البحث

التفاصيل

جحا والحبل

جحا والحبل

د. ليلى محمد بلخير (عضو الاتحاد)

 

يتميز حاضرنا بكثرة وسائل التثفيف، وتنوع مصادر تحصيل المعرفة، إلا أن المواد المقدمة يشوبها الزيف والتضليل والمراوغة، لخدمة أهداف مبطنة، لا يمكن مواجهتها بسهولة، لتسير المنظومة الاجتماعية في حالة من الميوعة أو التشدد، ويسيطر الخداع والتضليل والغش فيهما معا،  ليضربا بمعاول الهدم والفساد في حياتنا على غفلة منا، يفرغ فينا التضليل وينشر ممارساته المغلوطة في قالب من الدين والخلُق الرفيع، وصورة من التحضر والانفتاح، ويضرب بلا هوادة، يقنعك أنه الأفضل، وهذا هو المسلك الأخطر في التوجه المتعمد لخلق معنى زائف وإشاعة فكرة مغشوشة.

إنه وعي مائع غير واضح الملامح من الصعوبة حمله إلى أي جهة: هل تصدقه، أم تكذبه؟ الأمر خطير وأخطر من الحبوب المهلوسة، وكل الأشكال المخدرة.

التضليل هو أداة السيطرة والتأثير بآليات التمويه والتلاعب بالمشاعر،، هو نوع من أنواع الغش الثقافي والخدر الفكري المعلب في حالة من الرواج على نطاق واسع في الكتاب وفي المسلسل وفي الإشهار والبرامج السياسية وحتى الدينية ووو... وفي الحياة العريضة.

إنه فن الدجل المعاصر أو ثقافة (التبلعيط)، يهزمك، ويطْبق سيطرته على أفكارك ببراعة؛ لأن التضليل يتجسد في حسن إخفاء كل ما يدل عليه؛ لأن كشفك له معناه أنك تخلصت منه.

قال الله تعالى ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ التوبة 56–57 هي وإشارة قرآنية قوية للمنافقين، وهم يمارسون التضليل، لدرجة أنهم يقسمون بالله أنهم في زمرة المؤمنين وجماعته زيفا وباطلا، وهم أبعد ما يكون ، جبناء لا عهد لهم ولا ميثاق، يخافون المواجهة لكذبهم وتضليلهم، ولا حصن لهم، ولا مأمن من الله.

 وتحضرني في هذا المقام قصة جحا كيف استغل سذاجة الآخرين وأقنعهم بعكس الحقيقة، وشيد لهم من الوهم قصورا فسكنوها، قصة طريفة جدا أوردها مالك بن نبي في كتابه ميلاد مجتمع ص 94؛ كان جحا على اتفاق مع أصدقائه على أن يخرج كل يوم واحد للاحتطاب، وعندما جاء دوره لم يضرب فأسه في أي شجرة  طبعا من العجز والكسل، بل قام بلف الحبل على الأشجار، وصرخ بقوة في وجه أصدقائه المستخفين به "لقد تأخرت عنكم بالحطب لأني وجدت الحبل يسعفنا جميعا، سأقتلع جميع الأشجار مرة واحدة" وفي بلاهة يضحكون من هكذا موقف -استعراضي وبليد- ووفي ثقة منهم يترجوه ألا يفعل، ويترك الغابة كما هي، بينما يؤدون هم بدلا عنه عمله، وواجبه تجاه الجماعة، وبكل فرح يعبر عن سذاجة الموقف، كما يمكن القول أنه موقف حالم يرد على متواكل لا يرجو منه صلاحا، ولكن في كلا الموقفين لا بد من ردع هذا الزاعم للذكاء في غير موضعه، يعيش بخداعه على حساب الآخرين ظنا منه أنهم سُذّج لا يفقهون تبلعيطه.

إن اللغة زينت لجحا القدرة على استغلال جهد جماعته، وجعلهم ضحايا الوهم الذي صنعه لهم، وارتضوه لأنفسهم. هذا ما نسميه في لهجتنا العامية ( الجزائرية ) بالتبلعيط، وهو صنعة من لا يملك إقناع الآخرين بإنجاز حقيقي، فيعمد إلى التضليل لنشر ما هو زائف؛ أي نشر ثقافة الخمول والاستخفاف بالآخرين، على رأي المثل الشعبي: (دير روحك مهبول تشبع كسور..)، ومعناه الذي يتفنن في   تمثيل البلاهة والبلادة يتعاطف معه الناس فيعيش رغدا سعيدا . ولله في خلقه شؤون.

____________________________________

*هذا المقال ضمن سلسلة مقالات بعنوان: "القرآن والحياة".


: الأوسمة



التالي
الرزق في كتاب الله (2)
السابق
منهج الإسلام في علاج الأمراض العادية والمعدة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع