البحث

التفاصيل

الوحي وأسباب النزول

الوحي وأسباب النزول

بقلم: ياسين أقطاي

من المعلومِ أنّ القرآنَ الكريم لم يُنزَّلْ على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلَّمَ دُفْعَةً واحدة، وإنّما نُزِّلَ مُنَجَّمًا في ثلاثةٍ وعشرين عامًا، وهذه المدّةُ من حياة نبيّنا صلّى الله عليه وسلَّمَ كانَت مُتْرَعةً بصراعٍ وجهادٍ شاقٍّ وطويل بشأن العقيدةِ والإيمان.

ورغم أنّ جوهر هذا الصِّراع يدور حول كتاب الله تعالى؛ فإنّ القرآن الكريم -في الوقت نفسِه- كان نصًّا حواريًّا مُعايِشًا جميعَ تجارِب المجتمع الجديد الذي يَتِمُّ بناؤُه، ويكادُ يكون مُتشابِكًا مع جميعِ ما كانُوا يشعرون به؛ فضلا عمّا كان يقعُ لهم من أحداث.

كان صِراعًا مليئا بالمَتاعب والمشكلات؛ ففي المقامِ الأوّل جاهَدَ الرسول (ص) لتلخيص الإنسان من ظلامِ العبوديّة لغيره من البشر، وجاهَد لنقْلِ مجتمعٍ (ما أُنْذِرَ آباؤُهم) من الظُّلُماتِ إلى النُّور؛ إذ كانوا يعيشون في جاهليّة جَهلاء بعيدين عن الغرض الذي خُلِقُوا لأجلِه.

بدأ نبيُّنا نضالَ الإيمان والعقيدة بجماعةٍ صغيرةٍ من المؤمنين؛ فتعرَّض وإيّاهم لحَمَلات التّكذيب والتّعذيب والتَّحقير والعِناد، وكان القرآن الكريم يُبَيِّنُ لهم أنّ هذه المسيرة التي يعيشها الرّسولُ وصحابته إنّما هي استمرارٌ لِما عاشَه الأنبياءُ السّابقون وأصحابهم المؤمنون.

وهكذا؛ فإنّ التّجارِب والحوادث التي جرت معهم طوال تلك المدّة -في مكّة وبعدها في المدينة- عايَشَها الوحيُ؛ ورسَّخ عند المؤمنين هُوِيّتَهم المطابقة لهُويّة المؤمنين الذين وقفوا مع الأنبياء عبر التّاريخ الإنسانيّ.

والقرآنُ الكريم كان يخاطبُ المشركين الذين كانوا واثقين جدّا -أو مُغترِّين- بقوّتهم وعقولِهم وفنونِهم، فيذكّرهم بالأمم التي سبقتهم عبر التاريخ وكانت أقوى منهم وأعتى وأكثر جبروتًا؛ لكنّهم لمّا فسقوا وكفروا وظلَمُوا أتاهمُ العذابُ من حيثُ لا يشعرون، وكان مصيرهم الإهلاك.

والقصص في القرآن الكريم تحكي وتصف أفعال كُلٍّ من الكافرين والمؤمنين عبر التّاريخ، وعندما نقرأ هذه القصص نشعر وكأنّها تحكي عمّا يحدث في زماننا؛ إذ هي ليست محدّدة بزمانها فقط، ونرى ردود أفعال الكافرين المذكورة في القرآن الكريم تتكرّر ذاتُها في زماننا. فقد كان المشركون يرفضون الهداية والإيمان؛ قائلين: ما علاقتنا نحن بهذا؟ هذا أساطير الأولين! {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۙ قَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ} (سورة النحل/الآية: 24) ولننتبهْ جيّدًا إلى ردّة الفعل هذه لأنّها مهمة للغاية، وسنبني عليها كلامَنا الآتي.

ووصف القرآن الكريم الأصنامَ التي كان المشركون يعبدونها، وبيَّنَ لهم أنّ هذه الأصنام -التي يشركونها مع الله سبحانه في العبادة- لا تملك لهم -ولا حتّى لنفسها- نَفْعًا ولا ضَرًّا. وبينّ لهم أنّها ليست سوى أحجارٍ سمَّوْها هم وآباؤهم ووضعوها حول الكعبة، وجعلوها جزءا من ثقافتهم واعتقادهم.

ردّةُ الفعل هذه -أي قولُهم: {أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ} ورفْضُ الإيمانِ والعقيدةِ الصّحيحة؛ بذريعة أنّها ليست جزءا من ثقافتهم الموروثة- ردّةُ فِعْلٍ تكرّرَت وتتكرّرُ كثيرا عبر التاريخ. فكما فعَلَ المشركون زمنَ نبيّنا (ص)؛ نرى العالَم الغربيّ اليوم يَعُدُّ تاريخ الشّعوب غير الغربيّة بلا قيمةٍ أو غير مهمّ، ويصف الشّعوبَ غيرَ الغربيّة بأنّها "شعوب بلا تاريخ"، والدّافعُ وراءَ هذا التّوصيف "أيديولوجيا" ترى نفسَها مُستنيرةً للغاية.

وكانت آياتُ القرآن الكريم مُنسجمةً ومتجاوبةً مع حوادثَ عاشها المسلمون مُدّةَ تنزيلِ القرآن، ومن هنا تكوّن علمُ "أسباب النزول". ومعلومٌ أنّ "أسباب النزول" مجالٌ مهمّ من المجالات المتعلِّقة بعلم التّفسير، ولكنْ أدّتْ معرفةُ قصص النزول المتعلّقة ببعض الآيات إلى اعتقادٍ عام بأنّ جميع آيات القرآن نزلَت إثر سببٍ معيَّنٍ؛ بمعنى أنّ لكلِّ آيةٍ سببَ نزولٍ معيَّنًا.

وهذا القَبولُ بأنّ لكلٍّ آية قرآنية سببًا أو قصّة في نزولِها، وكثرةُ الرّوايات في أسباب النّزول، يُشكِّلان رافِدًا يُغذّي معظمَ ادّعاءات أصحابِ ما يُسمّونه "الفهم التاريخي للقرآن"؛ إذ يُلغون بعضَ الأحكام الواردة في النّصوص القرآنيّة بدعوى أنّها نُزِّلت لأُناسٍ كانُوا يعيشون في الماضي، أو أنّها خاصّة بالحياة الاجتماعية للعرب الذين عاشُوا في تلك الحقبة.

ويُبقي هؤلاء "التاريخيون" على أشياء أُخرى من القرآن الكريم يُسمّونها "فوق تاريخية"؛ مثل برّ الوالدين، وإطعام الفقراء، ومنع القَتْل ظُلْمًا… إلخ. حتّى بلغَ الأمر ببعضِهم أنْ قالوا: القرآنُ كلامٌ من السماء ومن الأرض أيضا؛ يعنون أنّ القرآنَ نزل بسبب أفعال تاريخيّة حصلت في زمان ومكان غير زماننا وغير مكاننا.

ويُفهَم من وجهة نظر هؤلاء أنّ ثمّة علاقة جدليّة بين وحي الله تعالى وبين واقع حياة الناس في وقت نزول القرآن الكريم. ولهذا السبب يزعمون أنّ القرآن الكريم لا يُخاطبنا نحن بل يُخاطب الأناسَ الذين نزل في زمانهم وفي أرضهم، فيرون أنّ ما يلزَمُنا من القرآن الكريم هو بعض التوجيهات الأخلاقية فقط، ويعطّلون الأحكام الفقهية في كتاب الله تعالى.

ولكن؛ هناك مشكلة متعلّقة بعلم "أسباب النزول"، وهي أنّه ليست كلُّ آيةٍ من القرآن يُعرفُ لها سببُ نزولٍ، وحتّى لو عرفنا زمنَ نزولها فإنّه لا يمكن لنا أن نعلم أسبابَ نزولها جميعا. وفي الحقيقة؛ إنّ الآيات الكريمة التي تُعلَمُ قصّةُ سبب نزولها هي آياتٌ قليلة جدا.

إنّ الكتابَ الذي بين أيدينا هو حقيقةً كلامُ الله تعالى وأحكامُه التي نُزِّلت على الرسول صلى الله عليه وسلم طوال ثلاثة وعشرين عاما، وتجاوبت مع الأحداث التي عاشَها الرسول والذين آمنوا به، والمشركون الذي عاندوه وحاربوه أيضا.

وفي الأصل؛ إنّ هذا الفكر -أقصد ضرورة ربط نزول الآية بسببٍ ما- يُحْوِجُنا إلى أن نراجع تَصَوُّرَ الإمام الغزاليّ لمفهومَ النسبية واعتراضاتِه عليه. ووفقًا لهذا الرأي (رأي الإمام الغزّالي)؛ فإنّه ليس من الضروري التفكيرُ في أن ننسب كلَّ آية إلى سبب نزولٍ مّا، لأنّ هذا التفكير سيقودُنا إلى مشكلات خطيرة، وقد أشارَ الأئمة المفسِّرون إلى ذلك.

إنّ تقدير الله تعالى تنزيلَ هذا الكتاب أو الآيات في غضون ثلاثة وعشرين عامًا هو نعمة ولطفٌ إلهيّ؛ ليُتيح للناس أن يفهموه بشكل أفضل ضمن حدود قُدراتهم البشرية. ولكنْ تفكير هؤلاء بأنّ اللهَ سبحانه -الذي خلق الأسباب والعواقب، ويعرف ما كان وما يكون وما سيكون- مُحتاجٌ إلى سببٍ لكي ينزّل آياتِه ليس سبيلا لمعرفة الله تعالى.

لا ريبَ في أنّ معرفة السياق التاريخي والاجتماعي الذي نزلت فيه الآيات ذو قيمة في فهْم المعنى؛ فإنّه عندما تُفهم تلك الأحداث وسياقها جيدًا فإن اللغة التي يتحدث بها الوحي تُفهم أيضًا بشكل أفضل، بحيث يتم الاقتراب أكثر من مقصدها.

إنّ كل المعارف والعلوم التي تنبتُ على ضفاف النص القرآني -من معارف لغوية وتاريخية ونحوية- ذات قيمة بلا شك، ولكنّ المشكلة هي أن نجعل الوحي تابعًا للبيئة والأحداث التي نزلَ فيها، وأن يتمّ تفسيره وفقا لهذا الفهم. وإذا فكّرنا كهؤلاء -وحاشا لله- فمعناه أن كلام الله تعالى جاء عبارةً عن ردود أفعال وأجوبة لأيّ إنسان يسألُ أيَّ سؤال، وهذا يعني أنّه لو لم توجَد تلك الأحداث أو المشكلات والأسئلة لَما كان الوحي.

وفي هذه الحالة، أي لو أنّه حدثت في زمن الرسول أحداثٌ أخرى مختلفة؛ لَكانَ نصُّ القرآن الكريم الذي لدينا له محتوى مختلف تمامًا تبعًا لتلك الأحداث، وهذا يؤدّي إلى القول: إنّ هذا الكتاب جاءَ صدفة بحسب أحداث تلك الحقبة الزمنية التي عاشوها، وبالتالي فإن هذا الكلام ينفي عن نزول الآياتِ والسّور أنّها تقديرٌ من الله، وينفي عن كلام الله تعالى -الذي نقرؤه- صفةَ الأزليّة.

وهذا التفكير ليس سبيلا لمعرفة الله تعالى؛ ويُؤدّي إلى فسادٍ في العقيدة لأنّه سبحانه ليس مرتبِطًا بأيّ سبب. بل بالعكس؛ هو -جلّ جلالُه- الأوّلُ والآخِرُ، وهو مُسبِّبُ الأسباب كلِّها.

وفي المقابل؛ تجدر الإشارة إلى أنّ هناك العديدَ من الروايات تُفيد بأنّ الكثير من الآيات والسُّور نزلت بتقديرٍ إلهيٍّ، دون ارتباطها بحادثة معيَّنة أو سبب مباشرٍ، بمعنى أنّ الوحي لم ينزل دائما ردًّا على سؤال، أو إثر حادثة معيّنة، بل بالعكس غالبا ما تنزّل الوحي بتقدير إلهيّ غيرَ مرتبط بمكان أو زمان أو حادثة بعينها.

والاعتقادُ السّليم للمؤمن هو أنّ الوحي الإلهي -كُلًّا متكاملًا ومتضمِّنا الحوادث التي تبدو كأنّها سببٌ للنزول- كان نازلًا لا محالة بتقدير الله تعالى، وهذا هو الاعتقاد والتفكير الأَصَحُّ والأسلَم للمؤمن. وهذا الفِكر يجب أن يقودَنا إلى أن الله تعالى من لطفِه وكرمِه أنّه يرسل وحيَه مع الحوادث التي تبدو كأنّها سببٌ للنّزول؛ ليسهِّلَ على عبادِه المؤمنين فَهْمَ الوحي.

إنّ هذا الوحي نزّله الخالق منسجمًا مع حوادثَ قدَّر اللهُ سبحانه أن يعيشها المخلوق، فبعضُ الآياتِ تتحدّث عن مواقفَ خاصّة؛ ولكنّ هذا الخطاب يحتوي على عبرةٍ وتوجيهٍ للناس جميعا، والعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ونتيجةً لجميع الأحداث التي استجابَ لها الوحيُ؛ فإنّ هذه الآيات اليوم تُواصِلُ إخبارَنا بأكثرِ الطرق حيويةً وفعاليةً في الاستجابة لواقعِنا، دون الحاجة إلى النظر في سبب نزولها.

المصدر: الجزيرة

 


: الأوسمة



التالي
العلماء وتقلبات النفوس
السابق
تفجير لبنان وعودة الاحتلال

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع