البحث

التفاصيل

كان ما سمي بـ "الفتنة الكبرى" مدخلاً للانتقال من منظومة أخلاقية هي "قيم التعاقد السياسي الإسلامية"، إلى منظومة قيمية مغايرة تماما هي "قيم التملُّك والقهر"، وذلك ما عناه مالك بن نبي بالانتقال من "جو المدينة" إلى "جو دمشق" (مالك بن نبي، شروط النهضة، 47). ف

ينحدر الشيخ الإمام من أسرة عريقة أصيلة في العلم والجاه والسلطة، ولها باع طويل في العلوم الشرعية بمدينة قسنطينة، فمنذ عصور تعود أصولها إلى الأمير المعز لدين الله بن باديس الزيري الصنهاجي (1515 ـ 1561م) الذي ثار على الدولة الفاطمية في مصر، وقطع الصلة السياسية والمذهبية معها، وألغى المذهب الشيعي وأعاد الاعتبار إلى المذهب المالكي مذهب الأغلبية في ربوع افريقية والمغرب الأوسط «الجزائر»، وتنتمي أمه السيدة زهيرة بنت محمد بن عبد الجليل بن جلول إلى بيت من البيوتات العريقة المشهورة في مدينة قسنطينة، حيث ولد الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس عام 1889م، وترعرع في أحضان أسرة عريقة في الجاه والمال والعلم والنضال، وليس غريباً أن يكون سليل أجداده العلماء. ولعل التقاليد العلمية التي تعودت عليها هذه الأسرة جعلت والده يختار له منذ البداية دراسة العلوم الدينية والتخصص فيها، فحفظ القرآن الكريم وهو ابن الثالثة عشرة من عمره، وتعلم اللغة العربية على علماء المدينة وشيوخها. ولم يتقدم إلى المدارس الفرنسية الكولونيالية كغيره من أبناء البيوتات الأرستقراطية انذاك وكبار الموظفين في المدينة، لأنه كان يريد له أن يسلك سلوك أجداده في دراسة العلوم الإسلامية.

رحلته إلى تونس:

بعد أن استكمل ابن باديس تكوينه الأسري وتحصيله العلمي القاعدي بقسنطينة؛ ارتأى السفر إلى تونس بجامعها الأعظم جامع الزيتونة، وذلك سنة 1908م ودافعه في ذلك الاستزاده علمياً وفكرياً وثقافياً في هذه المؤسسة العلمية العريقة ـ الشهيرة ـ

أ ـ نبوغ علمي مبكر والانفتاح على المدرسة الخلدونية:

مكث الإمام في تونس أربع سنوات كاملة قضاها دارساً ومدرساً وهي فترة يعتبرها الإمام منعطفاً هاماً في حياته العلمية والتكوينية حيث يقول عنها:

ما كنت لأنسى أربع سنوات قضيتها بالزيتونة، شطرها متعلماً وشطرها متعلماً ومعلماً، فكان لي منها آباء وإخوة وأبناء، فأكرم بهم من آباء وأكرم بهم من إخوة وأكرم بهم من أبناء.

ب ـ حصاد الرحلة:

يمكن القول إن رحلة الإمام عبد الحميد الدراسية العلمية إلى الزيتونة، كانت منعطفاً حاسماً وهاماً في حياته حيث تلقى تكويناً علمياً واسعاً وعميقاً وشاملاً، ألمّ فيه بالعلوم الشرعية النقلية والعلوم الإسلامية التراثية، وذلك على يد أساتذة وشيوخ عرفوا واشتهروا بالعلم الواسع، والخلق القويم، سواء في الزيتونة وتونس أو خارجهما.

العودة من تونس:

بعد تكوين وتحصيل علمي ـ دراسة وتدريساً ـ بالزيتونة دام أربع سنوات، عاد ابن باديس إلى مسقط رأسه قسنطينة سنة 1913م، وذكر ابن باديس استقبال والده ووالدته له بعد رجوعه من تونس، فقال: حينما ولجت باب الدار أسرع أبي إليّ فعانقني، وقال لأمي في سرور وابتهاج: ها هو قد جاءك عالماً، فانطلقت من فيها زغرودة مازلت أتذكرها ولن أنساها، وشعرت من أعماقي منذ ذلك اليوم بمدى عبء المسؤولية التي أحملها على عاتقي بصفتي عالماً، وبما أثرت به في نفسي تلك المناسبة الباقية في ذاكرتي ما دمت حيا.

وبدأ ابن باديس بعد رجوعه واستقبال أهله له في ممارسة العمل الإصلاحي الجهادي وذلك بالجامع الكبير، الذي أمّ الناس فيه في صلاة التراويح مدة ثلاث سنوات من قبل، فكان يلقي دروساً على جمهور المصلين يشرح فيها كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» للقاضي عياض.

اللقاء بين ابن باديس والإبراهيمي:

أهم عمل قام به ابن باديس بعد ذلك رحلته إلى المشرق حيث التقى الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الذي يحدثنا عن حكمة القدر الإلهي في جمعهما فيقول: كان من تدابير الأقدار الإلهية للجزائر، ومن مخبآت الغيوب لها أن يرد عليّ بعد استقراري بالمدينة المنورة سنة وبضعة أشهر، أخي ورفيقي في الجهاد بعد ذلك الشيخ عبد الحميد أعلم علماء الشمال الإفريقي ولا أغالي، وباني النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر.

ثانياً: عوامل تكوّن شخصية ابن باديس:

1 ـ تربية الأسرة والوالد له تربية دينية وخُلقية فاضلة، وتوجيهه توجيهاً صالحاً:

 وقد قال في ذلك: إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي رباني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة اتبعها، ومشرباً أَرِدُه، وقاتني وأعاشني وبراني كالسهم، وراشني وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً، وكفاني كلف الحياة.

2 ـ دور شيوخه وأساتذته ومن تأثر بهم من علماء الأمَّة:

عاش الشيخ ابن باديس في بيئة العلم التي ترعرع فيها، ومما قاله في ذلك: ثم لمشائخي الذين علموني العلم وخططوا لي مناهج العمل في الحياة ولم يبخسوا استعدادي حقه، وأذكر منهم رجلين كان لهما الأثر البليغ في تربيتي وفي حياتي العملية وهما «من مشايخي» اللذين تجاوزا بي حد التعلم المعهود.. إلى التربية والتثقيف، والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة، أحد الرجلين: الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني، وثانيهما: الشيخ محمد النخلي المدرس بجامع الزيتونة المعمور.

لقد تتلمذ ابن باديس على يدي الكثير من الشيوخ والعلماء ومن أهمهم ممن كان له أثر قوي على حياته العلمية والعملية: (محمد حمدان الونيسي 1920م، محمد النخلي القيرواني «1867م ـ 1924م»، محمد الطاهر بن عاشور (1879م ـ 1973م)، محمد البشير صفر «1856م ـ 1917م»، الأستاذ محمد رشيد رضا، الشيخ محمد بخيت المطيعي، حسين أحمد الفيض آبادي الهندي «1878م ـ 1957م»).

3 ـ بيئته الثقافية:

وقد تمثلت هذه البيئة في الحركة الفكرية الناهضة في التأليف والنشر والاهتمام بالعلم والإصلاح والحرية، فكانت بيئته تموج بتيارات ومذاهب متباينة، أبرزها: تعدد الحركات الإصلاحية، والطرق الصوفية، وانقسام أصحاب الرأي، إما إلى الوهابية والسلفية وإما إلى المادية الغربية، فكان على ابن باديس أن يختار الطريق والمنهج الصحيح الملائم لظروف مجتمعه، فجمع حوله العلماء، وأسس جمعية باسمهم في محاولة لمواجهة هذه المتناقضات الفكرية، واتفاقهم في الرأي حول ضرورة الرجوع إلى السلف الصالح، وتغيير ما بالنفس من آثار الانحطاط.

4 ـ مؤازرة زملائه في جمعية العلماء له:

إن العامل الرابع يعود إلى مؤازرة زملائه وإخوانه في جمعية العلماء، الذين ساندوه في الأعمال التي قام بها من أجل النهضة الجزائرية، وتحملوا معه المشقات والأتعاب، واحتضنوا معه الحركة الإصلاحية التي بدأها قبل الحرب العالمية الأولى، حتى أينعت وازدهرت فعمت الجزائر من أدناها إلى أقصاها في الفترة ما بين الحربين العالميتين.

5 ـ دور أبناء المجتمع الجزائري:

أما العامل الخامس في تكوين شخصيته فيعود إلى الشعب الجزائري وما ينطوي عليه من خصال الكرم والنجدة والشهامة، وأصول الكمال الإنساني، والاستعداد الكامل للبذل والعطاء والتضحية بكل غالٍ ونفيس من أجل المصلحة العامة، وقد عمل ابن باديس ما وسعه الجهد طيلة حياته على رعاية وتنمية هذه الخصال النبيلة في أبناء الجزائر ومحاولة تغليبها على عوامل السلبية والأنانية والفردية واللامبالاة حتى تستطيع الجزائر أن تتغلب على واقعها الفاسد الذي وصلت إليه بعد قرن من الاحتلال الغاشم للوطن.

ثالثاً: صفات ابن باديس الخلقية:

اتصف ابن باديس في سيرته العطرة بصفات الدعاة الربانيين، من الصدق والإخلاص والدعوة إلى الله على بصيرة، والصبر، والرحمة، والعفو، والعزيمة والتواضع، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والنظام والدقة، والزهد، والورع والاستقامة، إضافة إلى ذلك فقد اتصف ب: الحيوية العالية، ثباته على المبدأ، شجاعته وصرامته في الحق، الحلم والتسامح، التواضع، الزهد، الجدية وحسن استغلال الوقت، التطوير والتجديد، روح الفريق، التأثير على الجمهور.

المنهج التربوي للإمام ابن باديس:

بنى ابن باديس منهجه التربوي على عدة أسس منها:

  1. التعليم المسجدي:

يرى الإمام عبد الحميد بن باديس أن المسجد والتعليم صنوان في الإسلام من يوم ظهر الإسلام، فما بني النبي صلى الله عليه وسلم ـ يوم استقر في دار الإسلام بيته حتى بنى المسجد، ولما بنى المسجد كان يقيم الصلاة فيه ويجلس لتعليم أصحابه، فارتباط المسجد بالتعليم كارتباطه بالصلاة، فكما لا مسجد بدون صلاة كذلك لا مسجد بدون تعليم.  

  1.  دعم الشعب لطلاب العلم:

كان الإمام ابن باديس بعد اعتماده على الله يتوجه إلى شعبه في دعمه المعنوي والمادي، ولما كثر عدد الطلاب والراغبين في تعاليم دينهم توجه بنداء وبيان إلى الأمة المسلمة الجزائرية التي كانت عند حسن ظن الإمام

  1.  التجول في القطر الجزائري:

لم يكن الشيخ عبد الحميد يكتفي بالدروس التي كان يقدمها أو يشرف عليها، بل كان يقوم في العطلة الصيفية وفي أيام الراحة الأسبوعية بجولات استطلاعية في القطر، يتعرف فيها على أحوال البلاد والعباد، ويلقى الدروس في المساجد والزوايا وحيثما تيسر له ويعلن عن نشاطه التربوي، وعن الدروس العلمية التي يتلقاها الطلبة في قسنطينة حتى يبين الفائدة المرجوة منها لمن يشاء الالتحاق بها.

  1.  طبقات الطلاب:

قسم الطلاب إلى أربع طبقات حسب مستوياتهم، والذين ينهون دراستهم عنده يوجه القادرين منهم لإتمام دراستهم في تونس بجامع الزيتونة، واستمر عمله هذا بهدوء وحكمة وصبر طوال فترة الحرب العالمية الأولى «1914- ـ1918م» وظل يعلم ويربي الصغار والكبار ويعظ ويرشد العامة والخاصة ويوقظ الهمم وينشر الوعي ويدعو إلى الصالح العام، مخططٌ رسمه في ذهنه وطبّقه في الواقع، وكان من طلائع طلابه النبغاء مبارك الميلي، والسعيد الزاهري، والهادي السنوسي، ومحمد بن العابد، والسعيد الزموشي، وابن عتيق، والفضيل الورتلاني، واخرون كثيرون منهم من اكتفى بما تعلمه عليه ومنهم من واصل دراسته في الزيتونة حتى شهادة التطويع.

  1.  توديعه للطلاب في نهاية العام ونصيحتهم:

في العادة عندما تختم الدروس العلمية بالجامع الأخضر يجمع الأستاذ عبد الحميد بن باديس الطلبة ويلقي عليهم كلمة الوداع ويزودهم بالوصايا النافعة، فيذكرهم بما بينه وبينهم من رابطة الأبوة والبنوة، وما بينهم من رابطة الأخوة، وما تقتضيه هذه الروابط مِن محبةٍ مثمرة للأعمال الصالحة في الخدمة العامة ومِن دوامِ اتصالٍ للتعاون على الخير، ومِن تسامحٍ بين الجميع ومن تناصحٍ بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

  1.  بناء جيل من الشباب:

امتدت المرحلة الأولى من جهاده الإصلاحي ثماني عشرة سنة من العمل والجهد المتواصل، تمثلت أولاً في مرابطته مدرساً ومعلماً بالجامع الكبير ثم بالجامع الأخضر من بعده، وفي سيدي قموش، وسيدي عبد المؤمن، وسيدي بومعزة المسجد العائلي، للصغار والكبار معاً بعد أن كان التعليم في مساجد قسنطينة لا يشمل إلا الكبار، وأما الصغار فإنهم يتعلمون القرآن فقط في الكتاتيب على طريقة المغاربة التي يذكرها ابن خلدون في مقدمته، فكان يعلم الصغار من غير تعطيلهم أو توقيفهم عن الدراسة بالكتاتيب صباحاً ومساءً بعد الخروج منها.

 

 

مراجع المقال:

  1. أندري ديرليك، عبد الحميد بن باديس.
  2. عبد الرشيد زروقة، جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي.
  3. عبد العزيز فيلالي وآخرون، البيت الباديسي.
  4. عبد العزيز فيلالي، وثائق جديدة عن حياة خفية في حياة ابن باديس الدراسية.
  5. علي الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس.
  6. عمار الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره.

 

يتبع..

 


: الأوسمة



التالي
حرية التعبير ........رؤية شرعية
السابق
الفتنة الكبرى

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع