البحث

التفاصيل

حديثٌ عن علماء “ما يطلبه الجمهور”

الرابط المختصر :

حديثٌ عن علماء “ما يطلبه الجمهور”

بقلم: محمد خير موسى

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

اعتاد الناس الحديث والهجوم في كل موقف على علماء السلاطين الذين يتملّقون ويداهنون وينافقون، ويعملون بالريموت كونترول على وفق رغبات الحاكم وتوجيهات السلطة، ويبذلون غاية وسعهم في تبرير أفعال صاحب القرار؛ ومن المعروف أن هؤلاء يشكّلون خطرا عظيما، ويمارسون دورا كبيرا في تشويه الإسلام وإعطاء الصورة غير الحقيقيّة عنه.

غير أنّ الوجه الآخر لعلماء السلاطين الذي لا يتنبّه له كثيرون هو “علماء ما يطلبه الجمهور”؛ وعادةً لا يتمّ التعرض لهذه الشريحة بالحديث أو التفكيك كونها تسير مع التيار، وتتساوق مع المزاج العام للشعوب في أحوالها وأوضاعها المختلفة.

إنّ علماء “ما يطلبه الجمهور” هم الذين جعلوا رغبات الشعوب، والمزاج العام للجماهير، الموجّهَ لهم في مواقفهم الشرعية من خطب وفتاوى وخطاب دعوي، وجعلوا إرضاء الجمهور ودغدغة عواطفه الهدفَ والغاية؛ فالجمهور عندهم هو الموجّه ابتداءً وهو الهدف انتهاء.

إنّ هذا الصنف من العلماء لا يقلّ خطورةً عن علماء السلاطين، فكما أن مداهنة السلاطين على حساب الشرع أو حقوق الشعوب مفسدة وسقوط؛ فإنّ مداهنة الشعوب واسترضاءها على حساب الشرع مهلكة عظيمة، وإن أغضب ذلك الحكّام واستفزّهم.

إنّ العالم الحقّ لا يرسم له مواقفه أيّ من الطرفين؛ لا الحكّام ولا الشعوب، بل إن الذي يرسم له مواقفه هو الوحي الذي يستنبط منه المواقف والأحكام بتجرد، دون ليٍّ لأعناق النصوص إرضاءً لحاكم جائر أو شعب ثائر.

إنّ العالم الحقّ هو الذي يقدّم ما يجب على الحاكم لا ما يطلبه الحاكم، وكذلك هو الذي يقدّم ما يجب على الشعوب وما ينبغي أن تفعله، لا ما تطلبه وتريده وتهواه؛ فالإسلام هو دين تدبير للخلق حكّاما وشعوبا، لا دين تبرير لأفعالهم وتصرفاهم، فهو قائدٌ للفعل رائدٌ له لا مقودٌ تابعٌ مبرِّر.

وقد يقال: إنّ علماء السلطان يداهنون للسلاطين بغية مال أو منصب أو مكانة، فما الذي عند الشعوب المسكينة المقهورة لتقدّمه لمن يداهن لها؟

إن السعي وراء المكانة فتنة عظيمة، والإشارة بالبنان إلى الشخص والإشادة به في المحافل فتنة أشدّ وأعظم، وكما أن هناك من يطمحون إلى مكانة عند حاكم وسلطان، فإن هناك من يرون المطمح والغنيمة كامنَين في إشادة الشعوب ومدح الجماهير، وإضفاء أوصاف البطولة والشجاعة والجرأة.

والحقّ يقال: إنّ نسبة ليست ضئيلة من علماء ودعاة وخطباء ما يطلبه الجمهور تغلبهم عاطفتهم ويقودهم اندفاعهم، لقلّة الخبرة حينًا ولشدّة سطوة الجماهير التأثيرية حينًا آخر؛ فتراهم يهيجون ويموجون على المنبر أو على الشاشات تابعينَ للفعل الجماهيري بعجره وبجره، بلا تحقيق ولا تدقيق ولا تأصيل.  وهذا يفرض على العلماء والدعاة والخطباء المنحازين إلى الجماهير، المنخرطين في صفوفهم، مسؤوليةً أعظم وأكبر في مراجعة أنفسهم والتوقف مع ذواتهم قبل إعلان المواقف، محقّقينَ مقاصدهم، متحقّقين من غاياتهم، متأنّين في اتخاذ الموقف، سالكين سبيل الحكمة في إعلانه.

ومما ينبغي الالتفات إليه أن الشعوب في زمن الأزمات والثورات يصعب الوقوف في وجهها ومواجهتها، فكما أن هناك علماء يهابون بطش الحكام ويخافون سطوتهم، فإنّ من العلماء من يهاب بطش الشعوب ويخضع لسطوتها؛ هذا البطش المعنوي الذي يتمثل في غالبه بشكل حملات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي ومنصّات الإعلام المختلفة، مما يجعلهم يلوذون بالصمت حيث يجب أن ترتفع أصواتهم معترضين ومبيّنين، حين يكون موقف الشرع مخالفا لهوى الرأي العام، لكنّ أصواتهم ترتفع حين يكون الموقف الشرعي منسجما مع السلوك الجماهيري؛ فتوهم هذه المواقف الانتقائية الناس بأنّ العالِم موافق لهم في ما صمت عنه من أفعال، والصمت في موضع الحاجة إلى البيان بيان.. وهذا تدليس على الشعوب وخداع لها، يقود إليه عادةً الخوف من بطش الجماهير، ومحاولة استرضائها والسير في ركابها.

فعلى العلماء والدعاة أن يرشّدوا حركة الشعوب ويوجهوها، وأن يقدّموا لهم ما يجب بطريقة واضحة لا لبس فيها ولا استعلاء ولا استرضاء؛ كما أنه ينبغي على الجماهير أن تعي جيّدًا أنّ هناك فرقا بين العالم الذي يداهن السلاطين ويشرّع لهم ظلمهم وطغيانهم، وبين العالِم الذي يخالف رغباتها ويعاكس تيارها الجارف، فليس كل من اعترض على سلوك الجماهير الجامحة أو خالف في موقفه الرأي العام السائد هو عالم بلاط أو منافق يستحق الهجوم عليه بشراسة وعنف.

إنّ العالم الحقّ هو الذي بيّن ما أوصله إليه اجتهاده في النصوص، بعيدا عن الضغوطات من أية جهة سياسية أو شعبيّة، ولو كان هذا الاجتهاد خاطئا؛ وإنّ الموقف النابع من التبصر في الشرع – ولو كان خاطئا- لهو خيرٌ ألف مرّة من الموقف النابع من استرضاء الناس حكومات وشعوبا ولو كان صوابا.. فالله تعالى بيّن أن العلماء هم {الَّذين يبلِّغون رسالات اللَّه ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلَّا اللَّه وكفىٰ بِاللَّه حسيبًا} [سورة الأحزاب: 39].

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع