البحث

التفاصيل

بين المعاني والصور

الرابط المختصر :

بين المعاني والصور

بقلم: د. خالد حنفي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

أيام العيد في زماننا تكشف عن إشكالية كبرى ضاعف من إظهارها الطبيعة المادية لعصرنا، وهي إشكالية التعلق بالشكل والصورة وغياب الروح والمعنى، وهو ما عبر عنه الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله تعالى في آخر مقال كتبه حين تحدث عن تحول الإنسان في العالم المادي إلى شيء مادي واختفاء القيم الإنسانية النبيلة أو تراجعها، وأن هذه المادية طغت على مظاهر الحياة حتى اللباس صار عليه إعلان أو دعاية، والطعام صار شعاره "التيك أوي"، يعني وجبة سريعة تأكلها وأنت تجري فلا تتحدث مع من تحب ولا تأنس به.

حاصرتنا الشكليات والصور حتى في أمور الدين فلا زال نفر من المنتسبين إلى العلم والدين يصرون على عدم جواز إخراج زكاة الفطر نقدا في عصرنا وأنه لابد من إخراجها حبوبا حيث وجهت السنة النبوية، ولا أدري كيف يمكننا عمليا تطبيق هذا القول على مسلمي ألمانيا مثلا ومن أين وكيف نجمع ونوزع آلاف الأطنان من الحبوب لتصل إلى الفقراء لإغنائهم وإسعادهم في يوم العيد؟ وأنى لفقيه أن يقول إن هذه هي السنة التي لا يجوز أن نخالفها؟ أليست مخالفة السنة هي مخالفة روحها ومعناها وهو التيسير على الأغنياء في الدفع والفقراء والتوسعة والأخذ؟ فلم الدوران المستمر كل عام في ذات الحلقة المفرغة؟ إنه الإصرار على الصور والأشكال وإن غابت الأرواح والمعاني، وهذه نماذج من مشهد العيد تحتاج إلى تقويم وترشيد لنعود إلى الروح والمعنى ونتجنب البقاء في الشكل والصورة:

يعمد بعض الناس إلى تعكير فرحة العيد على المسلمين فيبدأ الصيام للأيام الستة من شوال مباشرة في اليوم التالي لعيد الفطر، وقد كان السلف يكرهون هذا الأمر كراهية شديدة ونقل عن كثير منهم النهي عن الصيام إلا بعد انتهاء أيام العيد

1- التهنئة الجافة بالعيد: سيل جارف من الرسائل ومقاطع الفيديو الجاهزة التي يتبادلها الناس عبر صفحات ووسائل التواصل الاجتماعي وغالب الناس لا يفتح تلك الرسائل فضلا عن أن يشعر بها، وقد اختفى معها التواصل الحقيقي والأنس والاجتماع رغم إمكانه وسهولته ورغم شدة الحاجة إليه مع تباعد الناس وقلة اجتماعهم، ولا ننكر أن هذه الرسائل سهلت كثيرا على الناس، وأنها أفضل من لا شيء، وأنه لا بأس بها ولكن أفضل منها ما حضر فيه الروح والمعنى. فرسالة صوتية خير من رسالة مصنوعة، واتصال مباشر خير من رسالة صوتية، وأفضل من الجميع لقاء مباشر ما أمكن.

والمتأمل في روح ومعاني العيد يلحظ بوضوح حضور الأنس والاجتماع والحديث المباشر مع المسلمين وبعضهم؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب من طريق ويعود من طريق يوم العيد ليلتقي بأكبر عدد من الناس فيصافحهم ويهنئهم بالعيد، وكان يصلي في الخلاء وما ثبت أنه صلى في المسجد العيد إلا مرة واحدة بسبب المطر، حتى يجتمع الناس من أطراف المدينة ويلتقي من لا يلتقي بإخوانه لبعد المسافة طوال العام، ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من شهود صلاة العيد حتى النساء الحيض يخرجن للمصلى ليشهدن الاجتماع ومظاهر العيد رغم اعتزالهن الصلاة، فأين تلك المعاني في عالم الشبكات الجاف الفاتر المغيب للقيم الإنسانية؟

2- تعكير فرحة العيد بحجج مغلوطة: يعمد بعض الناس إلى تعكير فرحة العيد على المسلمين فيبدأ الصيام للأيام الستة من شوال مباشرة في اليوم التالي لعيد الفطر، وقد كان السلف يكرهون هذا الأمر كراهية شديدة ونقل عن كثير منهم النهي عن الصيام إلا بعد انتهاء أيام العيد يقول الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني "المتوفى سنة: 211 هـ" وسألت" معمرا – يعني: ابن راشد عن صيام الست التي بعد يوم الفطر، وقالوا له: تصام بعد الفطر بيوم؟!، فقال: معاذ اللَّه!؛ إنما هي أيام عيد وأكل وشرب، ولكن تصام ثلاثة أيام قبل أيام الغر، أو ثلاثة أيام الغر أو ببعدها، وأيام الغر: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر"؛ وذلك حتى لا تفسد فرحة الاجتماع بامتناع بعض الحاضرين عن الطعام والشراب لصيامه فينقطع عن تواصل الزائرين التواصل المنشود والفرحة التامة، ولا شك أن الصيام بعد العيد مباشرة مشروع وقد يكون أيسر على بعض الناس حتى لا يؤدي التأخير إلى التكاسل عنه، لكن تأخيره إلى ما بعد انتهاء أيام العيد أفضل بقيد مهم وهو عدم تضييع الصيام أو الكسل عنه.

ومنهم من يدعو إلى لبس الأسود واستدعاء الحزن تضامنا مع المظلومين في غزة وغيرها، وهو أيضا اجتهاد في غير محله، فالفرحة المؤقتة بالعيد لا تنفي التضامن والنصرة، وقد سرني جدا أن أهل غزة أنفسهم يحتفلون بالعيد ويفرحون أولادهم بالزينة والهدايا رغم استمرار القصف والقتل، وهم يرون في ذلك إغاظة لعدوهم وتمكينا لهم على الصبر والثبات، وفي المقابل فإن عدوهم يعمد إلى قتل رموزهم يوم العيد ليفسد فرحتهم ويضاعف يأسهم وإحباطهم فينقطع ويضعف صبرهم وصمودهم.

إن الشخصية التي تواصل الأحزان وتعيش فيها أبدا تكون عاجزة عن مواصلة المسير والعمل والإنجاز الحضاري، فلابد من وقت للترويح المنضبط عن النفس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم منكرا على بعض الصحابة الذين رفضوا مظاهر الترويح في يوم العيد ولعب الأحباش في المسجد: "دعهم يا عمر لتعلم يهود أن في ديننا في فسحة" ونحن اليوم خاصة في الغرب نحتاج إلى ظهور الترويح واللهو المباح عن النفس في أيام العيد لسببين: الأول: كثرة الهموم والمصائب التي نزلت بالأمة، والثاني: أن الأجيال الجديدة من أولاد المسلمين في الغرب بحاجة ماسة إلى احتفالات بالأعياد تكافئ في أعينهم احتفالات رأس السنة الميلادية التي ننهاهم عن المشاركة فيها حفاظا على دينهم وهويتهم.

يتعامل كثير من المسلمين مع رمضان تعاملا رقميا فيعدد من الختمات والصلوات والصدقات وهذا أمر حسن لا شك، لكن الأحسن منه الوقوف مع معاني العبادات وروحها وحضور القلب فيها واستمرار مجاهدة النفس وسيطرة الروح على الجسد بعد رمضان

3- معنى ليلة القدر: فقد حصرها أغلب المسلمين في الشكل والصورة فاجتهدوا ليلة السابع والعشرين، واجتهادهم يفرحنا ويبهجنا بلا شك شريطة عدم قصر الاجتهاد على تلك الليلة وترك العبادة بعدها، فهي طاقة روحية هائلة تجعلنا ننطلق بعدها للعمل والإنجاز الحضاري؛ لهذا وسع النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم ليلة القدر وروحها ومعناها إلى ما هو أعظم وأكبر ومستمر على مدار العام وليس فقط في رمضان فقال في الحديث الصحيح: "موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود" فهنيئا لأهل غزة ورباطهم وصمودهم، وهنيئا لكل مرابط في الميادين المختلفة من الدعوة إلى التعليم، إلى الإغاثة إلى العمل العام، وقد فصلت هذا المعنى في مقال سابق بعنوان: خير من ليلة القدر.

4- التعامل الرقمي مع عبادات رمضان: يتعامل كثير من المسلمين مع رمضان تعاملا رقميا فيعدد من الختمات والصلوات والصدقات وهذا أمر حسن لا شك، لكن الأحسن منه الوقوف مع معاني العبادات وروحها وحضور القلب فيها واستمرار مجاهدة النفس وسيطرة الروح على الجسد بعد رمضان، والحذر من هجر القرآن والانقطاع عنه بعد رمضان، ومما يؤكد هذا التناقض أن أغلب المسلمين يحرص على صلاة العيد وهي سنة، والتراويح وهي سنة في المساجد، ويفوت الفرائض في رمضان وبعد رمضان، والنفل لا يقدم على الفرض بحال.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 * ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





السابق
على هامش ذكرى انتصار مدينة الفلوجة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع