بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام دين الفطرة
بقلم: د. عطية عدلان
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
حقيقةٌ غاية في الروعة والجمال والجلال؛ إنّها منبع السعادة ومصدر التناغم والانسجام، إنّها حقيقة لا وجود لها إلا في الإسلام؛ لذلك نقول بلا تردد: إنّ البشرية لا نجاة ولا فلاح لها إلا بهذا الدين العظيم، عن هذه الحقيقة يحدثنا القرآن الكريم حديثا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكذلك تخبرنا عنه السنة المطهرة خبرا لا تعتريه الريب ولا تحوم حوله الشبهات أو الظنون.
إنّ الله تعالى خلق الإنسان لعبادته؛ لذلك فالإنسان فُطِرَ على معرفة الله وتوحيده وطاعته، وخلق مُهَيَّئاً لقبول الحق والالتزام به، وركبت فيه أجهزة الاستقبال التي تسهل استجابته لخطاب الله تعالى، وهو - وإن كان بحكم الابتلاء قادرا على سلوك أحد الطريقين الهدي أو الضلال - إلا أنّه إلى الهدى أَمْيَل، وعن الضلال والردى أَبْعَد، ومن هنا توافقت طبيعته مع الإسلام، وانسجمت خلقته مع عقيدته السمحة وشريعته الغراء، فالإسلام - إذاً - فطرةُ الله التي فطر الناس عليها، والناس جميعهم قبل أن يطرأ عليهم ما طرأ بتأثير المجتمعات التي نشأوا فيها فُطِروا على الإسلام والحق والخير، "فَلَو خُلُّوا ودواعي فِطَرِهم لما رَغِبُوا عَن ذَلِك وَلَا اخْتَارُوا سواهُ"([1]).
هذه الحقيقة التي استمدت من البساطة والتلقائية قدرا كبيرا من جمالها ورونقها، واستلهمت من التناغم والانسجام سبب قونها ومكنتها، هذه الحقيقة الكبيرة المنيرة الخطيرة صرح بها الكتاب العزيز في سياق غاية في الإحكام، قال الله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، والخطاب هنا موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَنْ وراءه؛ أن: أَقِمْ وجهك نحو دين الإسلام حَنِيفًا مستقيما على الحق مائلا عن الباطل؛ فهو (فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا) أي: صنعة الله التي خلق الناس عليها؛ فذلك هو الدين القيم فالزمه ولا تَحِدْ عنه.
فالدين الذي أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الناس بأن يقيموا وجوههم إليه، والذي وُصف في أول الآية بالحنيفية وفي آخرها بالاستقامة، هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، هو الخلقة التي طبع الله الخلق عليها، هو الصبغة التي أوجد الله العباد مصبوغين بها، وهو الإسلام بطبيعة الحال؛ لأنّ رسول الله صلى اله عليه وسلم لا يؤمر إلا باتباع الإسلام، والراجح أنّ "نصب الْفطْرَة على الإغراء أَي: الزم فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا"([2])، وأصل الفطرة في اللغة: الابتداء والإنشاء، أي: ابتداء الخلقة أول مرة ... يقال: فطر ناب البعير: إذا طلع أول ما نبت"([3]).
وقد ورد في السنة ما يزيد الآية وضوحا، فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ}([4])، ومعناه "أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام"([5]) أي: أنّه "يولد مفطورا على قبول الحق"([6])؛ لأنّه يولد سالماً من التشوهات التي يحدثها المجتمع؛ لذلك مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك بقوله: " كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ" وهذا مثل غاية في الدقة؛ لأنّ "البهيمة أول ما تولد تكون سليمة من الجَدْعِ والْخَرْمِ ونحو ذلك من العيوب، حتى يُحْدِثَ فيها أربابها هذه النقائص؛ كذلك الطفل يولد مفطوراً على خلقته، ولو ترك عليها لسلم من الآفات"([7]).
ومن الآيات الدالة على هذه الحقيقة أيضا قول الله تعالى في سورة الأعراف: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 172)، قال ابن كثير: "يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى فَطَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها[الرُّومِ: 30]"([8])، وسواء حملنا اللفظ على ظاهره كما فعل ابن جرير ومن بعده ابن كثير، او لجأنا إلى التأويل واعتبار المجاز كما ذهب البعض؛ فإنّ المقصود في النهاية على الحالين هو أنّ الإنسان جبل على الإسلام وطبع عليه، وهذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وربما كان الحديث القريب في معناه من هذه الآية ما رواه مسلم في صحيحه: (... وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ...) الحديث([9])، والحنفاء جمع حنيف، والحنف ميل في القدم، فالحنيف هو المائل عن الباطل إلى الحق وعن الجاهلية إلى الإسلام؛ لذلك كان إبراههيم إمام الحنفاء؛ حيث كان مائلا عن الجاهلية التي لفت الارض كلها إلى الإسلام.
وإلى جانب هذه النصوص الصريحة نصوص أخرى نسوقها للاستئناس وإن كانت تصلح للاستدلال، وهي آيات تلمس ذات المعنى بطريق غير مباشر، مثل قول الله تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة: 138)، وقد أورد الطبريّ عن السلف أقوالا تتعاضد لدعم آية الروم، فعن ابن عباس وقتادة ومجاهد وأبي العالية وابن زيد والسدي:"صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة"، يقول: دينَ الله، وعن مجاهد وابن كثير في قول الله:"صبغة الله" قال: فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها([10]).
والآية السابقة جاءت في سياق يبرز هذا المعنى بجلاء، إذ عندما ادعى اليهود والنصارى أنّ من تمسك بدينهم فقد اهتدى؛ أنزل الله قوله: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة: 135)، ثم دعا الناس إلى الدخول في الإسلام الذي هو دين كل الأنبياء قبل أن يحرفه اليهود والنصارى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 136)، ثمّ بين أنّ هذا الدين هو الصبغة التي فطر الله الخلق عليها: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة: 138)، قال الطبريّ: "فقال الله تعالى ذكره -إذ قالوا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين به:"كونوا هودًا أو نَصَارَى تَهتدوا"-: قل لهم يا محمد: أيها اليهود والنصارى، بل اتبعوا ملة إبراهيمَ، صبغة الله التي هي أحسن الصِّبَغ، فإنها هي الحنيفية المسلمة، ودعوا الشركَ بالله، والضلالَ عن محجَّة هُداه"([11]).
ومن هذه الآيات كذلك قول الله تعالى: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) (النساء: 119)، روى ابن جرير عن عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى:(فليغيرن خلق الله)، قال: دين الله، وهو قول الله: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [سورة الروم: 30]، يقول: لدين الله. وهو قول: مجاهد وعكرمة وعبد الله بن زيد وقتادة والسدي وإبراهيم وغيرهم"([12]).
هذه الحقيقة الراسية لها آثار واسعة وممتدة، فمن آثارها أنّ الداعية إلى الإسلام معه قوة داعمة وطاقة دافعة، فإذا كان الداعون المبشرون بغير هذا الدين يملكون من الوسائل الملتوية والأساليب القذرة ما يستطيعون به استمالة الناس طوعا وكرها والتأثير عليهم بالرغبة والرهبة؛ فإنّ الدعاة إلى الله يملكون قوة ذاتية غرسها الله تعالى في خلقه، قوة ربانية تجذب المخلوق إلى خالقه وتشد العبد إلى ربه وتحرك النفس الإنسانية نحو باريها، فما على الداعية إلا أن يخطو باتجاه الإنسان الذي ينتظر منه غطة الكلمات الحانية، الكلمات الصادرة من صدر مترع بالعاطفة الجميلة تجاه خلق الله.
ومن آثارها هذه الحقيقة أنّها تصير معيارا لقياس ما يصلح الإنسان وما يفسده مما يستجد في كل ما يتعلق بالنشاط البشريّ والحيوي، فما توافق منه مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها فهو في مصلحة الإنسان، وما تنافر مع الفطرة فليس من مصلحته بل هو من المضار والمفاسد، كنكاح المثلين وتغيير الجنس من ذكر إلى أنثى والعكس، وغير ذلك مما يضاد الفطرة التي فطر الله الخلق عليها.
ومنها أنّ الانسجام التام بين طبيعة الإنسان وشريعة الإسلام سببه موافقة الإسلام للفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ وهذا الانسجام التام أحد أسباب يسر الشريعة الإسلامية.
ومنها أنّ الفطرة التي هي دين الله تعالى منبع كثير من المقاصد المتعلقة بحقوق الإنسان، كمقصد الحرية، وهو ما ذكره واستطرد في سرده والتدليل عليه الطاهر بن عاشور في كتابه عن مقاصد الشريعة الإسلامية، فالحرية من الفطرة؛ فهي إذن مقصد من مقاصد هذه الشريعة الغراء وهذا الدين العظيم.
إلى غير ذلك من الآثار التي تضاف إلى مميزات هذا الدين وخصائص هذه الشريعة.
([1]) مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 87)
([2]) تفسير السمعاني (4/ 209)
([3]) شرح السنة للبغوي (1/ 157) - تأويل مختلف الحديث (ص: 200)
([4]) متفق عليه: صحيح البخاري (1359) صحيح مسلم (2658)
([5]) شرح النووي على مسلم (16/ 208)
([6]) جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (2/ 39)
([7]) معالم السنن (4/ 327)
([8]) تفسير ابن كثير ط العلمية (3/ 451)
([9]) رواه مسلم برقم (2865)
([10]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 119)
([11]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 117)
([12]) راجع: تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/ 220)