البحث

التفاصيل

في تشييع عام مضى (نزيه أحمد خالد)

 

   لقي الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ رجلاً فسأله : " كم أتت عليك ؟ " ـ أي كم مضى من عمرك ؟ قال : ستون سنة ، قال الفضيل : " إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل " فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقال الفضيل يا أخي : " هل عرفت معناها " ، قال : نعم ، عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع . فقال الفضيل يا أخي : " فمن عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه ، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول ، ومن عرف أنه مسؤول فليعد للسؤال جواباً " ، فبكى الرجل وقال : يافضيل وما الحيلة ؟ . قال : يسيرة ، قال : ماهي يرحمك الله ؟ ، قال : " أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي " .


   وها نحن أيها الأحباب نودع عاماً من حياتنا ولا نعلم هل نكون غداً من أهل الدنيا أم أن مركبة أيامنا التي أقلتنا منذ أن كنا أجنة في بطون أمهاتنا ستصل إلى محطة الحياة الحقيقية والتي نطمح جميعاً أن تكون رضواناً من الله ثم جنات عرضها السماوات والأرض ، في مثل هذه الأيام من عادة التجار أن يقوموا بجرد حساباتهم ، أفلا يكون رغَّاب الآخرة أولى بذلك ؟ نحن اليوم أسرفنا في الركون إلى الدنيا ، وليس مطلوباً من المسلم أن لا يلتفت إليها ، لا ، بل المطلوب من المسلم أن يعمر الأرض ، وأن يقدم كل ما هو خير للبشرية حتى ولو كان على حافة الموت بل حتى لو كانت القيامة حاضرة ، وفي هذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها " ، فالمسلمون أمة نوعية أمرها ربها أن تعمر الأرض بالصلاح والأصلح لكل البشر دون إغفال الحيوان والحجر والثمر ... فنحن نعيش في الدنيا ولكن للآخرة ، نحن نعمر الدنيا ونبنيها ولكن لا نُسكنها قلوبنا ، ولعل هذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما لي وللدنيا ! إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها " .


   ولنعد إلى الفضيل حيث قال للرجل : " ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول ، ومن عرف أنه مسؤول فليعد للسؤال جواباً " ، فما ظنك أيها الحبيب في تلميذ قد أعطاه أستاذه أسئلة الامتحان ثم ذهب ليمتحن دون تحضير إجابات عن هذه الأسئلة ، أفلا يستحق اللوم والعقاب ؟ ، وهذا نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم قد أعطانا أسئلة امتحان الترفع من هذه الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية حيث قال فيما أخرجه الطبراني في الكبير : " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ؟ ، وعن شبابه فيما أبلاه ؟ ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟ ، وعن علمه ماذا عمل فيه ؟ "


   هذه الأسئلة بين أيدينا ، ونحن في جردة حساب عن العمر الماضي نرى طاعات كما نرى معاص ، ولكن اليوم ذهبت آلام الطاعات وبقي ثوابها ، وذهبت لذات المعاصي وبقي عقابها ، فلنعمل في هذه الدنيا لحسن الإجابة غداً في يوم العرض ثم لنرفرف على أجنحة من الشوق والحب للقاء ربنا مستشعرين رقابته ونحن نردد حكمة ابن عطاء الله السكندري ـ رحمه الله ـ : " إلهي عميت عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيباً "


: الأوسمة



التالي
رسالة من الدولة العميقة (فهمي هويدي)
السابق
الفلبين: بانجسامورو.. المأزق وسيناريوهات فى تطبيق الإتفاق (محمد الحاذق بن محمود)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع