البحث

التفاصيل

الغزو الثقافي في المجال التاريخي (3)

الرابط المختصر :

تاريخنا والغزو التنصيري والعلماني:

دأبت الدوائر الكنيسية والغربية بصفة عامَّة على الاشتغال بتاريخنا وحضارتنا بطريقة مكثفة... ولو حصرنا عدد المشتغلين بالتاريخ الإسلامي وتراث الإسلام من هؤلاء لوجدناهم أعداداً غفيرة، وقد تتلمذ على أيديهم من المسلمين كثيرون، كما تتلمذ على أيديهم بعض النصارى العرب الذين خانوا حضارتهم العربية والإسلامية، ولم يكونوا في مستوى النضج الحضاري الذي مثله الشاعر اللبناني (بشارة الخوري) أو السياسي الوطني المصري (مكرم عبيد) الذي كان يقول: (أنا مسلم وطناً مسيحي ديناً)... وكان من أسوأ هؤلاء وأجرَئِهم على الدعوة للتغريب والتنصير الكاتب سلامة موسى والمؤرخان جورجي زيدان، وفيليب حتى ثم تلميذهما (لويس عوض)!!

وقد تعاون المستشرقون والمستغربون معاً على تشويه تاريخنا، ولهم في ذلك خطوط فكرية ثابتة... نستطيع أن نلمّ بأهمها على النحو التالي:

1 – التركيز على فترات الخلاف بين المسلمين وتوسيع دائرة الحديث عنها والإغضاء – بالتالي – عن المساحات الأخرى الكبيرة المتألقة.

2 - القول بأن فترة الالتزام بالإسلام لا تعدو أن تكون فترة العصر الراشد.

3 – إثارة العنصريات وتعميقها بين العرب والبربر والأتراك والفرس بهدف إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين، وهم يتذرَّعون لذلك بإحياء النزعات والخلافات بين هذه العناصر الإسلامية.

4 – محاولة إبراز كلمات (العروبة) و (العرب) و (الفكرة العربي) و (الحضارة العربية) بغرض إثارة الشعوب الأخرى التي ساهمت في صنع الحضارة الإسلامية وتأليبها ضد العرب.

5 – إبراز دور الأقليات غير المسلمة وتحريكها ضد الأمَّة...والزعم بأنها أقلية ظلمت وانتهكت حقوقها.

6 – كراهية كل الدول والجماعات التي أنقذت المسلمين ووقفت ضد الزحف الصليبي مثل المماليك والأيوبيين والعثمانيين، ويفوز العثمانيون بالنصيب الأوفر من حقد هؤلاء لاعتبارات كثيرة.

7 – محاولة إرجاع ما يوجد من صور النهضة في الحياة الإسلامية إلى الاحتلال الأوربي، مثل الحملة الفرنسية على مصر، وبعثات محمد علي إلى أوروبا.

8 – تمجيد كل الذين خانوا الإسلام وحاربوه مثل: مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، وأكبر شاه في الهند وغيرهما... وفي المقابل الانتقاص من قدر المجاهدين والمصلحين وتلفيق التهم ضدهم.

9 – التشكيك في التراث الحضاري للمسلمين بدعوى أن الحضارة الإسلامية منقولة على الحضارة الهيلينية، وأن المسلمين – بالتالي – لم يكونوا إلا نقلة ومترجمين لفلسفة تلك الحضارة، ولم يكن لهم إبداع فكري ولا ابتكار حضاري [المصدر: عبد الكريم علي باز: افتراءات فليب حتى وبروكلمان].

10 – تشويه منصب الخلافة الإسلامية ورميه بأبشع الصفات وإعلان حرب دائمة عليه حتى بعد زواله... وأليس عجباً أن تكون اتفاقية كرزون المبرمة ضمن مؤتمر لوزان (24 يوليو 1924) متضمنة في بندها الأول: (إلغاء الخلافة الإسلامية نهائياً من تركيا) وفي بندها الثاني أن تقطع تركيا كل الصلة بالإسلام!! أليس هذا التدخل في الشؤون الداخلية شيئاً سافراً لعداء لا يشبه إلا تدخل أمريكا أمام أعيننا في شؤون بلد عربي وإرغامه على إلغاء تطبيق الشريعة وتهديد الآخرين الذين يفكرون في السير في هذا الطريق.

11 – تشويه تاريخنا الحديث بطريقة مزرية، وقد ذكرنا أن الدولة العثمانية باعتبارها البلد الذي قام بالدور الأساسي في حماية المسلمين في القرون الخمسة الأخيرة قد فازت بأكبر نصيب من هذا الهجوم التنصيري.

وقد وصل الأمر بهذا الغزو الثقافي المشين أن اعتبر الوجود الإسلامي التركي الذي حمى الشاطئ المغربي كله، وصد الغزو الأسباني الزاحف بعد سقوط غرناطة، وأدخل الرعب في قلوب الأوروبيين وجعلهم يقفون في موقف الدفاع لأربعة قرون.

أقول لقد اعتبر هؤلاء المنقذين الأتراك (استعماراً) واحتلالاً واعتبروا الحركات العلمية للصليبية الدولية ومحافل الماسونية التي باعت فلسطين – حركات تحريرية ثورية!!

واعتبار الأتراك مستعمرين أمر ترفضه طبيعة الأخوة الإسلامية ولئن كان بعض الولاة الأتراك قد أخطأوا في حق العرب... فإن كثيراً من (الحكام العرب) الذين حكموا بعد الترك قد أجرموا في حق شعوبهم... وقد كان الولاة الأتراك في جملتهم أفضل كثيراً من الذين حكمونا في عصور استقلالنا العظيم!! ومع ذلك – وبالإضافة إلى الأخوة الإسلامية – فنحن نتساءل:

هل كانت تركيا دولة استعمارية؟ 

ولكي نجيب – علمياً على هذا السؤال لابد لنا من أن نتفق على معنى (استعمار)... الاستعمار تاريخياً – حالة معينية من التطور الاقتصادي... تقف في قمة التطور الرأسمالي، فهل كانت الدولة العثمانية واقفة هذه في القمة؟ بالطبع لا... لقد كانت أفقر من بعض البلاد الإسلامية التي يقال أنها خاضعة لها، والعلاقة الرسمية الوحيدة التي كانت تربط مصر – مثلاً – بتركيا هي الخطبة للسلطان، وحق السلطان في تعيين الوالي... الوالي الذي لا يملك من الأمر شيئاً، والذي كان المماليك والعلماء بل والعامة يملكون عزله في أي وقت، ودون إبداء الأسباب، وقبل الغزوة الفرنسية استقل مملوك فعلاً بمصر (علي بك الكبير) ولولا خيانة زوج ابنته لما استطاع العثمانيون مواجهته، بل إن المماليك ظنوا أن الغزوة الفرنسية كانت بتدبير من السلطان العثماني، وواجهوا مندوبه البائس في مصر باتهامهم هذا [المصدر: نشر دار المنشورات العربية – بيروت (ترجمة خليل الجر)] 

فهل جاء نابليون الغازي لتحرير مصر من الأتراك المستعمرين؟ أليس هذا القول من اللعب بالألفاظ أو اللعب بعقولنا؟ ومن كان يحكم مصر في ذلك الوقت؟

وهكذا يمضي الخط التنصيري والتغريبي حاملاً معول الهدم في تاريخنا... فهذا (دومينيك سورديل) صاحب كتاب (الإسلام) [نشر محمد جواد مغنية الترجمة د. مصطفى الرافعي] يعالج تاريخنا وكأنه يعالج حركة وثنية غامضة ويقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم (إننا لا نعرف الكثير عن شخصية محمد قبل تبشيره بالإسلام، ولا نعرف بالتأكيد إلا تاريخ هجرته من مكة إلى المدينة) مع أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة أوضح حياة بالنسبة لكل العظماء والأنبياء... وحياته في مكة تكاد تعرف يوماً بيوم... ويستمر (دومينيك) في تشويه حروب النبي صلى الله عليه وسلم وفي تشويه تاريخنا كله.

وفي كتاب آخر يحمل الاسم نفسه وقد ألفه (هندري ماسيه) نتابع الأخطاء نفسها عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتطور الحياة الإسلامية والنظر إلى محمد على أنه ليس نبياً وعلى أن القرآن من صناعته [نشر دار المعارف بمصر ترجمة د. حسين حبش] وأما (أس – ترتون) صاحب كتاب (أهل الذمة في الإسلام) [ترجمة علي زعيتر نشر بيروت (الدار المتحدة للنشر)] فقد عمد إلى تشويه التسامح الإسلامي، فيصور (الأقباط) في مصر والشام على أنهم مضطهدون طيلة العصر العباسي وما تلاه... وهو يجعل المسلمين دائماً سبب أية فتنة طائفية تقع، مع أنه لم يملك إلا الاعتراف بطغيان الأقلية الصليبية واستبدادها وفي كثير من الأحايين.

ويأتي (كاردوقو) الفرنسي صاحب كتاب (مفكرو الإسلام) [انظر في الكتاب السابق صفحات 13،14،15،19،24،38،47،72،83،84،88 وما بعدها] ليسير على الدرب نفسه ويصف الخلفاء بما ليس فيهم، فالمنصور العباسي كان منجماً و (أم الرشيد) قامت بوضع السم للهادي أخي الرشيد حتى يخلو الأمر لابنها، ويصور الخليفة هارون الرشيد – شأنه في ذلك شأن جورجي زيدان وغيره – بالصورة نفسها التي صورتها ألف ليلة وليلة وكتاب الأغاني للأصفهاني: بل إنه ليكابر ويقول بأن روايات ألف ليلة ذات طابع تاريخي وهو يتمادى في تخطبه فيرى أن هرورا سياف الرشيد كان يقطع الناس إرباً لأقل هفوة ويرى أن البرامكة قد نكبهم الرشيد ظلماً، وربما أن هناك زواجاً اسمياً تم بين (العباسة أخت الرشيد) وبين جعفر البرمكي، وهي الأسطورة التي نسج حولها أوهامه (جورجي زيدان)... وحتى (المأمون) جعله (كارادوقو) محباً لعادات الفرس السامانيين، وأما صلاح الدين الأيوبي فكان عند (كارادوقو) مرائياً نفعياً يتظاهر بأنه سني غيور والويل (لمحمد الفاتح) لأنه بطل إسلامي وفاتح عظيم، ولهذا يعتبره كارادوقو – لهذا الحب – متقلب الخلق عنيفاً جافاً !!

وبالإضافة إلى هذا الحشد الغريب من الافتراءات يضيف (كارادوقو) (صراحة) أخرى حول المؤرخين العرب المسلمين المعتمدين لديهم، أي لدى المستشرقين فيقول: إن مؤرخي الشرق الإسلامي لا يتمتعون بالشهرة في الغرب، والمؤرخون الذين عرفوا في الغرب ليسوا مسلمين، إن المؤرخين المعروفين لديهم هم (جرجس، ابن العميد الملقب بالمسكين ت 1273م) والشماس القبطي بطرس الراهب، وبطريك الإسكندرية المشهور (يوتخيوس) واليعقوبي ابن الصبري، أما عشرات المؤرخين الموثقين بالمسلمين بدءاً من مؤرخي السيرة والمغازي، ومروراً بالطبري وابن الأثير، وحتى المقريزي، وابن كثير، وابن خلدون، وغيرهم فهم غير معروفين في الغرب)!!.

ولهذا فإن (كارادوقو) نفسه لم يقدم من بين مؤرخي الشرق الإسلامي المعاصرين إلا (جورجي زيدان) ذلك المعول الهدامفي تاريخنا، والذي ثبت ولاؤه المطلق للمحافل الماسونية وللتوجيهات الاستشراقية، والذي قام بتحريفات فاحشة في تاريخنا في تلك السلسلة التي سماها (روايات تاريخ الإسلام) ! وتاريخ الإسلام منها براء!!

والحق أن كل ما كتبه المؤلف من مدح لجورجي زيدان يؤكد المنهج الذي أشرت إليه سابقاً، وهو المنهج الذي يمدح المفسدين (كهولاكو وأكبر) ويذم المصلحين كصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح.

ولكننا لا نغفل هنا لمحة للمؤلف تضم إلى لمحاته (الصريحة) السابقة وهي لمحة تؤكد رأينا في جورجي زيدان – ويشير إلى أن المستشرقين فقدوه منذ زمن قليل، فكأنه يعتبره – وهو عربي – مستشرقاً وهذا ما نميل إليه.

لقد كان – بحق – كارل بروكلمان (ولد في ألمانيا عام 1868م) واحداً من المفكرين الذين بذلوا جهداً كبيراً في مجال التاريخ الإسلامي والأدب العربي، فكتاباه (تاريخ الشعوب الإسلامية) و (تاريخ الأدب العربي) من أهم الكتب التي ألفها المستشرقون ومن أخطاها لدى القارئ العربي – لكن (بروكلمان) على الرغم من هذا لم يستطع التخلص من المناخ نفسه الذي يفرض (الفكرة السائدة عن الإسلام) على المستشرقين...

فبروكلمان في (تاريخ الشعوب الإسلامية يعتبر الحجر الأسود وثناً يعبده المسلمون) وهو يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم اعترف بثلاثة آلهة في الكعبة في سنواته الأولى ويتهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن صلته بالوحي كانت صلة ظنية احتمالية [افتراءات فيليب حتى وكارل بروكلمان]!!

ويرى أن القرآن الكريم قد انبثق عن اليهودية والنصرانية وكيَّفه محمد صلى الله عليه وسلم تكييفاً خاصاً وفقاً لحاجات شعبه الدينية. ويرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرضى اليهود بتشريع صيام رمضان ويتهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بقتله مالك بن نويرة من أجل زوجته، وفق الرواية الكاذبة التي أشاعها بعضهم. ويرى أن ثراء عثمان رضي الله عنه غفر له عند الرسول صلى الله عليه وسلم النقص في كفاءته الشخصية. ويصف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بأنه انتهازي لا ذمة له ولا زمام. ولفظ في قضية العباسية أخت الرشيد وفق المنهج المنحرف نفسه [افتراءات فيليب حتى وكارل بروكلمان].

ونتابع صفحات هذا الغزو التنصيري لتاريخنا، فنجدها عند جل المستشرقين من أمثال لامنس، وموير، ومرجليوت، وتولد كه، ودوزي، وكيتاني، وماريسه، وغولد زهير،وإسرائيل ولفنون (اليهودي) وغيرهم.

وحتى بعض المستشرقين الكبار المشهورين بشيء من الحيدة والإنصاف... لم تخل كتاباتهم من سقطات كبيرة، فغوستاف لوبون صاحب كتاب (حضارة العرب) عاش يؤمن بأن غير الأوروبي في مستوى (القرد) مهما تعلم وتحصل على الدكتوراه في الحقوق والأدب [انظر نظريته تلك في كتابه السنن النفسية لتطوير الأمم وفلسفة التاريخ]. 

 

 

وأرنولد توينبي يعتبر عودة الإسلام لقيادة الحضارة من الأخطار الضخمة وتمنى أن لا يحدث ذلك [انظر الصفحة الأخيرة من كتابه (الإسلام والغرب والمستقبل)].

بيد أن (فيليب حتى يعتبر من أكثر من احتشدت كتبهم بالافتراءات في نطاق التاريخ الإسلامي، مع محاولة أن يظهر بروح علمية منصفة – وتقديمه كثيراً من كلمات المدح للحضارة الإسلامية).

نموذجاً للمستغربين من العرب النصارى) أنه لبناني الأصل ينتمي أصلاً لحضارتنا وقد تفيأ ظلالها، لكن بعد أن تخرج من الجامعة الأمريكية ببيروت سنة 1908 ذهب إلى أمريكا حيث حصل على الدكتوراه (1915) وعاش في أمريكا بعد ذلك متدرجاً في الوظائف الجامعية، وحصل على الجنسية الأمريكية وأصبح مستشاراً في معاهد الاستشراق وأجهزة الاستخبارات ورئيساً لقسم اللغات الشرقية... ومن خلال كتبه (أصول الدولة الإسلامية) و(سوريا والسوريون) و(تاريخ العرب) و(الموجز) و(المطول) و(أصول الشعب الدرزي وديانته) و (تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين) استطاع أن يبث كثيراً من الأفكار المزيفة حول تاريخنا، ولم يكن أميناً في تقديم حضارتنا للأوروبيين.

إن (حتى) ينفي كل معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ما عدا القرآن، ويقول أن القرآن لم يعترف إلا بهذه المعجزة الوحيدة [تاريخ العرب المطول 1/177 نقلاً عن (افتراءات فيليب حتى عبد الكريم باز ص 45).].

مع أن القرآن والحديث أكد وجود معجزات أخرى للرسول كانشقاق القمر، والإسراء والمعراج، ونبع الماء من بين أصابعه ومعجزة الغار، وسراقة، وغيرها، ويتهم (حتى) الصحابة (باتفاق) على موضوع (السقيفة) فيقول: (ولعل مبايعة أبي بكر كانت مطابقة لمشروع دبر قبل ذلك بينه وبين عمر وأبي عبيدة) وهو اتفاق وهمي اخترعته عقول مريضة ولم يقم عليه أي دليل، وقد رد عليه كل الذين كتبوا بإنصاف في تاريخ الإسلام وفي النظريات السياسية الإسلامية.

ويتكلم عن سياسة عمر رضي الله عنه في إدارة الدولة فيرى أن عمر رضي الله عنه وضع الدستور الفكري الاشتراكي الذي جعل للعروبة سمواً، وللمؤمن العجمي درجة أسمى من غير المؤمن.

وأقل ما يرد به على هذا الادعاء سلوك عمر رضي الله عنه نفسه، وتهديد أحد الصحابة له بتقويمه بالسيف لو وجدوا فيه اعوجاجاً.

فهل هذا يتناسب مع الحكم العسكري الاشتراكي فضلاً عن أن استعمال كلمة (اشتراكية) المعاصرة اسقاط فاسد على تركيبة حضارية مختلفة تماماً لها أصولها ونظمها المتكاملة، ويغزو (حتى) الحماسة البريئة في الفتوحات إلى الدافع الاقتصادي وهذا أمر منتظر من (حتى) الذي أراد بمشيئته أن ينتمي إلى حضارة مادية فهو لن يستطيع فهم الدوافع الروحية...أما لجزية فقيمتها المادية تنفي هذا، وفقد كان المسلمون يردونها حين يعجزن عن الدفاع عن أهل الذمة... وقد رد على هذه الشبهات (توماس أرنولد) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام)...

 

وبما أننا لا نستطيع – في هذه العجالة – مناقشة (حتى) في كل آرائه، لأن المناقشة الصحيحة لها تستوجب صفحات طويلة، بينما المناقشات العابرة تضر بالقضية... فنحن – بالتالي – سنشير إلى بعض أغاليطه... ونعتقد أن أكثرها من الوضوح بحيث يدرك حقيقته جمهور المسلمين، فضلاً عن المختصين.

يرى (حتى) أن المشكلة الأولى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت في التخلص من منافسيه في الوظيفة الكبرى (الخلافة) وعلى رأسهم طلحة والزبير رضي الله عنهم اللذان كانا يمثلان الحزب الملكي... وقد انضمت عائشة إلى صفوف المتمردين ضد علي في البصرة [تاريخ العرب المطول 1/177 نقلاً عن (افتراءات فيليب حتى عبد الكريم باز ص 45)].

ونحن – فقط – في هذا المقام – نحيل القارئ إلى ما كتب في هذا الموضوع في الطبري وابن الأثير، وابي ببكر بن العربي صاحب العواصم من القواصم، والذهبي صاحب طبقات الحفاظ، والدكتور إبراهيم شحوط في (أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ)... فهذه الدراسات وغيرها كثير – قد عرضت لهذه القضية بحياد وموضوعية يستحقان التنويه.

ولم تكن الدولة الأموية لتمر دون تعريض سواء في شخص معاوية رضي الله عنه أم في خلفائه...وقد زعم (حتى) أن عبد الملك بن مروان قد ابتنى في بيت المقدس الصخرة وكان غرضه أن يحول إليها أفواج الحجاج من مكة، والتي استقر فيها منافسه ابن الزبير.

وأظن أن هذا الادعاء يكشف جرأة (حتى) بطريقة مزرية، فعبد الملك بن مروان فقيه عابد ناسك (كما وصفه ابن حجر والكتبي وابن الأثير وابن كثير) وقد احتج بقضائه الإمام مالك في الموطأ، فكيف يتسق هذا مع هذا الكفر الذي يرميه به – بلا سند – المؤرخ (حتى)؟!

وهو يتهم عبد الملك وابنه الوليد وهشاماً بتناول الخمور معتمداً على (الأغاني) الذي لم يقصد به صاحبه أن يكون تاريخياً، لكن (حتى) وأمثاله يصورون – بالقوة – على أن يكون الأغاني وألف ليلة وليلة هي المصادر التاريخية التي يتكئون عليها... فأي منهجية هذه ترى؟!

وفي حديثه عن الدولة العباسية ينتهي إلى السقطات نفسها التي انتهى إليها غيره من المستشرقين مثل قصة العباسة، وعلاقتها بنكبة البرامكة [تاريخ العرب المطول 1/177 نقلاً عن (افتراءات فيليب حتى عبد الكريم باز ص 45)] وهلم جرا...

وهكذا يتضح لنا خيوط الهجمة التنصيرية والعلمانية على التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والهدف الأساسي الذي تسعى إليه هذه الهجمة هي فك الارتباط الروحي والوجداني والعقلي الذي يربطنا بهذا التاريخ ولاسيما بفترة الاجتماع التشريعي فيه، وهي فترة الرسالة والراشدية متى ما تم هذا... فإن تجريدنا من بقية صور انتمائنا للإسلام تصبح أمراً سهلاً ميسوراً وهذا هو هدفهم الكبير!!

[وللمقالة تتمة، وسيكون الحديث في الجزء القادم عن: تاريخنا والغزو الماركسي]

المصدر: مجلة المسلم المعاصر، رجب، شعبان و رمضان 1406 – العدد47

 

 

 


: الأوسمة



التالي
رمتني بدائها، وانسلَّتْ.. !
السابق
القرضاوي: المجتمع المسلم المتآخي مجتمع واحد في عقائده الإيمانية، وشعائره التعبدية، ومفاهيمه الفكرية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع