمر الله - تبارك وتعالى -، ويلتزموا بأمره، فالذي يتَّبع الرسول وينقاد لأوامره في القبلة يُعَدُّ فائزاً في الاختبار، والامتحان، والَّذي يجد في نفسه مخالفة حكمٍ من الأحكام الشَّرعيَّة كان ساقطاً، وهالكاً، والإيمان الحقُّ هو الَّذي يُلزم صاحبه بالاتِّباع، ومخالفة الهوى؛ ولهذا ثبت الصَّحابة الكرام، واستجابوا لأوامر الله تعالى، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: بينا النَّاس يصلُّون الصُّبح في مسجد قُباء؛ إذ جاء رجلٌ فقال: قد أُنزل على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة، فاسْتقبِلُوها. فتوجَّهوا إلى الكعبة.

- ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنْ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143] . تبيِّن الآية الكريمة حرص المؤمنين على إخوانهم، وحبَّ الخير لهم، فحينما نزلت الآيات؛ الَّتي تأمر المؤمنين بتحويل القبـلة إلى الكعبـة؛ تساءل المؤمنون مشفقين عن مصير عبادة إخوانهم، الَّذين ماتوا؛ وقد صلوا نحو بيت المقدس، فأخبر الله - عزَّ وجلَّ -: أنَّ صلاتهم مقبولةٌ، فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: لما وُجِّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة؛ قالوا: يا رسول الله! كيف بإخواننا الَّذين ماتوا وهم يصلُّون إلى بيت المقدس؟، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنْ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143] [أبو داود (4680) والترمذي (2964) وأحمد (1/295 و304 و322 و347)]، وبيَّن لهم: أنَّه رؤوف رحيمٌ، «وبهذا يسكب في قلوب المسلمين الطُّمأنينة، ويذهب عنها القـلق، ويفيض عليها الرِّضا، والثِّقة، واليقين».

- ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 144 - 148] .

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حريصاً على أن يتوجَّه في صلاته إلى قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، فهو أولى النَّاس به؛ لأنَّه من ثمرة دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام، وحامل لواء التَّوحيد بحقٍّ كما حملها إبراهيم عليه السلام، وهو صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يكون مستقلاً، ومتميِّزاً عن أهل الدِّيانات السَّابقة؛ الَّذين حرَّفوا، وبدَّلوا، وغيَّروا؛ كاليهود، والنَّصارى؛ ولهذا كان ينهى عن تقليدهم والتَّشبُّه بهم؛ بل يأمر بمخالفتهم، ويحذِّر من الوقوع فيما وقعوا فيه من الزَّلل، والخطل[(575]، والآنحراف، ومقتضى هذا الحرص أن يتوجَّه في صلاته بشكل دائم إلى قيلة أبي الأنبياء، وهو أول بيت وضع للناس[(576)].

إن لحادثة تحويل القبلة أبعاداً كثيرة: منها السِّياسيُّ، ومنها العسكريُّ، ومنها الدِّينيُّ البحت، ومنها التاريخيُّ؛ فبعدها السياسيُّ: أنها جعلت الجزية العربية محور الأحداث، وبعدها التَّاريخيُّ: أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربيِّ لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وبعدها العسكريُّ: أنَّها مهَّدت لفتح مكة ، وإنهاء الوضع الشَّاذِّ في المسجد الحرام، حيث أصبح مركز التَّوحيد مركزاً لعبادة الأصنام، وبُعدها الدينيُّ: أنها ربطت القلب بالحنفيَّة، وميَّزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام في بقية الأديان[(577)].

- ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آياتنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 149 - 152].

إنَّ نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييزكم بشخصيَّتكم من نعم الله عليكم، وقد سبقتها آلاء من الله كثيرةٌ عليكم؛ منها:

- ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ﴾: فوجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم - إمام المربيِّين والدُّعاة - هو من خصيصة هذه النخبة القيَّاديَّة، الَّتي شرَّفها الله تعالى بأن يكون هو المسؤول عن تربيتها؛ فقيه النُّفوس، وطبيب القلوب، ونور الأفئدة، فهو النُّور، والبرهان، والحجَّة.

- ﴿ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آياتنَا﴾: فالمادة الأساسيَّة للبناء والتَّربية كلام الله تعالى، وكان يرافقهُ شحنةٌ عظيمةٌ لنزوله أوَّل الأمر غضَّاً طريَّاً، فكان جيلاً متميِّزاً في تاريخ الإنسانيَّة.

- ﴿ وَيُزَكِّيكُمْ﴾: فالمعلِّم المربِّي رسول الله (ﷺ)، فهو المسؤول عن عمليَّة التربيَّة، وهو الَّذي بَلَغَ من الخُلُق، والتَّطبيق لأحكام القرآن الكريم ما وصفه الله تعالى به من هذا الوصف الجامع المانع، الذي تفرَّد به صلى الله عليه وسلم من دون البشريَّة كافَّةً، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وهو الَّذي وصفته عائشة رضي الله عنها، بأعظم ما يملك بشرٌ أن يصف به نبيَّاً، فقالت: «كان خُلُق نبيِّ الله القرآن» [البخاري في الأدب المفرد (308) وأحمد (6/91) والنسائي في السنن الكبرى (11287)] فكان الصَّحابة يسمعون القرآن الَّذي يُتلى من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرون القرآن الَّذي يمشي على الأرض متجسِّداً في خلُقه الكريم صلى الله عليه وسلم: فهذه هي المهمَّة ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، تعليم الصَّحابة الكرام الكتاب، والحكمة، فالقرآن الكريم لكي يكون مؤثراً في الأمَّة لا بدَّ من المربِّي الرَّبَّانيِّ الَّذي يزكِّي النُّفوس، ويطهِّر القلوب، ويعلِّمها شرع الله تعالى من خلال القرآن الكريم، وسنَّة سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم ؛ فيشرح للمسلمين غامضَه، ويبيِّن مُحْكَمَهُ، ويفصِّل مجمله، ويسأل عن تطبيقه، ويصحِّح خطأ الفهم لهم؛ إن وجد. كان الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، يعلِّم، ويربِّي أصحابه؛ لكي يُعلِّموا، ويربُّوا النَّاس على المنهج الرَّبَّانيِّ، فتعلَّم الصَّحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج التَّعليم، ومنهج التَّربية، ومنهج الدَّعوة، ومنهج القيادة للأمَّة من خلال ما تسمع، وما تبصر، ومن خلال ما تعاني وتجاهد، فاستطاع صلى الله عليه وسلم أن يعدَّ الجيل إعداداً كاملاً، ومؤهِّلاً لقيادة البشريَّة، وانطلق أصحابه من بعده يحملون التَّربية القرآنيَّة، والتَّربية النَّبويَّة إلى كل صُقْعٍ، وأصبحوا شهداء على النَّاس.

- ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾: ماذا كانوا قبل الوحي والرِّسالة؟ وماذا أصبحوا  ذلك؟ كانوا في حروبٍ، وصراعٍ، وجاهليَّةٍ عمياء، وأصبحوا بفضل الله، ومَنِّهِ، وكرمه أمةً عظيمةً، لها رسالةٌ، وهدفٌ في الحياة، لا همَّ لها إلا العمل ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، وحقَّقوا العبوديَّة لله وحده، والطاعة للهِ وحده، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وانتقلوا من نزعة الفردية، والآنانيَّة، والهوى إلى البناء الجماعيّ، بنـاء الأمَّة، وبنـاء الدَّولـة، وصناعة الحضارة، واستحقَّت بفضل الله، ومَنِّـه أعظمَ وسَامَيْنِ في الوجود، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، وقال - أيضاً -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].

- ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾: فهذه المنن، وهذه العطايا، وهذه الخيرات تحتاج لذكر الله في الغدوِّ، والاصال، وشكره عليها، وحثَّهم المولى - عزَّ وجلَّ - على ذكره، وبكرمه يُذكرون في الملأ الأعلى، بعدما كانوا تائهين في الصَّحاري، ضائعين في الفيافي، وحُقَّ لهذه النعم جميعاً أن تُشْكَر!.

وهكذا الآيات الكريمة تربِّي الصَّحابة من خلال الأحداث العظيمة، وتصوغ الشَّخصيَّة المسلمة القويَّة، الَّتي لا ترضى إلا بالإسلام ديناً، والتَّي تعرَّفت على طبيعة اليهود من خلال القرآن الكريم، وبدأت تتعمَّق في ثنايا طبيعتهم الحقيقيَّة، وانتهت إلى الصُّورة الكلِّيَّة النِّهائيَّة، الَّتي تربوا عليها من خلال القرآن الكريم، والتَّربيَة النَّبويَّة. قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120] .


: الأوسمة



التالي
الاتحاد ينعي الشيخ الأديب والمؤرخ محمد سعيد الطنطاوي رحمه الله
السابق
الحرية والحيوية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع