البحث

التفاصيل

الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟

الرابط المختصر :

الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟ (الحلقة الخامسة والأخيرة)

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

[الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟: الحلقة الرابعة]

 

جهود الأمة في غياب الخلافة

عودة الخلافة المركزية كما كانت في العهد الأول متعذرة، بسبب اتساع رقعة انتشار الأمة، وتشتتها إلى دويلات مستقلة عن بعضها البعض، وغلبة واقع الدولة القومية التي هي من مخلفات الاستعمار الغربي؛ بل إن الشكل الوحدوي المركزي لم يتحقق في التاريخ إلا في فترة وجيزة، بحيث كانت بعض الولايات الإسلامية مستقلة استقلالا تاما عن مركز الخلافة، وفي بعض الفترات من التاريخ، كان بعض الأمة في ظل خلافة العباسيين، وبعضها الآخر في ظل الأمويين، وربما في ظل مذاهب مختلفة، كما هو الحال في عهد الفاطميين، وفي حكم الرستميين في المغرب الإسلامي، وفي اطراف أخرى من العالم الإسلامي، ولكن فكرة الخلافة يمكن ان تعود بصيغة أخرى مواتية ومناسبة للواقع كما هو الحال في تجربة الاتحاد الأوروبي اليوم، الذي حافظت فيه الدول على كيانها السياسي الوطني، ودعمته بما تكتسب من قوة إضافية تستمدها من الدول الأخرى الشريكة في الاتحاد.

والنموذج الأوروبي بلا شك ليس هو النظام السياسي المطلوب الذي يسعى إليه الفكر السياسي الراشد، ومنه نظام الخلافة الذي يختلف عن الأنظمة الأخرى في جوهره، وإنما ذكرناه كصيغة من الصيغ الجامعة للقوى الحضارية والسياسية في إطار واحد، وربما يوجد ما هو أجدى وأنفع.

لقد أنشئ الاتحاد الأوروبي تحت مسمى "السوق الأوروبية المشتركة"، لمواجهة الاقتصاد الأمريكي والصيني والياباني، بعد الحرب العالمية الثانية، وتحول فيما بعد وفق نشاط تراكمي على مر السنين إلى أن وصل إلى الصيغة الحالية: "الاتحاد الأوروبي"، ليصبح أكثر تعبيرا عن وحدة التصور والمبدإ والمصير، كما اتحدت القوى الأوروبية من قبل، في ظل الحروب الصليبية، وفي الالتقاء على الميثاق الاستعماري[1].

أما في عالمنا الإسلامي فقد كانت هناك محاولات في اتجاه البحث عن حل لقضية الخلافة التي فقدتها الأمة في سنة 1924، في أكثر من مبادرة في شكل فكرة جامعة، قبل سقوط الخلافة، وذلك عندما شاع الشعور بضعفها وقرب سقوطها.

ففي مبادرة أم القرى لعبد الرحمن الكواكبي، الذي صور تلك الأمنية في شكل مؤتمر إسلامي عقد في مكة المكرمة وشارك فيه ممثلين عن العالم الإسلامي، فانشؤوا تكتلا إسلاميا لدراسة واقع العالم الإسلامي، يعبر عن المسلمين ويمثلهم، كما كانت مبادرة الجامعة الإسلامية، التي قام بها جمال الدين الأفغاني فقد انشئت الفكرة وشاعت في أواخر عهد السلطان عبد الحميد، وهي أيضا تصب في نفس المصب الذي يهدف إليه الكواكبي... واستمرت الجهود في سبيل إنقاذ الخلافة الآيلة إلى السقوط او وجود بديل لها، ولكن دون جدوى لأن واقع الأمة قد فقد مبررات الاستمرار والبقاء؛ لأن مركز الثقل الحضاري والسياسي قد إنتقل إلى بقاع اخرى، ولم يكن ذلك في هذه الفترة، وإنما بدأ منذ سقوط الأندلس واكتشاف العالم الجديد في سنة 1492، التاريخ الذي تزامن فيه اكتشاف أمريكا مع سقوط غرناطة.

فبداية سقوط الحضارة الإسلامية بدأ من هنا، اما الدولة في الإطار السياسي والإجتماعي فاستمرت إلى غاية 1924، حيث سقطت السلطة السياسية، واستمر الوضع الاجتماعي بفضل بقيم الأسرة والوحدة العقدية.

وعندما أراد المصلحون إنقاذ السلطة الآيلة إلى السقوط وبعد سقوطها لم يجدوا ما يسادعهم على ذلك إلا الإطار الاجتماعي والقيم العقدية الدينية كرافد أساس للنهوض بالأمة وهو ما استمرت به قيم الإسلام في الواقع الإجتماعي، أما على المستوى السياسي فلم تجد المة طريقها، إلا بنسب ضئيلة لا ترتقي إلى المطلوب.

ومع فشل المحاولات الكبرى في الإطار العام: أم القرى، الجامعة الإسلامية...، لجأت الأمة إلى تحريك جهودها المحلية، لا سيما وأن أغلبها كان في ظل الاستعمار الغربي، حيث لم يكن من الممكن التفكير في إنقاذ الواقع إلا بالمبادرات الوطنية المحدودة في المجتمع الحلي وفي ظل الدولة القومية المستعمرة أو العاجزة عن النهوض، فانشئت الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي، مثل الوهابية في الجزيرة التي دخلت في صراع مع الخلافة نفسها، والسنوسية في ليبيا التي تطورت إلى حركة مقاومة لمحاربة الاستعمار الإطالي، وقل مثل ذلك في جميع الحركات الأخرى مثل جمعية العلماء في الجزائر والهند، والحزب الإسلامي في أندونيسيا، وجماعة الإخوان في مصر.... ثم نشأت تنظيمات أخرى منها ما كان متفرعا عن هذه المبادرات ومنها ما أنشئ وقف معطياته المحلية، وجميع هذه المبادرات كانت من أجل سد الفراغ، الذي تركه غياب الخلافة وغياب قيمها السياسية والاجتماعية والأخلاقية، اما الخلافة كنظام سياسي تعود في إطاره الأمة إلى رسالتها، فلا توجد صورة جاهزة لذلك، بسبب لجوء الأنظمة في العالم الإسلامي إلى صيغة الدولة القومية التي تركها لنا الاستعمار، ووفق مرجعية حداثية تستبعد الدين في منظورها بالأساس، والمفاصلة التي كانت ولا تزال تلقي بظلالها وضلالها على الواقع السياسي، بين المحافظين والحداثيين، الصرتع بينهما.

ومع ذلك بقيت هناك أفكار تعمل لتحقيق مصالح الأمة في أطر معينة، وفق مرجعياتنا الإسلامية، على المستويين الشعبي والرسمي، مثل محاولة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، الذي هو تنظيم محلي انشئ في مصر، ووضع في برنامجه وأبعاده السياسية إحياء نظام الخلافة، وحزب التحرير الإسلامي الذي هو الآخر من مشتقات الإخوان، ولكنه استقل بمنظوره الخاص فوضع عنوان الخلافة على رأس برنامجه السياسي. أما على المستوى الرسمي فإن منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تحولت إلى منظمة التعاون الإسلامي، وما تفرع عنها مؤسسات علمية وثقافية، تهدف إلى تحقيق نفس الغاية.

ولقد حققت هذه المبادرات الكثير في مجال تثبيت المبدإ والتميز الفكري والسياسي في ظل طغيان الغرب وآلاته الهدامة، فحافظت الحركة الإسلامية على شعار الحل الإسلامي؛ بل وصلت إلى الحكم في بعض بلاد المسلمين: ماليزيا، إيران، تركيا، وبمستوى أقل مصر والأردن والجزائر وتونس...، اما في باقي العالم، فلم يعد من السهل تهميش الحركة الإسلامية على المستوى السياسي فهي حاضرة دائما؛ بل إن بعض الدراسات الغربية تتكلم عن احتمال نشأة دولة إسلامية في بلاد الغرب في أفق 2050.

ولكن العجز في بلورة منظور فكري سياسي لا يزال قائما، حيث لم ترتق الأمة بعد إلى حل اشكالاتها العالقة فيما بينها وبين الحداثة!!

ثم إن الإشكالات القائمة بين التيارات السياسية في العالم الإسلامي، وما بينها وبين التيار الإسلامي تحديدا، لا تزال تشكل عائقا كبيرا، لما بينها من عداوات تاريخية، وقصور مزمن في فهم بعضها للبعض الآخر.

ولا يفوتني هنا الإشارة إلى مبادرة مالك بن نبي رحمه الله التي وضعها في خمسينيات القرن العشرين، وذلك بإصداره كتابين إثنين يهدفان إلى إبراز الأمة الإسلامية كقوة تختلف عن غيرها من القوى البارزة في مبادئها وقيمها وشعورها بالمسؤولية، ثم كيفية تعاونها مع الغير في إطار التحالفات الدولية التي يُسيِّر العالم بها شؤونه.

لاحظ بن نبي أن "الخريطة السياسية والحضارية التي نشرت رقعتها على الكرة الأرضية بعد الحرب العالمية الثانية، تركزت القوة في محور واشنطن- موسكو، في وحدات جغرافية سياسية: منطقة حلف الأطلنطي، والمنطقة السوفياتية، ومنطقة الصين الشعبية، ومنطقة الوحدة الهندية. وقد بدا العالم الإسلامي في إطار هذه الخريطة خارج الألوان، التي تميز كل وحدة عن سواها على خريطة العالم"[2]، فأصدر كتابه فكرة "كومنويلث إسلامي"، وكلمة كومنويلث، لفظة أنجليزية وتعني الثروة المشتركة Commonwealth، أو الرخاء الجماعي The common weal، ليبرز اللون الإسلامي في الخريطة التي تجاهلته، ليدعو الأمة الإسلامية وقاياداتها إلى الاستثمار في مواطن القوة التي تتمتع بها الأمة.

أما عن الاستثمار في علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم التي تشاركها الهم السياسي والحضاري، فقد أصدر كتابه "الفكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ"، وهو كتاب من انفس الكتب في كيفية نشاط واستثمار الشعوب والدول في المحاور السياسية والحضارية الكبرى بين الدول التي بينها مشترك أخلاقي وثقافي وسياسي. وأهم ما يهدف إليه الكتاب هو الحرص على ميلاد قوة منافسة ومقاومة للغرب الذي استعمر البلاد الضعيفة ولا يزال يسعى في ذلك، ولا يمكن التفلت منه ومن تأثيراته إلا بميلاد التكتلات القوية، لا سيما فيما بين الدول والمجتمعات المتجانسة في جوانب معينة مثل الأمة الإسلامية.

إلى هنا نكون قد أنهينا وصف واقع الأمة السياسي، بكثير من الاختصار الذي نتمنى انه لم يكن مخلا، بمناسبة هذه الذكرى الأليمة وهي ذكرى سقوط الخلافة، وربما نعود للموضوع في مناسبة أخرى، للكلام في بلورة نظرية في الفكر السياسي وفق متطلبات ما جد في العالم في غياب الأمة سياسيا وحضاريا.

والله ولي التوفيق

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 



[1]- مالك بن نبي المسلم في عالم الاقتصاد

[2]- مالك بن نبي، فكرة كومنويلث إسلامي بنصرف طفيف





التالي
صفات قيادية ملهمة للوالد العلامة عبدالمجيد الزنداني

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع