البحث

التفاصيل

الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، أم نهاية مهمة؟

الرابط المختصر :

الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، أم نهاية مهمة؟

الحلقة الأولى

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

في 03 مارس 2024 يمر على سقوط الخلافة الإسلامية قرن من الزمان، ولم نهتم بالبحث بجدية في أسباب هذا السقوط، بقدر ما تأسفنا لنتيجة السقوط المؤسفة، والكلام عن ضرورة عودتها؛ بل لم نشغل أنفسنا بالبحث في الموضوع، حتى يتبين لنا الخلل أهو في نظام الخلافة نفسه؟ أم هو في ممارسات أولياء الأمور في الأمة؟ رغم ان ذلك ضروري، إذ لا يمكن استعادة الخلافة او حتى مجرد التفكير فيه، إلا بمعرفة أسباب سقوطها والتحكم في آليات استعادتها.

ورغم أن النقاش بدأ مبكرا في شكل الموضوع، مع صدور كتاب الإسلام وأصول الحكم في سنة 1925، وما تبعه من مناقشات وردود كثيرة على الكتاب، فإن الأمر لم يحسم بالقدر الذي يكشف لنا عن مفهوم الخلافة في حد ذاته، ومدى ملاءمة تطبيقاته على الواقع الذي نعيش، سواء بالنظر للتطبيقات التاريخية، أو بما ينبغي أن تكون عليه الخلافة اليوم وغدا؛ بل لا تزال بعض التيارات في الحركة الإسلامية متعلقة بالعنوان وبمضامينه التاريخية، من غير اعتبار للتحولات التي شهدتها الخبرة الإنسانية وتعقيداتها الكبيرة.

وانا هنا لا أريد ان أبحث الموضوع بجذوره واسباب الصعود والتزول فيه، وإنما أريد المساهمة في معالجة مصطلح الخلافة ومضمونه التنظيمي فحسب، مع التعريج على الجانب التاريخي منه. 

حول مصطلح الخلافة:

لفظ خلافة في لغة العرب، من خلف أي وراء، أخلف الرجل يده أي جعلها وراءه، واستعملت في معنى بعد، وخلفت الرجل بمعنى جئت بعده، وبهذا المعنى كان لفظ الخلافة، "واستخلف فلانا من فلان: جعله مكانه. وخلف فلان فلانا إذا كان خليفته. وخلفته إذا جئت بعده. واستخلفه: جعله خليفة. والخليفة: الذي يستخلف ممن قبله، والجمع خلائف"[1].

واستعير هذا اللفظ للتعبير عن منصب رئاسة الدولة فسمي الرئيس أو الملك خليفة، ولكن العلماء اختفلوا، فيمن يخلف هذا الخليفة؟ هل هو خليفة لله؟ أم هو خليفة لرسول الله؟ أم هو خليفة لمن استخلفه ممن كان قبله في هذا المنصب؟ ام خليفة بمعنى نائب عن الأمة التي رشحته او انتخبته؟

فالخلافة عن الله منتفية؛ لأن الله لا يحتاج إلى من يخلفه، لعلى اعتبار أن الخليفة يخلف الغائب أو الميت أو الموكل، والله سبحانه لا يغيب وهو حي لا يموت ولا يوكل الناس وإنما يكلفهم، أما خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمكن ان يكون في جانب من الحياة وهو الجانب السياسي؛ لأن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مزدوجة، مهمة نبوية دعوية، ومهمة سياسية، وليست منحصرة في واحدة منهما، قاصرة على تحقيق أغراض دينية أو دنيوية منفصلة عن بعضها البعض، وإنما هي شاملة لهما معا.
والنبوة كما هو معلوم أكبر وأعم وأهم من المواقع السياسية على اهتمامها، وكما جاء في الحديث "تكونُ النبوةُ فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ ثم يرفعُها إذا شاء أن يرفعَها ثم تكونُ خلافةٌ على منهاجِ النبوةِ فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ ثم يرفعُها إذا شاء أن يرفعَها ثم تكونُ مُلكًا عاضًّا فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ ثم يرفعُها إذا شاء أن يرفعَها ثم تكونُ خلافةٌ على منهاجِ نبوةِ"[2]، في هذا الحديث فرق النبي صلى الله عليهو وسلم بين النبوة والخلافة، لإبراز المغايرة بينهما. بين النبوة التي هي اصطفاء إلهي خاص ببعض البشر، والخلافة التي هي مسؤولية موكولة لنخب الأمة للقيام على شأنها العام، ومن ثم فإن خلافة رسول الله خاصة بالجانب السياسي، اما النبوة فهي خاصة بمن اصطفاه الله لذلك، وخصائص النبوة معروفة.
والخلافة بالمعنى المعروف والممارس، أي خلافة الناس لبعضهم البعض، أو نيابة بعض الصفوة عن الأمة، فشائع ومعروف، فقد أوصى أبو بكر لعمر بن الخطاب بأن يخلفه، كما أوصى عمر لمن بعده ممن رأى فيهم القدرة على إدارة الدولة وحصر الخلافة فيهم، وهم ستة كما هو معلوم: عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، الزبير بن العوام، سعد بن أبي وقاص، طلحة بن عبيد الله، عبد الرحمن بن عوف.  
والذي يبدو من التركيز على مصطلح الخلافة، مستمد من مبدإ الاستخلاف العام الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ) [البقرة 30]، "أي : قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل"[3]، وكما جاء في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ...) [الانعام 165]، وذلك لعمارة الأرض والقيام بما كلف به البشر عموما، وهي مسؤولية موزعة على الناس بحسب مكاناتهم في الواقع الذي يعيشون فيه، وادوارهم المطالبين بالقيام بها. ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود 61].
وهذا الاستخلاف تكليف إلهي ومسؤوليات، فكل الناس مسؤولون على على ما يقع في الوجود "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ"[4]

وممارسة هذه المسؤوليات إضافة إلى كونها تكليفا وعمارة للأرض، هي من مقتضيات سننة الابتلاء والتدافع والتداول والتجديد، كما يرى أستاذنا الدكتور الطيب برغوث في مشروعه الفكري الرائد: "منظور السننية الشاملة".

فالابتلاء سنة من سنن الله في الوجود (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الانعام 165]، وكذلك التدافع منظومة سننية أيضا (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج 40] "إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض, لهُدم ما ذكر, من دفعه تعالى ذكره بعضهم ببعض, وكفِّه المشركين بالمسلمين عن ذلك; ومنه كفه ببعضهم التظالم, كالسلطان الذي كفّ به رعيته عن التظالم بينهم; ومنه كفُّه لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق, ونحو ذلك. وكلّ ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض, لولا ذلك لتظالموا, فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيَعهم وما سمّى جل ثناؤه. ولم يضع الله تعالى دلالة في عقل على أنه عنى من ذلك بعضا دون بعض, ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسليم له, فذلك على الظاهر والعموم على ما قد بيَّنته قبل لعموم ظاهر ذلك جميع ما ذكرنا"[5]، والتداول منظومة سننية تمثل الثمار المنتظرة من حسن التفاعل مع منظومتي الابتلاء والتدافع، وكاني بقوله تعالى (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران 140]، يحدثنا عن العلاقة العضوية بين الابتلاء والتدافع وثمارهما التداول. فمس القرح ابتلاء، وما بين الشهداء والظالمين تدافع، فتلك هي الأيام التي يداولها الله بين الناس.

نظام الخلافة

بعد الكلام عن مصطلح الخلافة في إطار الثقافة الإسلامية كمنتج علمي تربوي، واستخلاص المراد المحتمل من فهمنا لنصوص الوحي وطبيعة الاستخلاف، ننتقل الآن إلى المصطلح باعتباره نظام إداري وسياسي للتعبير عن طبيعة نظام الحكم في الإسلام.

يعرف ابن خلدون الخلافة بقوله "الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"[6]، وهذا المعنى ينطبق على مفهوم النظام السياسي بمفهومه الإسلامي، إذ لا يقف عند مفهوم المصطلح في ذاته وإنما شمل المرجعية، فحمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي... وخلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، تعيين للمرجعية التي ينبغي ان يكون عليها هذا النظام.

وهذا المعنى بوحي بوجود نظام سياسي بمحتويات معينة، وليس لهذه المحتويات صورة واحدة تعبر عنها بحيث تكون شعارا ومصطلحا لا محيد عنه، ومن ثم تكون الصورة المثلى هي التي تحقق تلك المحتويات التي عبر عنها ابن خلدون بقوله: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية –لأن- الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولذلك لم يبق المصطلح لاصقا بالمنصب إلا في حالة أبي الصديق، الذي سموه خليفة رسول الله، ولكن ابتداء من عهد عمر، سمي منصب الخليفة بأمير المؤمنين.

يتبع..

 

ــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 



[1]- أنظر لسان العرب مادة: خلف

[2]- رواه احمد عن حذيفة بن اليمان، ورجاله ثقاة –مجمع الزوائد 5/191.

[3]- تفسير ابن كثير

[4]- رواه الشيخن وغيرهما عن عبد الله بن عمر

[5]- تفسير الطبري

[6]- مقدمة ابن خلدون





التالي
من غزوة بدر الكبرى إلى طوفان الأقصى المجيدة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع