البحث

التفاصيل

كتاب : الدعوة الإسلامية في القرن الحالي -الحلقة [ 2 ] الفصل الأول : ولادة الدعوة

الرابط المختصر :

ولدت الدعوة يوم ولدت العقيدة، وولدت معهما العبادة والأخلاق وقيم المجتمع الفاضل.

ونظرة إلى أول سورة نزلت من القرآن الكريم تعطينا هذه الحقيقة الواسعة (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق)

العلم، باسم الله أساس لهداية الإنسان في هذه الحياة.

يوجد علم مقطوع عن الله، إنه علم لا خير فيه. ويوجد إنسان نابغ أو قاصر مقطوع كذلك عن الله، إنه إنسان لا خير فيه حلق في السماء أو دب على الثرى.

وتفجؤنا مع أول بشائر الوحي هذه الحملة على الغنى المطغي، لأن الثراء الفاحش إذا تجهم لواهبه الأعلى ولد الشح والعقوق، ثم جاء رد الفعل هذه الفلسفات المادية الكفور التي ترفض فكرة التملك وتخاصم رب الأرض والسماء.

ماذا كان على الغنى لو أنه أخرج حق الله فيما موله وخوله؟ ولكنه كفر صغير حولته الفتن إلى جاهلية موهوبة (كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى)

ومع التفاتة الوحي الأعلى إلى أثر المال في المجتمع، تجد الحديث مباشرة عن الصلاة أنها العلاقة الوحيدة بين الكائنات وبارئها.

ومع ذلك فإن الجاهلية عندما تنمو وتستفحل تضيق بالصلاة وتتحدث في صفاقة عن تعطيلها للإنتاج.

أي إنتاج؟ إن أسبوع العمل في أرقى دول العالم أربعون ساعة ( 5 × 8 ) يمكن خلالها إعداد القناطير المقنطرة من مطالب السلم والحرب، ولكن الذين لا يحسنون إنتاج شيء طائل يشغبون على الصلاة ويضيعون في السهو واللغو 168 ساعة (7×24) (أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى )

عبد مهتد مستقيم يصلي ويريد جعل الصلاة من معالم المجتمع، يتحرك بها ويشرف، ولكن البطالين الكارهين لله لا يريدون الأرض معابد، انهم يريدونها لأنفسم ومآربهم ملاهى ومساخر.

حسب أحدهم من هذه الأرض أن تكفل ضروراته ورفهاته، ولا شيء بعد (أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى).

وحديث أول سورة في القرآن عن الله والإنسان والغنى والفقر والصلاة والشهوات حديث يتسم كما ترى بالإيجاز الشديد.

إن هذه كلها بواكير عاجلة لها ما بعدها من تفصيل طويل. ومع ذلك فإن الأمر اقتضى زجر أعداء الدعوة، وتخويفهم بما أعد الله لهم يوم اللقاء (كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية)

وإذا ألقينا نظرة ثانية على السورة الثانية التي نزلت من هذا الكتاب العزيز (سورة المدثر) وجدنا جملة هذه العناصر مؤتلفة على نسق آخر.

العقيدة، والدعوة، ومعالم المجتمع الثابتة، وجهاد النفس، وجهاد الناس، وتحريك الحياة كلها لتعمل لربها، وتستمد منه وحده وتستعد للقائه أخيراً.... (يا أيها المدثر * قم فأنذر).

إنه لا بد من إشعار المخطيء بوخامة عاقبته . والطبيب الناجح يذكر لمريضه ما سوف يصيبه إذا بقيت العلة تنخر كيانه، والإنذار مطلوب بقوة إذا كان المجتمع لا يبغي ما يفعل، أو يستحسنه على دمامته، وقد قال تعالى: (وربك فكبر).

هذه شارة الرسالة السماوية: تكبير الله، لا تكبير بشر، ولا تكبير وطن، ولا تكبير جنس.

(وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر) ظاهر أن هذه التوجيهات كلها، لإحراز الكمال النفسي وإقرار السمو الاجتماعي..

إن الحياة الدينية لا تنهض إلا على هذه الدعائم، والآفة التي تزري بالدين وأهله هى الالتفات المستغرب إلى الصور والرسوم على حساب الحقائق الجليلة.

وقد جاء في هذه السورة الثانية ـ مما نزل من الوحي ـ تنبيه إلى أسباب الهلاك العاجل والآجل (كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين)

إن أصحاب اليمين رجال كدحوا لله كدحا فلقوه، ومن وراء هذا الكدح إرادة جادة تصلي، وتعطي، وتترفع عن الدنايا، وتتأهب ليوم اللقاء…!!

أما أصحاب النار فكيف يصلون لمن ينكرون؟ وكيف يعطون وهم عبيد أنفسهم؟ إنهم قد يرمون ببعض الفضلات للمحتاجين، بيد أن ذلك العطاء القليل لا يغني في الإصلاح الاجتماعي الشامل.

والغريب أن هذه السورة الثانية ذكرت صورة للغنى المطغى حين يستكبر على الحق، ويأبى التمشي مع المنطق السديد (ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا)

وعناية أوائل الوحي بالأوضاع الاقتصادية على هذا النحو الواعى له دلالته.

والواقع أن الإسلام إذا خالط أمة من الأمم حولها إلى ميدان موار بالحركة واليقظة، مشغول بالبناء والإنشاء، يخاصم العلل المفسدة ويشتبك معها في قتال دائم، ويصادق أسباب النماء والعفة والتقى، ويغرسها بأعماق الجماعة.

والإسلام معرفة لله، واستكانة لحكمه، وانسجام مع الكون المسبح بحمده، الهاتف بجلاله ومجده، فلا مكان فى أرض الإسلام- الصحيح- لوثنية دينية أو سياسية، والشعار المهيمن على النفوس والصفوف هو " الله أكبر " يبدأ به الأذان ويختم، وتساس به الجماهير وتشغل، ويختلف الليل والنهار على الأمة الإسلامية وهي تعمل له، أو تستجم لمتابعة العمل.

والدعوة الإسلامية دليل هذا كله وحاديه الأوحد.

وربما وصف بالدعوة بعض الوعاظ الذين يرققون القلوب، ويذكرون بالخير ويعينون على العبادة. وهذا وصف يصح على ضرب من التجوز فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتخول، أصحابه بالموعظة مخافة السآمة عليهم، ولكن شأن الدعوة أوسع مكانا وزمانا من هذا النصح المؤثر البليغ..

وربما منحت الدعوة أركانا في برامج الإعلام تطول أو تقصر، وقد يسمى أولئك المتحدثون دعاة على اختلاف الموضوعات التي يطرقونها، وهذا أيضا وصف مجازى للدعوة الإسلامية، فإن التدريس والحوار بعض الجوانب العلمية للرسالة الإسلامية.

أما الإسلام نفسه فدائرته أوسع وأضخم، إنه أجهزة دولة كاملة تشمل التعليم والتشريع، والقضاء والجيش والتوجيه الداخلي والتمثل الخارجى، والهيمنة على كل نشاط مدني ليكون طاقة تتحرك بها دواليب الإسلام في أية ناحية...

وإذا كانت الشيوعية فى أرضها تأبى إلا وضع بصماتها على كل شيء فكيف ينتظر من الإسلام ـ وهو دين الأزل والأبد ـ أن يقبع في زاوية من زوايا المجتمع ضاقت أو اتسعت ؟ كلا.. إنه يصب كل شيء في قوالبه ليصوغه وفق مراد الله.

والدولة الإسلامية داخل حدودها، وخارج هذه الحدود، تمثل دينها، وتعمل له، وترفع شعاره، وتوالي أو تخاصم من أجله، وكل جهد في الدولة يمثل عملا إسلاميا معينا، ومن جملة هذه الأعمال تتكون شعب الإيمان كلها .

وفي الشيوعية مثلا يعتبر عاملا لها من يغزو الفضاء ومن يدرس فلسفة ماركس، كلا الرجلين يسعى فى مجاله إلى غاية واحدة .. كذلك المنتسبون إلى الإسلام وان اختلفت أعمالهم ماديا وعلمياً، إنهم جميعاً يخدمون الدعوة في ميدانها العريض ويقومون بما ترشحهم له مواهبهم أو يقومون بما يكلفون به وفق مصلحة الدعوة العليا.

تلك هى رسالتنا الكبرى وأولئك هم رجالها الأصلاء .

والعمل المعجز الذي قام به محمد صلى الله عليه وسلم أنه كون من عرب الجزيرة جيلا يفقه هذه الرسالة، ويحيا بها ويموت من أجلها.

إنه سهل على الفيلسوف الحالم بالإصلاح أن يؤلف كتابا فيه أفكاره، أما تكوين أجهزة نفسية وعقلية واجتماعية تعمل لرسالة معينة كما تعمل النحل في خلاياها لإنتاج العسل فهذا شأن آخر.

والرسالة الإسلامية التي بلغها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تمخضت لها جماهير منوعة الهمم والمواهب والملكات، وما كان يمكن أن تنجح لولا أن صاحب الرسالة سكب في أفئدتها من يقينه وتجرده وإخلاصه ما جعلها خلقا آخر.

قال المؤرخون: إن نحو مائة ألف أدوا المناسك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، واستمعوا إليه وهو يذكرهم بالإسلام في خلاصات نابضة ويقول" اللهم قد بلغت.. اللهم اشهد "..

إن هذه الألوف عرفت دينها وقررت فرضه على الزمن... فلما ذهب رسولها إلى الرفيق الأعلى انطلقت وحدها بالرسالة وكأنه معها. إذا لم يكن معها بكيانه فقد كان معها بكتابه وسنته.

ومن هنا مضى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من بعده ينشرون التوحيد، ويقيمون العدل، ويحاربون الأوهام والعوج، وتنظر إليهم الشعوب فترى فيهم ناسأ مكنوا في الأرض فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر...

وهكذا استقرت الدعوة الإسلامية على عهد النبوة، ثم بدأت الدعوة طورا آخر على عهد الخلافة الراشدة.

 

محمد_الغزالى

الدعوة_الإسلامية_في_القرن_الحالي#


: الأوسمة



التالي
واصفاً بأنها جرائم حرب ضد الإنسانية ضد شعب مظلوم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يندد بالهجمات الوحشية ضد درعا
السابق
عندما أنقذ السلاجقة العرب والمسلمين.. تاريخ كُتب بإيمان وعزيمة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع