الريسوني للجزيرة نت: كان أمام حكام الإمارات والبحرين خيارات كثيرة تغنيهم عن الارتماء في أحضان إسرائيل
قال رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين د. أحمد الريسوني إن التطبيع مع إسرائيل "خيانة ولا مبرر له". واعتبر أن الاتفاقات التي وقعتها الإمارات والبحرين الأيام الأخيرة مع تل أبيب "تخدم مصلحة الاحتلال وتدعم جرائمه ضد الشعب الفلسطيني".
وأضاف الريسوني في حوار مع الجزيرة نت بالعاصمة القطرية الدوحة "إن كانت هناك من فائدة ترجى من المبادلات والاتفاقات والعلاقات فهي ترجى من دول أخرى غير دولة الاحتلال والاغتصاب والإجرام التي تشرد الفلسطينيين وتقتلهم وتصادر أملاكهم ومنازلهم، وترتكب في حقهم أفظع الجرائم منذ ما يزيد عن 70 عاما".
وتابع "سمعت بعض من يشايعهم يتساءل: ومتى كانت دولة اسمها فلسطين؟ أو يتساءلون: ومتى كانت القدس عاصمة؟ وأنا أقول لهم: متى كانت لدينا دولة اسمها الإمارات؟ ومتى كانت لدينا دولة اسمها إسرائيل عاصمتها تل أبيب؟ ومعظم دول المنطقة أصلا لم تكن موجودة إلا في العصر الحديث".
وفي ما يلي نص الحوار:
في مقال لكم منذ أيام وصفتم حكام الإمارات والبحرين الذين أعلنوا تطبيع العلاقات مع إسرائيل بأنهم "انقلبوا على ملتهم، وانشقُّوا عن أمتهم، ونقضوا ما بذمتهم" وقلتم إنهم "أثبتوا بسلوكهم هذا أنهم لا يصلحون لا للأمة ولا للملة ولا للذمة" أليست هذه أحكاما قاسية في حق مسؤولين سياسيين اجتهدوا في ما يرون أنها مصلحة لبلدانهم؟
بسم الله والحمد لله، طبعا هؤلاء الحكام أولا في اعتقادي لم يجتهدوا في شيء وليسوا من أهل الاجتهاد ولا قبل لهم به. هؤلاء قيل لهم افعلوا ففعلوا. طبعا قيل لهم افعلوا على مدى فترات من الزمن، وإسرائيل وأميركا تروضانهم وتوجهانهم وتلقنانهم منذ زمان، وفي النهاية تبلور هذا المشروع الذي انقلبوا فيه كما قلت على أمتهم وملتهم وذمتهم.
هذا لا يسمى اجتهادا، هذا في جميع أطوار التاريخ وعند جميع الأمم يسمى خيانة وخذلانا، لأنهم ليسوا لا مضطرين ولا محتاجين ولا اجتهدوا فعلا. كيف يكون الاجتهاد في هذا الأمر؟ هؤلاء فكروا لأنفسهم واجتهدوا بطريقة سافلة لحماية عروشهم وكراسيهم ومصالحهم، فوجدوا أن أحسن الطرق وأكثرها أمنا بالنسبة إليهم هي أن يكونوا في حماية إسرائيل وحماها.
هم لا يثقون لا بأشقائهم ولا بشعوبهم ولا حتى بأجهزتهم. هؤلاء كلهم الآن حراسهم وجواسيسهم ورقباؤهم على الساحة الوطنية والدولية هي المخابرات الإسرائيلية والأميركية.
اختاروا هذه الطريقة الدنيئة لحماية أنفسهم، وكان بإمكانهم ما لا يعد ولا يحصى من الطرق والأساليب ليكونوا أقوياء ومطمئنين وراسخين في أماكنهم. وقديما قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه "عدلت فأمنت فنمت". الحاكم يحصن نفسه بالعدل وبالمواقف القوية المنحازة لشعبه وأمته، ويحصن نفسه بشعبيته.
أنتم تقولون إنهم يحمون مصالحهم وكراسيهم، لكنهم يقولون إنهم يحفظون مصالح أوطانهم وشعوبهم، وانظر مثلا إلى الإمارات الآن، هناك اتفاقات كثيرة وقعت بين عدة بنوك إماراتية وأخرى إسرائيلية، واتفاقات أخرى بين شركات ومؤسسات اقتصادية مختلفة، ومن شأن هذه الاتفاقات أن تعود بالخير والازدهار الاقتصادي على الإمارات وشعبها كما يقول من وقعوها. هم يرون أن إسرائيل دولة جارة لهم، ولا داعي لأن يذهبوا إلى دول أخرى أبعد بكثير؟
العالم فيه ما يقرب من 200 دولة ولا أحد سيعترض عليهم إذا عقدوا الاتفاقيات مع 50 أو 100 من هذه الدول، من جيرانهم وإخوانهم إلى دول أخرى مثل الصين والهند واليابان وكوريا، وهناك دول في أميركا الجنوبية وأخرى في أميركا الشمالية، ودول في شمال الأرض وجنوبها ولا شيء يمنعهم من الاتفاق معها.
هذه الاتفاقات ليس الغرض منها المبادلات الاقتصادية، فهذه المبادلات لصالح إسرائيل، وإن كانت هناك من فائدة ترجى من المبادلات والاتفاقات والعلاقات فهي ترجى من دول أخرى غير دولة الاحتلال والاغتصاب والإجرام التي تشرد الفلسطينيين وتقتلهم وتصادر أملاكهم ومنازلهم وترتكب في حقهم أفظع الجرائم منذ ما يزيد عن 70 عاما.
ألم يجدوا غير هذه العصابة الإجرامية التي تقتل الفلسطينيين وتحتل أرضهم ومسجدهم ومسجد الأمة الإسلامية المقدس (المسجد الأقصى) ليحققوا معها المكاسب الاقتصادية؟ هذه المكاسب الاقتصادية المزعومة أكذوبة، وهم في غنى عنها، وأمامهم بدائل لا تعد ولا تحصى.
لماذا تعتبرون أن قضية التطبيع يحكمها الشرع؟ أليس محلها الاجتهاد السياسي الذي يجب أن ينظر إليه بمنظار الخطأ والصواب بدل الحلال والحرام أو الحق والباطل؟
الاجتهاد السياسي والفقهي له مجالات واسعة، ونحن لا نتحدث في ذلك، بل نتحدث عن خرق ونقض لقضايا وأحكام قطعية في الإسلام وحتى في شرائع وأعراف الأمم ذات السيادة. نحن لا نحاسبهم كما لو كانوا يجتهدون في التعامل مع إيران أو مع تركيا أو فيما بينهم، أو أن يتوحدوا بهذا الشكل أو ذاك، أو أن يجتهدوا في قضايا البنوك وأحكام البيوع وتنظيم الجمارك وما إلى ذلك.
نحن نتحدث عن كيان صهيوني كل الناس يعرفون ماذا فعل: اغتصب فلسطين والمسجد الأقصى، وشرد ونفى ملايين الفلسطينيين ومنهم من هم مشردون في وطنهم بمخيمات في غير مدنهم وبلداتهم. وكم ارتكب من مجازر وكم قتل في الحروب والاغتيالات، وكم صادر من المنازل والأراضي والمزارع.
بل صادر حتى المياه، وحتى بعض ما يدعي أنه يوفره للفلسطينيين من حقوق أكذوبة، فالفلسطينيون يعيشون العنصرية كل يوم في ظل هذا الاحتلال، ويعانون من التهميش والتقتيل، وهذه الجرائم لا يمكن أن تكون محل اجتهاد.
هؤلاء الذين طبعوا مع إسرائيل أيدوا كل هذه الجرائم ومنحوا مرتكبيها شرعية وصاروا يتعاونون معهم، وليس في الدنيا قانون يقر الإفلات من العقاب ولو كان يتعلق بقتل شخص واحد. لا يمكن لقانون أو فقيه من فقهاء المسلمين أن يقول إن الإفلات من العقاب ممكن.
وهذه العصابة الإسرائيلية لم تقتل شخصا واحدا فقط، بل قتلت الملايين وقتلت شعبا واغتالت وطنا، واستولت على الأموال بغير حق، ثم يأتي هؤلاء الخونة فيعترفون بما يعتبرونه حقوق هذه العصابة.
وقد سمعت بعض من يشايعهم يتساءل: ومتى كانت دولة اسمها فلسطين؟، أو يتساءلون: ومتى كانت القدس عاصمة؟ وأنا أقول لهم: متى كانت لدينا دولة اسمها الإمارات؟ ومتى كانت لدينا دولة اسمها إسرائيل عاصمتها تل أبيب؟ ومعظم دول المنطقة أصلا لم تكن موجودة إلا في العصر الحديث.
هؤلاء طبعوا مع هذا الكيان وأصبحوا أصدقاء وحلفاء له منذ مدة وليس الآن فقط، فقد رأيناهم يتشفون حينما تهاجم إسرائيل غزة، وحينما تغتال بعض الفلسطينيين. ومثل هذه القضايا لا يمكن أن تكون محل اجتهاد، وإذا أصبح هذا محل اجتهاد فلم يبق في هذه الدنيا لا مبدأ ولا دين ولا خلق.
هؤلاء الحكام ومن يناصرونهم يرون أن هذه القضية تحكمها موازين القوى وقوانين العلاقات الدولية وحسابات المصالح والمكاسب السياسية، ويقولون إنه لا فرق بين إقامة علاقات مع أميركا أو فرنسا أو بريطانيا، وهي نفسها دول قتلت كثيرا من المسلمين، وبين إقامتها مع إسرائيل وهي دولة عضو بالأمم المتحدة. فكيف تحاكمونهم بميزان الشريعة الإسلامية وهم يقدرون هذا بميزان السياسة؟
بالنسبة لموازين القوى، لو قالوا هذا عن أميركا وبريطانيا لربما كان معقولا إلى حد ما، هل إسرائيل فرضت عليهم التطبيع؟ هل احتلتهم وأملت عليهم؟ هل تهددهم في وجودهم؟ الجواب بالتأكيد "لا". أميركا نعم لها تأثير كبير، وبريطانيا كان لها الفضل في إيجاد هؤلاء وإعطائهم هذه المماليك والإمارات، لكن إسرائيل لا ينطبق عليها ذلك، نعم هي تهدد الفلسطينيين واللبنانيين ومن قبل الأردنيين والمصريين، وما سوى هؤلاء لا تستطيع أن تصل إليهم الآن وليس في قدرتها ذلك.
قضية موازين القوى هنا غير واردة وهي مجرد ادعاء، أما القول إن العلاقة مع إسرائيل مثل العلاقة مع أميركا وبريطانيا فغير سليم، فليست هذه الدول هي التي تحتل وطنا عربيا إسلاميا، وليست هي التي تحتل المسجد الأقصى ثالث المساجد الثلاثة قداسة ومكانة وحرمة عند المسلمين. وهذه الدول ليست هي التي تقتل الفلسطينيين يوميا وتصادر مزارعهم وتهدم بيوتهم، هناك فوارق.
طبعا لو كان المسلمون بهم قوة لفرضوا أيضا إرادتهم على أميركا ولحملوها على أن تعدل من مواقفها، ولفرضوا ذلك أيضا على غيرها من الدول التي تؤيد إسرائيل. والآن لم يبق مؤيد لإسرائيل بشكل مطلق إلا أميركا، وربما بعد أسابيع قليلة قد يتغير هذا أيضا.
وماذا لو قالوا إن الولايات المتحدة نفسها هي التي فرضت عليهم تطبيع علاقاتهم مع إسرائيل؟ فهي التي أشرفت على الاتفاقين اللذين وقعتهما أبو ظبي والمنامة مع تل أبيب، أليسوا إذن في حكم المضطر الذي لا حيلة له؟
هناك دول مماثلة أو شبيهة من حيث الحجم والقدرات في المنطقة نفسها، لم تفعل هذا وتعلن أنها لن تفعل. لماذا لم ترغم الولايات المتحدة الكويت على التطبيع؟ وقد حاول ترامب وذكرها بالاسم، وكان يريدها أن تكون ضمن هذا المشروع، وقطر أيضا دولة صغيرة فلماذا لم تفعل هذا؟ وقد أعلنت بشكل صريح أنها لن تفعل، وعلق مسؤول أميركي على ذلك بالقول إنهم يتفهمون موقف قطر.
هناك دول مماثلة أو شبيهة من حيث الحجم والقدرات في المنطقة نفسها، لم تفعل هذا وتعلن أنها لن تفعل. لماذا لم ترغم الولايات المتحدة الكويت على التطبيع؟ وقد حاول ترامب وذكرها بالاسم، وكان يريدها أن تكون ضمن هذا المشروع، وقطر أيضا دولة صغيرة فلماذا لم تفعل هذا؟ وقد أعلنت بشكل صريح أنها لن تفعل، وعلق مسؤول أميركي على ذلك بالقول إنهم يتفهمون موقف قطر.
هم يتفهمون فعلا الدول التي تحتفظ بكرامتها وعزتها واستقلاليتها، ومعظم الدول العربية الآن إما تعلن أو تمارس عمليا أنها غير معنية بهذا التطبيع ولا أحد يلزمها به، والمغرب مثلا عنده قضية وطنية عويصة يتم الضغط عليه بها، وهي قضية الصحراء، ويقايضونه في تأييدهم له في صحرائه بأن يطبع مع إسرائيل، ومع ذلك لم يطبع.
والجزائر كذلك أعلن رئيسها قبل يومين موقفا تاريخيا ومجيدا بالنظر إلى السياق الذي يأتي فيه، حيث قال إن بلاده لن تشارك ولن تبارك حملة التطبيع هذه، واعتبر أن القضية الفلسطينية أم القضايا للشعب الجزائري، وهناك أيضا سلطنة عمان، وهذا اختيار لهذه الدول ولم يجبرها أحد على تغييره.
وأنا ذكرت في المقال الذي أشرتم إليه في سؤالكم الأول أن الإمارات منذ 2010 ظهر -وأقول ظهر وليس بدأ- تحالفها مع إسرائيل وانحيازها لها، وأصبحت تتعامل مع الفلسطينيين كأعداء، ومع الإسرائيليين كإخوة وحلفاء.
لم يكرههم أحد، هذا اختيار اختاروه ولو اختاروا غيره لما استطاعت أميركا أن تفعل لهم شيئا، لأنه كما توجد في العالم أميركا توجد الصين وتوجد روسيا وتوجد إيران وتوجد تركيا، وهذه الموازنات يعرفها جميع السياسيين، وهؤلاء المطبعون اختاروا أن يكونوا في أحضان إسرائيل.
لكن هناك علماء ودعاة أيضا يناصرون هؤلاء الحكام وغيرهم من الداعين إلى التطبيع مع إسرائيل، ولهم أيضا حجج ونصوص شرعية يستندون إليها لتبرير هذه العلاقة، ويرون أنها تدْخل في إطار السياسة الشرعية المتروكة لاجتهاد الحاكم وتقديره، فيستشهدون مثلا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رهن درعه ليهودي، وأكل طعام اليهود وباع لهم واشترى منهم، وكان له معهم حلف سياسي.
العرب واليهود المتحدث عنهم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا محتلين لأرض ولا لدولة، وإنما كانت هناك علاقات تتراوح بين أن يلتزموا بمبادئها وأعرافها أو ينقضوها ويخالفوها. بنو قريظة لا أحد يقول إنهم احتلوا الأرض التي كانوا فيها، ولا خيبر.
هؤلاء كانوا هناك من قديم الزمان ولم ينازعهم أحد لولا ما دخلوا فيه من مؤامرات وتحالفات مع المشركين، ومع أنفسهم ومع بعضهم من القبائل اليهودية، والمشركون كذلك لا أحد يستطيع القول إنهم كانوا يحتلون مكة، وإنما كان المطلوب منهم أن يسمحوا للمسلمين بزيارة المسجد الحرام لأنه مسجد للمؤمنين والموحدين على ملة إبراهيم عليه السلام.
فليس هناك احتلال من أي من هؤلاء لأي أرض أو وطن، ومع ذلك حينما ضيقوا أو نقضوا العهود، يهودا أو مشركين، نالوا ما نالوه، ولا مجال للمقارنة والقياس.
المدافعون عن هذا التوجه أيضا يتعللون أحيانا ببعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى في سورة الأنفال (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) وكذا بعض الآيات التي تدعو للصلح، لكن الإمارات والبحرين ليس لهما حرب مع إسرائيل أصلا.
هذا الكلام لو قاله الفلسطينيون وقدروا نوعا من التفاهم المؤقت أو غيره لكانت الأدلة في موضعها، بغض النظر عما تقتضيه وما تؤديه، لكن هؤلاء من المضحك أن يقولوا إنهم يعقدون السلام مع إسرائيل، هم في الحقيقة يدعمون إسرائيل في حربها على الفلسطينيين، فهي الآن ستزداد شراسة بأموالهم ودعمهم السياسي والمعنوي، هم لم يكونوا في حرب مع إسرائيل ولم يطلقوا يوما رصاصة ولا أرسلوا جنديا، ولا لهم جبهة مع إسرائيل، ومن ثم فالاستشهاد بمثل هذه النصوص في هذه النازلة لا معنى له ولا محل له، وهو تحريف للأدلة ووضع لها في غير مواضعها.
في السنوات الماضية كنا نشهد هبات شعبية قوية لدعم فلسطين ورفض التطبيع، ومسيرات مليونية بالعواصم العربية كلما قتلت إسرائيل أو اغتالت أو شنت حربا، أو تحرك نظام عربي باتجاه التنسيق أو إقامة علاقات معها، لكننا لم نعد نرى هذا اليوم. أليست الأمة العربية والإسلامية بواقعها الحالي المليء بالضعف والهوان تسير بخطى حثيثة نحو الركون إلى هذا التطبيع، وربما سيصبح أمرا واقعا لا مفر منه؟
مما يدعو إلى الاستهانة بهذا التطبيع أن الذين قاموا به لا قيمة لهم إلا من الناحية الرمزية، حيث يقال إن الدولة الفلانية ثم الدول العلانية طبعت علاقاتها مع إسرائيل. ما هي هذه الدول وما قيمتها؟ نعم ربما لها قيمة مالية وخاصة للإمارات، أما البحرين فليس لها قيمة من أي نوع، طبعا نتحدث هنا عن هاتين الدولتين ونقصد بذلك نظاميهما المطبعين والأجهزة الداعمة لهما.
لهذا ربما الناس مستهينون بهؤلاء المطبعين بالذات وليس بمشكل التطبيع في حد ذاته. ثم إن الأمة الإسلامية والعربية بصفة خاصة منشغلة في السنين الأخيرة بمصائب عدة، ومرت عليها 10 سنوات عجاف بسبب الثورة المضادة التي انقضت على كل الشعوب التي تحركت ضد الظلم والطغيان، وانقضت كذلك على الشعوب الأخرى التي خافوا أن تتحرك.
الآلة الجهنمية للسعودية ومصر والإمارات كلها تحركت ضد الشعوب وأحدثت فيها فتنا وحروبا داخلية، وصراعات سياسية وانقسامات، وهذا شغل الناس حقيقة، ولا ندري متى ينتهي، وأظن أن بوادر نهايته قد بدأت.
وقد تحدثت قبل أيام عن موجة الجنوح إلى التصالح والحوار في عدد من الحالات العربية، مثل ما يجري في ليبيا وكذلك في الاجتماعات الأخيرة للفصائل الفلسطينية، وفي مالي وفي تونس، وأفغانستان. وهذا كله يسير في اتجاه مداواة الجراح التي أحدثتها الأموال السعودية والإماراتية والتدخلات المصرية.
صحيح أن العالم الإسلامي والعربي انشغلا بهذه الفتن، وهذا أثر على جميع الاهتمامات الأخرى، وليس فقط على الاهتمام بقضية فلسطين، لقد أثر حتى على الإصلاحات الداخلية لبعض الدول. والناس الآن يدعون إلى أولوية السلم والوحدة وعدم الاقتتال وعدم الانقسام. لكن كل هذا الركود والتراجع عابر ولن يستمر، وإثمه على من صنعوه، والأمة ستتجاوزه وجسمها أقوى وأضخم من أن تغير وجهته هذه التصرفات.
المؤيدون لخطوات التطبيع هذه يرون أيضا أنها تحقق مصلحة شرعية طالما تاقت إليها الأمة الإسلامية وهي زيارة الأقصى المبارك والصلاة فيه، فهذه الاتفاقات مع إسرائيل ستسهل على المسلمين السفر إلى المسجد الشريف والصلاة فيه. أليس هذا شيئا إيجابيا؟
السماح بزيارة الأقصى سيكون لمحمد بن زايد وحمد بن عيسى وإخوتهما وعائلتهما، ومخابراتهما، ولن يكون لسائر المسلمين، هذا شيء قطعي. إسرائيل ستختار من ستسمح لهم بزيارة الأقصى، وسيثنون عليها وينبهرون بها ويروجون لها، كما كانت منذ سنوات تختار زيارات تطبيعية، أما زيارات شعوب العالم الإسلامي فهذه فلن تكون.
وحتى بعض الدول التي ليس بينها وبين إسرائيل تأشيرة يتم منع الزوار منها من دخول فلسطين المحتلة، وإذا دخلوا إليها تمنعهم من زيارة القدس وتضايقهم، وهذا ما تفعله على سبيل المثال مع الأتراك.
إذن هذه الزيارة وهم، وحتى لو كانت حقيقية وفتحت أبواب هذه الزيارات على مصراعيها -وهذا لن يكون- فنحن لا نحرص على شيء مندوب لمن تيسر له، ونتغاضى على ذبح فلسطين والقضية الفلسطينية، ونفرط في امتلاك القدس والسيادة عليها.
من بين المبررات التي يعتمد عليها أيضا من يدعمون هذه المبادرات التطبيعية، قولهم إن الفلسطينيين أنفسهم ينسقون مع إسرائيل تنسيقا أمنيا، ولهم معها علاقات سياسية واقتصادية، وحتى بعض حركات المقاومة مثل حركة حماس تتفاوض بشكل غير مباشر مع تل أبيب، فلماذا نقبل هذا من الفلسطينيين وننكره على غيرهم؟
هذا السؤال يمكن أن نقلبه فنقول: إذا كان الفلسطينيون مضطرين للتعامل مع إسرائيل لأنهم يوجدون فيها وتوجد هي فيهم، فما بال قوم يأتون من أطراف الجزيرة العربية ومن أطراف العالم العربي ليبحثوا عن التفاوض؟ عن أي تفاوض يبحثون؟ ومن ألزمهم به أو أرغمهم عليه؟ ومن طلبه منهم؟
الفلسطينيون لهم ظروفهم القاهرة التي تفرض عليهم التعامل مع المحتل، فبعضهم يحملون الجوازات والوثائق الإسرائيلية، والباقون لا يمكنهم التحرك إلا بإذن وموافقة السلطات الإسرائيلية، حتى أكلهم وشرابهم يدخل بإذن إسرائيل، والمساعدات والتمويلات التي تأتيهم تمر عبر البنوك الإسرائيلية.
هذا واقع اضطراري، هل نريد للفلسطينيين أن يموتوا بكل أشكال الموت؟ هذا تداخل مفروض وقائم بين إسرائيل والفلسطينيين، أما أن يأتي أحد لا علاقة له بإسرائيل ولا شيء يلزمه للتفاوض معها، ويريد أن يقيس نفسه بالفلسطينيين، فهذا لا يستقيم.
إذا تحدث الفلسطينيون عن الاضطرار فهم مضطرون، وإذا تحدثوا عن الأمر الواقع فهم يعيشون مراراته كل يوم، لكن البحرين والإمارات -أو غيرهما- لا علاقة لهما بالاضطرار ولا بالأمر الواقع، ليس لهما لا علاقة جغرافية بإسرائيل ولا حدود ولا مصالح اضطرارية تفرض عليهما علاقة معها.
هناك من يقول أيضا إن أحد مهندسي هذا المسار شخص فلسطيني يعمل مستشارا لمحمد بن زايد ويعرف فلسطين وواقعها، وهو القيادي السابق بحركة فتح محمد دحلان
طبعا، فالخونة موجودون دائما، في كل وقت وفي كل مكان، وفي الآونة الأخيرة أطلعني أحد الإخوة الليبيين على صحيفة عربية ليبية قديمة كانت تصدر أيام الاحتلال الإيطالي، وكان عنوانها الكبير يوم اعتقل الاحتلال المقاوم والشهيد عمر المختار هو "إلقاء القبض على المجرم وزعيم العصابة عمر المختار" كانوا هكذا يعتبرونه ويهللون ويهنئون ويفرحون.
على كل حال، أمثال هؤلاء موجودون في كل وقت وحين، ومع ذلك فدحلان لا أرى أن نعطيه أكبر من حجمه، هو خائن بدون شك وجاسوس وعدو لقضيته وشعبه، لكن ماذا فعل بالضبط في هذا المسار؟ لا أظنه شيئا كبيرا، الهندسة هندسة إسرائيلية وأميركية، وهذا ما أعتقده.
المصدر: الجزيرة