البحث

التفاصيل

الإضراب عن الطعام: نضال أم انتحار؟

الرابط المختصر :

مما لا شك فيه أن الإنسان عندما تصادر حريته، ويسام سوء العذاب، جراء مواقفه الفكرية، والإصلاحية السياسية، يجد نفسه حائرا أمام الحلول التي يمكنه اللجوء إليها لمقاومة الظلم، وقد ابتكر غير المسلمين وسيلة الإضراب حديثا، وهي وسيلة جربت في بلادهم التي تحترم حقوق الناس فجنوا ثمار الحرية من ورائها.

 

وما نراه الآن من خنق للحريات، واعتقال للبرآء، واستهانة بحقوقهم وحرياتهم، أدعو المعتقلين والمسجونين رجالا ونساء ظلما في سجون الانقلاب العسكري في مصر، للإضراب عن الطعام، وأول من أدعوهم: الرئيس الشرعي للبلاد الدكتور محمد مرسي، وكل المعتقلين والمسجونين ظلما بعد الانقلاب العسكري.


فالإضراب عن الطعام وسيلة ناجعة، باتت هي الوسيلة الأقوى في يد المظلوم، وبخاصة لو انضم إليه مظلومون آخرون، يجمعون بين حب الناس لهم، والتغطية الإعلامية التي تضمن نجاح إضرابهم.

والإضراب عن الطعام لون من المقاومة الشرعية، التي وردت في القرآن الكريم، بل أمر بها القرآن الكريم في حالة من الحالات، وللأسف يغفل عنها دارسو الشرع، إنها حالة مريم العذراء عليها السلام، حينما وضعت المسيح عليه السلام، وعلمت أن قومها سوف يتهمونها بأبشع التهم، وأقذعها، وهي تهمة إتيان الفاحشة، فهي أنجبت بلا زواج، ولا يعرف لها زوج، وليس في عرفهم البشري القاصر أن تلد امرأة بلا جماع، فكان أمر الله عز وجل لها بالإضراب عن الكلام، يقول تعالى: (فإما ترين من البشر أحدا فقولي: إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) مريم: 26.

أما ما يستشهد به البعض من قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) النساء: 29. فهو وارد في القتل العمد الذي ينتحر به الإنسان، ليتخلص من الحياة يائسا منها، وهل يحكم على كل من خرج في مظاهرة أدت إلى صدام مع الأمن فمات المتظاهر، يعد الخارج فيها منتحرا، وقد خرج يحتج احتجاجا سلميا، إذن ماذا بقي للناس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يبق إلا أن نعيش حميرا تساق كما يراد لها، وكما يهوى جلادها، ونخاسها!!

بل حتى المنتحر القاتل لنفسه بيده، ليست نهاية كل منتحر النار، كما هو مترسخ في فهمنا الفقهي، بل ما أعتقده بعد طول دراسة: أن المنتحر الذي يأس من حياته، بناء على انغماس في الملذات، وانكفاء على المحرمات، وانقطاع صلته بالله عز وجل، مما جعله يتخبط في الحياة حائرا، يحيا على غير هدى، ويسير على صراط معوج، هذا الذي ورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "‏من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده‏ ‏يتوجأ‏ ‏بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو‏ ‏يتحساه‏ ‏في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن ‏تردى ‏‏من جبل فقتل نفسه فهو‏ ‏يتردى‏ ‏في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا".


  ومع ذلك في موقفه هذا كلام آخر يقال، فقد قال العلماء: المقصود به من يستحل الانتحار، فيموت كافرا، فيكون في النار.


كما أننا لا نجزم بدخول المنتحر النار، بل هو تحت المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له؛ لعموم قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48، فهو داخل في مشيئة الله بالمغفرة.

هذا عن شأن المنتحر المتعمد، فأما من يُضرب عن الطعام، أو من يموت في مظاهرة، في لحظة فقد فيها العدل، وضاع منه الأمل، وخاب رجاؤه فيمن حوله أن يغيثوا لهفته، أو يرفعوا عنه مظلمته، فقام بإضراب عن الطعام فمات، أو قام بمظاهرة فمات فيها، ولم يسع لذلك، فهذا وأمثاله أعتقد أنهم ليسوا منتحرين مطلقا، وليسوا المعنيين في الحديث بأنهم من أهل النار، بل تعد وفاتهم بهذه الطريقة استغفارا لهم يوم القيامة، وهذا الكلام ليس من عندي، بل من نص حديث صحيح رواه الإمام مسلم، وهو:


"أن‏ ‏الطفيل بن عمرو الدوسي ‏‏أتى النبي‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏‏فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين، ومنعة؟ قال: حصن كان ‏‏لدوس‏ ‏في الجاهلية، فأبى ذلك النبي‏ ‏صلى الله عليه وسلم،‏ ‏للذي ‏ذخر ‏‏الله‏ ‏للأنصار ، ‏فلما هاجر النبي‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏إلى‏ ‏المدينة‏ ‏هاجر إليه‏ الطفيل بن عمرو، ‏‏وهاجر معه رجل من قومه،‏ ‏فاجتووا‏ ‏المدينة،‏ ‏فمرض، فجزع فأخذ ‏‏مشاقص ‏‏له، فقطع بها‏ ‏براجمه،‏ ‏فشخبت‏ ‏ يداه حتى مات، فرآه ‏‏الطفيل بن عمرو‏ ‏في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيا يديه فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه‏ ‏صلى الله عليه وسلم،‏ ‏فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها ‏ ‏الطفيل‏ ‏على رسول الله‏ ‏صلى الله عليه وسلم،‏ ‏فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم:‏ "اللهم وليديه فاغفر".


فالرسول صلى الله عليه وسلم هنا استغفر لمن انتحر، يقول الإمام النووي: والحديث حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة: أن من قتل نفسه، أو ارتكب معصية غيرها، ومات من غير توبة فليس بكافر, ولا يقطع له بالنار, بل هو في حكم المشيئة.

كما أن هناك فروقا جوهرية ومهمة بين ما يقوم به المنتحر، والمضرب عن الطعام، فالمنتحر إنسان أناني، حصر دائرة الدنيا بما فيها في نفسه فقط، في مال ضاع في تجارة، أو حب ضائع مع فتاة، أو أي عرض آخر من أعراض الدنيا الزائلة، أما المضرب عن الطعام في أمر سياسي أو يخص كرامته وحريته، فهو احتجاج على ظلم الظلمة الفجرة، فهو يفكر في أمته ووطنه، ويريد له الحياة الكريمة، وإن كان على حساب حياته ، فهو يضحي بحياته لأجل الوطن والأمة، وليس لأجل نفسه وذاته، وخير مثال يتضح فيه هذا الكلام، موقف غلام (أصحاب الأخدود) الذي أراد الملك قتله، ولم يفلح، يقول صلى الله عليه وسلم عن موقفه: فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله، رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام".

فالغلام هنا دل الملك على طريقة قتله، وعلم يقينا أنه مقتول بدلالته على هذه الطريقة، لكنه فعل ذلك لمصلحة عامة كبرى لدعوته وهدفه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لأن هذا جهاد في سبيل الله، آمنت أمة وهو لم يفتقد شيئا، لأنه مات وسيموت إن آجلاً أو عاجلاً).

كما أن المنتحر إنسان يائس من الحياة، أما المضرب عن الطعام فهو مملوء بالأمل، عينه على المستقبل أن يكون مستقبلا مملوءا بالحب، والخير، والعدل والسلام. والمنتحر كاره للحياة، والمضرب عن الطعام محب لها، مقبل عليها، يريدها بعزة وكرامة، لا بذلة ومهانة، لا يقبل بالضيم، ولا بأي حياة كحياة الحيوانات، يهمه أن يعيش حرا كريما.


هذا ما عن لي من تأملات في المسألة، سائلا الله عز وجل أن يقضي الخير، وأن ينتقم من الظلمة المستبدين، اللهم آمين.


: الأوسمة



التالي
في موسم الذبح الدولي للمسلمين
السابق
مُتَعَصِّب !

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع