البحث

التفاصيل

الروهنغيا.. الوجع المنسي

يحدث أحيانا أن تعلق بذهنك عبارات لا تدرك مغزاها وكنهها إلا بعد سنوات طوال.. ذلك حال “ميانمار” التي كنت أسمعها في بعض خطب الجمعة في سنوات عمري الأولى دون أن أفقه معناها مع يقيني بأنها رقعة جغرافية وثيقة الصلة بالمعاناة إذ كان يرد ذكرها دوما في سياق الدعاء بتخفيف الكرب وحلول الفرج.. حدسي تأكد بالفعل إذ علمت بعدها بسنوات أن “بورما” هي في الحقيقة بلد آسيوي، يسمى أيضا ميانمار، يقع جنوب شرق القارة ويضم مجموعة عرقية مسلمة تدعى “الروهنغيا” تعتبر “الأكثر اضطهادا في العالم”، بحسب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة في فبراير/شباط 2014.

المسلمون في ميانمار يتوزعون على 15 قومية، كلهم وبلا استثناء يتعرضون لأصناف عدة من الاضطهاد والتمييز، خاصة في المدن الرئيسية مثل العاصمة يانغون وميتيلا ونيبيدو ومندلاي الواقعة وسط وجنوب البلاد، إلا أن المعاناة الأكبر تقع على أبناء قومية الروهنغيا في ولاية أراكان الواقعة غربا. وربما يعود السبب في استهداف قومية الروهنغيا كونها القومية المسلمة الوحيدة التي لها تركز سكاني مهم في منطقة جغرافية واحدة بالقرب من أحد أكبر البلدان الإسلامية من حيث عدد السكان وهو بنغلاديش. لذلك سعى الحكام العسكريون منذ أزيد من خمسة عقود من خلال إذكاء النعرات الطائفية عبر تجييش جماعات من الرهبان البوذيين المتشددين، لتغيير الواقع الديموغرافي بهذه الولاية وتقليص أعداد الروهنغيا عبر التهجير القسري والاضطهاد بكل أصنافه.

وبالرغم من وجود الروهنغيا في هذه المنطقة منذ القرن 15 كما تشير إلى ذلك كتب التاريخ، إلا أنه لم يتم الاعتراف بهم ككيان عرقي قائم بذاته، بل تعتبرهم السلطات “مهاجرين غير شرعيين” و”غرباء” قدموا من بنغلاديش المجاورة.
وقد تم سن قانون عام 1982 من قبل الطغمة العسكرية الحاكمة آنذاك يمنع رسميا الاعتراف بهم كقومية مستقلة داخل ميانمار، بالرغم من أن وثائق رسمية تثبت أن السلطات اعترفت فعلا بالروهنغيا كمكون من مكونات شعب ميانمار في خمسينيات القرن الماضي. كما كان المسلمون جزءا لا يتجزأ من المشهد السياسي حيث حازوا ما بين ثلث ونصف المقاعد الحكومية قبل وصول العسكر للسلطة عبر انقلاب قاده الجنرال ني وين في مارس/آذار 1962.

ما يتعرض له المسلمون الروهنغيا من تعذيب وقتل واغتصاب من قبل الأكثرية البوذية بتحريض من مجموعات من الرهبان المتشددين، وأبرزها حركة 969 البوذية المتطرفة، قد يصل إلى “مستوى التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية”، كما ورد في تقرير للمفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة في فبراير/شباط الماضي.

وذكر التقرير أن شهود عيان تحدثوا عن “قتل رضع وأطفال يحبون وصغار ونساء ومسنين وفتح النار على أناس يلوذون بالفرار وحرق قرى بأكملها واحتجاز واغتصاب جماعي وممنهج وعنف جنسي وإتلاف متعمد للغذاء وموارد الطعام”. كما قصت سيدة لمحققي الأمم المتحدة كيف تم ذبح رضيعها البالغ من العمر ثمانية أشهر. وروت أخرى كيف اغتصبها جنود وكيف رأت طفلتها ذات الخمسة أعوام تقتل أمام عينيها بينما كانت تحاول منعهم. كما تداول ناشطون فيديوهات عدة تعود لموجة العنف التي اندلعت عام 2012 تظهر حرق بيوت الروهنغيا ومحلاتهم وطعن بعضهم بالسكاكين حتى الموت وإحراق رجال ونساء وأطفال وهم أحياء بتحريض من الرهبان المتشددين وأمام سمع وبصر أفراد الجيش.

أعمال العنف الموجهة ضد المسلمين في ميانمار وتحديدا ضد قومية الروهنغيا مرت من حالات مد وجزر وشهدت فصولا دموية أدت إلى تهجير مئات الآلاف منهم إلى البلدان المجاورة. وتشير التقديرات إلى وجود حوالي 500 ألف لاجئ روهنغي في مخيمات داخل بنغلاديش، وأزيد من 100 ألف في ماليزيا وعشرات الآلاف موزعين على تايلاند وإندونيسيا.
هذا الواقع المأساوي لم يتغير كثيرا بعد الانتقال الديموقراطي الذي دشنته ميانمار في 2015 من خلال اول انتخابات “ديموقراطية ونزيهة” في تاريخها. حيث كان موقف زعيمة حزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية الفائز بالانتخابات، والحائزة على جائزة نوبل للسلام أونغ سان سوتشي مخيبا للآمال.

سوتشي، التي أشاد الغرب بمواقفها التقدمية، لم تُبدِ سوى اهتماما نسبيا بقضية الروهنغيا؛ حيث اكتفت بالإعلان عن إدانات غامضة عندما كانت تتولى زعامة المعارضة. أمَّا خلال حملة حزبها في انتخابات عام 2015؛ فقد حظرت ترشح أي مسلم، وهي الخطوة التي جعلت الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية أول حزب في تاريخ بورما يمتنع عن ترشيح أي مسلم على قوائمه للمنافسة على تولي منصب سياسي. كما ظلت أزمة الروهنغيا شبه غائبة في أجندات الحكومات الغربية حيث طغت على بياناتها بشأن واقع حقوق الإنسان في ميانمار اللغة الدبلوماسية صونا للمصالح، بدل الإدانة الواضحة والصريحة لما تتعرض له الأقلية المسلمة ومطالبة يانغون بمنح هامش حرية أكبر للمسلمين.

لكن الموقف الذي يندى له الجبين حقيقة يظل موقف الأنظمة العربية والإسلامية التي لم تقم بأي مبادرة تذكر أو محاولة للضغط على الحكومة البورمية لحملها على مراجعة سياستها اتجاه الروهنغيا. يستثنى من ذلك بطبيعة الحال بيانات الإدانة التي تخرج بها بين الفينة والأخرى القمم العربية وقمم منظمة التعاون الإسلامي.

ويظل الموقف التركي أكثر مواقف الدول الإسلامية تقدما في قضية الدفاع عن قومية الروهنغيا، حيث زار وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو ميانمار في أغسطس/آب 2012، ليكون أول مسؤول مسلم رفيع يزور البلاد ويلتقي مسؤولين رسميين ويطلع على أحوال النازحين المسلمين الفارين من أعمال العنف في مخيمات الإيواء. وفي نوفمبر 2016 زار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مجددا ميانمار وعبر من يانغون عن استعداد بلاده للتعاون مع السلطات المحلية من أجل تحسين أوضاع النازحين واللاجئين الروهنغيا. كما احتضنت مدينة اسطنبول في فبراير/شباط الماضي، مؤتمرا رفيعا هو الأول من نوعه على الصعيد الدولي، لبحث سُبل التعريف بالقضية الروهينغية واقتراح حلول عملية لأهم المشكلات التي تعانيها هذه الأقلية المسلمة.

أما في السعودية، فقامت السلطات بمبادرة لتصحيح أوضاع الجالية البورمية لديها وشملت هذه العملية بحسب إحصائيات رسمية أزيد من 240 ألف بورمي من تسع مناطق مختلفة في المملكة. كما تقوم بعض المنظمات الخيرية العربية، مثل “قطر الخيرية”، بمبادرات إنسانية موسمية من خلال العمل على إيصال المساعدات للنازحين داخل ميانمار وتنفيذ برامج إغاثية للاجئين في الدول المجاورة.

شعبيا، يظل التفاعل مع مأساة الروهنغيا محدودا جدا في العالم الإسلامي باستثناء بعض مبادرات المجتمع المدني الإنسانية والوقفات الاحتجاجية بحسب تطورات الأحداث داخل ميانمار في عدد من الأقطار، خاصة ماليزيا وإندونيسيا وتركيا.
أما عربيا، فالجهل بالقضية وعدم الاكتراث هما السمتان البارزتان للتعاطي مع محنة الروهنغيا، ويبدو بأن ثورة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي عرّفت أكثر بما تعانيه الأقلية المسلمة في بورما لم تفلح في تعديل سلم الأولويات لدى الشعوب العربية التي كانت قضية الروهنغيا بالنسبة لها ومنذ عقود حبيسة خطب ومنابر الجمعة.. ويبدو أن هذا الواقع للأسف لم يتغير. فهل يكفي الدعاء وحده، بدل اتخاذ مبادرات ملموسة، سياسية واقتصادية وإنسانية، لإبراء جرح “الروهنغيا” النازف؟


: الأوسمة



التالي
الوسطية في الإسلام.. مفهومها ومظاهرها

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع