البحث

التفاصيل

كتاب : الدعوة الإسلامية في القرن الحالي فضيلة الشيخ محمد الغزالي الحلقة [ 6 ] الفصل الخامس : مولد الخلافة التركية

في منتصف القرن السابع ماتت الدولة العباسية بعد حياة طويلة مليئة بالغفلة والتفريط.

وفي نهاية هذا القرن ولدت الخلافة التركية، وكانت أول الأمر دويلة ضعيفة الشأن، ثم ظلت تتقلب في مراتب القوة حتى أضحت ـ باسم الإسلام ـ الدولة الأولى فى العالم.

والمسلمون لا يكترثون لاختلاف الجنس ، فإن العقيدة الجامعة محت فروق الدم واللون، وقد رأى المسلمون من قبل عناصر تركية تقود الخلافة العباسية كما رأوا أمراء من السلاجقة والأكراد والمغول يؤسسون دولاً بين العراق ومصر، ويبلون أحسن البلاء فى الدفاع عن الإسلام. ولم يشعر العرب بضيق من هذه القيادات البعيدة عن جنسهم، بل عاونوها، وقاسموها المغارم والمغانم.

ونحن نريد إلقاء نظره فاحصة على الأحوال التي اكتنفت المسلمين عند سقوط العباسيين وبعد أيلولة الأمر إلى الترك لنعرف السر فى النهج الذي سارت عليه الخلافة الجديدة مع الصليبية الغربية، وأثر ذلك في الدعوة الإسلامية إلى اليوم.

ظلت " أوروبا، قرنين من الزمان في حرب عوان مع العالم الإسلامي، ومع أن هذه الحرب انتهت بتراجع الصليبية العالمية بعد ما لقيته من هزائم، إلا أن التضحيات الفادحة التى قدمها المسلمون تركت في نفوسهم ذكريات مرة.

وكان يمكن أن تتلاشى هذه الذكريات لولا أن الصليبية بقيت تحارب الإسلام وأمته سرا وعلنا في جبهات جديدة نشير إليها بإيجاز.

( 1 )  في غرب البحر المتوسط كان الأوروبيون يعملون بدأب على محو الإسلام من الأندلس، وقد مضوا في هذا الطريق إلى نهايته وحققوا على مر الأيام بغيتهم، ولا شك أن تفرق المسلمين في الأندلس وإقبالهم على فنون الترف كانا الأساس الأول لذهاب ريحهم، وغلب الصليبيين عليهم.

وقد سقط الحكم الإسلامي فى هذه الأرض بعد سقوط الشعائر والآداب والتقاليد الإسلامية فى ظل أمراء لم يكونوا لله خلائف، بل كانوا في الأرض طوائف: ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين )

وقد قام الصليبيون بحرب إبادة عامة عقب انتصارهم لم تدع للدين وأهله أثرا من حياة .

( 2 )  أما في الشرق الإسلامي فقد قام الصليبيون بعمل مزدوج، فقد كاتبوا التتار وأغروهم بالهجوم على العالم الإسلامي، واهتبل أولئك أول فرصة فانساحوا من بلادهم إلى قلب الأمة الإسلامية ودمروا المدن العظام وأسقطوا دولة الخلافة كما ذكرنا، وكانت الخسائر المادية تبلغ أحيانا 80% في المدن والقرى التي يجتاحونها.

أما العمل الآخر فقد كانت الصليبية الغربية على علاقات وثيقة بالنصارى الذين يعيشون يين ظهراني المسلمين.

وقد رحب هؤلاء النصارى بالفاتح المعتدي، واستقبلوه في بغداد وغيرها بالبشر والترحيب، وأظهروا الشماتة بالمسلمين المهزومين، وأهانوا مساجدهم، وكان هذا المسلك بالغ الخسة لأن المسلمين إبان سطوتهم لم يسيئوا إلى مخالفيهم في الدين.

وقد تركت الهزائم والخيانات آثارا مظلمة في أفئدة الجماهير. وأشعرت المسلمين ـ حكاماً ومحكومين ـ أن أوروبا تريد الإجهاز عليهم، وأن الصليبية برغم تراجعها أمام صلاح الدين لا تزال تفكر تفكيراً كله ضغائن وعدوان.

إن هذا يفسر لنا: لماذا انطلق حكام الدولة العثمانية إلى شرق أوروبا، ولماذا عبأوا جيوشهم في الأناضول تحت راية التوحيد وزحفوا غربا لا هم لهم إلا ضرب الصليبية في عقر دارها، والثأر لما أصاب الإسلام والمسلمين من شرها.

كان عثمان ـ رأس الدولة ـ مسلماً شجاعاً طموحاً، حكم نحو ربع قرن وشن الحرب على عدوه فأحرز انتصارات باهرة كان آخرها الاستيلاء على مدينة " بروسة " التي جاءه نبأ فتحها وهو يحتضر، فأمر بتحويل كنيستها إلى مسجد، وأمر بنقل رفاته إلى هذا المسجد في ضريح خاص.

ونحن نعرف أن هذا المسلك يرفضه الفقه الإسلامي، ولكن الشعور الغالب يومئذ كان المعاملة بالمثل، وما دام النصارى حولوا المساجد إلى كنائس، فلا حرج من مجازاتهم بمثل ما فعلوا‍‍!!

كان ذلك في القرن الثامن بعد سقوط الخلافة العباسية بسبعين سنة !!

وفي منتصف القرن التاسع وقع الحدث الضخم، فإن السلطان محمد الثاني توجه بجيش جرار إلى القسطنطينية وحاصرها براً وبحرا، وكان الفن الحربي عند المسلمين الأتراك متقدماً جداً، كانت مدافعهم الصاروخية ترسل القذيفة زنتها اثنا عشر قنطارا إلى مسافة ميل وهو أمر في ذلك العصر يعد من الخوارق المعجزة.

والغريب أن المسلمين الأتراك تقدموا من الجبهة نفسها التي تقدم منها المسلمون في منتصف القرن الأول ومات من أبطالهم أبو أيوب الأنصاري، وظل قبره على مشارف المدينة الشامخة ثمانية قرون، لقد صمدت للحصار الأول، وانصرف العرب يائسين تاركين شهداءهم الأوائل شاخصا يدل على الطريق، حتى جاء هؤلاء الأتراك فأكملوا الرسالة على يد رجل معروف بالصلاح والتقى والرغبة في الجهاد، هو محمد الثانى الذي عرف بعد بمحمد الفاتح.

وتكريما لأبي أيوب الأنصاري أمر محمد الفاتح ببناء مسجد عند قبره يتم فيه تتويج سلاطين آل عثمان ويتسلمون فيه سيف السلطان عثمان المؤسس الأول للدولة.

والتقليد الذي ذكرناه ـ لا يتفق مع الفقه الإسلامي ـ ولكن الرجل مضى مع عاطفته فأمر بتحويل كنيسة أياصوفيا إلى مسجد جامع، وأعلن في الوقت نفسه أن النصارى أحرار فى أداء شعائرهم الدينية بسائر الكنائس الأخرى، إن الرجل وإن انساق قليلا مع مبدأ المعاملة بالمثل إلا أن طبيعة الإسلام غلبته فاحترم حرية التدين، وترك لمخالفيه في العقيدة أن يقيموا مراسمهم الدينية في حماية الدولة وذمتها.

ومما يذكر أن آخر إمبراطور لدولة الروم الشرقية استمات في المقاومة وأخذ يمر بجنوده في حصونهم يحضهم على الاستبسال في القتال، وهيهات، فقد كان على رجاله أن يدفعوا ثمن أخطاء كثيرة ارتكبها الصليبيون فتم أقطار كثيرة، فتم فتح المدينة وغير اسمها إلى " إسلامبول " أو " إستامبول " أو " دار السلام".

يقول أحد المؤرخين الإنجليز: كان لمحمد الفاتح من شعبه المطواع الذي تدرب على احتمال كل المشاق عدا التفكير في المستقبل، ومن جيشه المحترف المتمرس بالحروب، ومن صفوف مدافعه الجيدة ما أعطاه ميزة السبق على أعدائه المنقسمين على أنفسهم. وكان دوى المدافع العثمانية يهدر على شواطئ الفرات والدانوب حتى حدود ألبانيا، وعند وفاة محمد الفاتح ـ أواخر القرن التاسع الهجري ـ كانت دولته تشمل آسيا الصغرى وبلاد اليونان وأغلب دول البلقان، بل كان العثمانيون قد وضعوا أقدامهم على جانبي بحر الأدرياتيك، أى أن إيطاليا كانت في مهب نفوذهم.

لقد حقق المسلمون الأتراك ـ حتي عهد محمد الفاتح ـ ما عجز الخلفاء العباسيون عن تحقيقه، إن الصليبية العالمية نجحت في اقتحام الحدود الإسلامية أيام العباسيين، وغزت المسلمين فى عقر دارهم، وفكرت فى بلوغ المدينة المنورة نفسها..

كان الحكم العربي قد ترهل، وأدركه الكلال وأقعده الترف والتنعم عن فعل شيء طائل.. فلما نهض المسلمون الأتراك بالعبء حولوا الدفاع الفاشل إلى هجوم ناجح، وأعانتهم بداوتهم وفروسيتهم على تأديب الصليبيين وشغلهم بأنفسهم عدة قرون

***

• الأتراك والعرب والدعوة الإسلامية:

إلا أنه في غضون القرن العاشر طرأ على العسكرية التركية تغير كبير، لقد كانت آلات القتال لديها تعمل ضد الصليبية الغربية وحدها.

فلما جاء السلطان سليم الأول قرر أن تخضع بقية الأجناس الإسلامية للعنصر التركى ، وكان سليم باطشا فاتكا مسعر حروب، فأعلن الحرب على الفرس ثم على العرب في مصر والشام، وكان النصر حليفه، وسارعت جزيرة العرب إلى الصلح معه.

ولم ينته هذا القرن حتى كانت الأمة الإسلامية تقريبا تمشي تحت راية الترك، وتتلقى تعليماتها من " إستامبول ".

ونريد أن ندرس ـ على ضوء الدعوة الإسلامية ـ هذا التغير الكبير.. إن من المكابرة الجاهلة إنكار الطبيعة العربية للإسلام، نعم هو دين العالمين من أزل الدنيا إلى أبدها، ولكن القرآن نزل بلسان عربي، ونبيه الخاتم عربي اللغة، والتراث والثقافة الإسلامية الموثقة عربية الأصول..

وبديه أن العروبة التي تؤكدها ليست عروبة الجلد أو الدم. إنها عروبة اللغة فلو أن أستراليا أو أمريكيا أو أوروبياً أسلم وتعرب وجاد في لغة الإسلام الرسمية فقد أصبح عربيا وما يغلبه هاشمي ولا عبشمي في ميدان نبغ فيه ورجحت كفته..

وقد سلمت الأمة الإسلامية أزمتها لرجال أعاجم المنبت برزوا في علوم الدين واللغة، وزوت قيادها عن عرب قصروا في هذه الميادين..

إن العبادة الفردية ممكنة لأي إنسان في حدود مواهبه الخاصة، أما القيادة الجماعية فما يحسنها إلا عربي أو متعرب اتصل بالقرآن ونبيه صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الكبار.

والأخذ عن القرآن والسنة درجة سنية لا يطبقها كل عريي أو متعرب، يل يرشح لها الأعلام السابقون..

وليس هذا الحكم خاصا بقيادة الأمة في مجال الأدب والعلم، بل هو شامل لمجالات السياسة والحكم، ولذلك قلنا: إن العرب هم دماغ الإسلام وقلبه. وقد كان على الترك وقد قرروا قيادة العالم الإسلامي أجمع ـ أن يتعربوا ويقدموا العربية على التركية، ويفسحوا المجال للعرب أن يتقدموا ويشاركوا في كل شأن.

ولكن الذي حدث غير ذلك، فقد تعصب الترك للغتهم وجنسهم، ولما كان الإسلام لا يمكن أن " يتترك " والترك لا يريدون أن يتعربوا، فقد وقعت فجوة بين الحكم والأمة، وبين الحكم ومصادر العقيدة والشريعة، ظلت تعمق على مر الأيام فانتشر الجهل انتشارا" مخزياً، وأخذت الأمة الإسلامية تتقهقر دون مكانتها الحضارية خطوة خطوة، ولم يزدها مر الأيام إلا عجزا إنسانيا" مؤسفا.

إن للقوة العسكرية ـ في نظر الإسلام ـ وظيفة محددة، هي كسر العدوان ومنع الفتنة، فإذا خلت التربة من العوائق أمكن الزرع وارتقب الحصاد..

والصحابة الأولون عندما قاتلوا الروم والفرس، وفكوا إسار الشعوب العانية في سجونهم، شرعوا لفورهم يعلمون الإسلام، ويعرضون أصوله وفروعه ولغته، فلم تمض سنون طوال حتى كانت آسيا الصغرى والشمال الإفريقي قد تفقهت في الدين واستراحت إليه.. ثم شرعت هى الأخرى تعرض تعاليمه على الآخرين وتجاهد دونه..

أما الأتراك فإن المتابعة العلمية كانت تنقص تفوقهم العسكري، فلم يحسنوا نشر الإسلام في الأرضين التي فتحوها، بل نظر إليهم وإلى الدين الذى اعتنقوه نظرة سخط..

عندما رد أبو عبيدة الجزية إلى نصارى حمص عجبوا من تصرف هذا الحاكم الجديد فهم لم يعهدوا الحكام الروم إلا نهاب أموال. أما أن يأخذ العرب الجزية لحماية أهل البلد، فإذا رأوا أنفسهم عاجزين ردوا المال إلى ذويه، فهذا تصرف ربانيين أطهار .. ! !

إن هذا التصرف نموذج للفتح العربى الذي نشر الإسلام في الآفاق وغرسه في الأعماق. أما السلطان سليم الأول فقد أباح القاهرة ثلاثة أيام لجنوده، ما أبعد الشقة بين المسلكين... !

ولا نريد أن نجور في حكمنا على الخلافة التركية لتصرف نزق، أو مسلك أحمق! فإن الأتراك كانوا شعبا مسلماً - وإن نقصته سعة العلم - وباسم الإسلام وحده التفت حولهم جموع المسلمين، وقاتلت معهم، وفرحت لانتصارهم، وبكت لانكسارهم وما عرفوه من تعاليم الإسلام طبقوه بحماس شديد، وأمل صادق في إرضاءا لله ورسوله...

لقد ظل الأتراك على لغتهم وصبغتهم الجنسية، ولكنهم تشبثوا بالإسلام تشبثا شديدا في حياتهم الخاصة والعامة، فبنوا في عاصمتهم ومدائنهم أضخم المساجد، وطبعوا الألوف المؤلفة من المصاحف، وجعلوا الدين هو الطاقة الروحية التي تدفع الجنود إلى ساحات الوغي، وهم يرون أنهم بهذه الحروب يقلدون السلف الأول في الجهاد ومقاومة الكفر.

وبديه أن يكون الإسلام الدين الرسمي للدولة، وأن تكون له هيئة علمية مسموعة الكلمة، مرموقة المكانة، وكان شيخ الإسلام في الآستانة أعلى مكانة من رئيس الوزراء وله وحده تخضع الهيئات التشريعية والقضائية..

وكان السلاطين الترك يوقرونه، ويخضعون له، ويستشيرونه، كما كان الشعب التركي يحترم علماء الدين، وينزل على رأيهم، ويلتمس رضاهم.

وقد ألحقت بالمساجد مؤسسات لإطعام الفقراء، وقاعات يختلي فيها العباد، وذلك لأن طرق المتصوفين كانت منتشرة بين الجماهير، ونشأ عن ذلك بناء " التكايا " ووجود " الدراويش ".

وجاءت عصور على المسلمين الأتراك وغير الأتراك كانت كتل العوام تخضع فيها لشيوخ الطرق أكثر مما تخضع لرجال الدولة وتحرك باسم الدين فتصنع العجائب. والحق أن العسكرية التركية كانت وراءها عاطفة دينية هائلة دوخت أوروبا وروعتها، ومكنت رجلا كالسلطان سليمان القانوني أن يقود ستة عشر زحفا داخل العالم النصراني، حتى وصل إلى " فيينا " عاصمة النمسا..

لقد نسى الأوروبيون العرب، وفتوحهم الأولى، ورأوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام خصم آخر شديد المراس، قوي الشكيمة حتى لأصبحت كلمة " تركي " يخوف بها الأطفال كما يخوفون بالعفاريت والأوهام.

ويجزم المؤرخون المنصفون بأن ظهور الخلافة التركية هو الذي جمد الزحف الصليبى وحمى فلسطين والشرق الأوسط من حملات أخرى لمحو العروبة والإسلام.

نعم.. لقد تأخرت هذه الحملات الصليبية من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر الهجري، وخلال هذه القرون الأربعة جرت أمور ذات بال..

وإذا كان الأتراك قد سيطروا على العالم العربي والإسلامي خلال القرن العاشر فإن قوتهم العسكرية بقيت على تألقها قرنا آخر، كان البحر الأحمر والأبيض والأسود خلاله بحيرات إسلامية تقريبا..

ثم بدأت جراثيم الضعف تعمل عملها في الكيان الإسلامى كله، الأجهزة الرسمية والشعبية على سواء..

كان اعتلال الدولة العثمانية مكشوفا لأعدائها، لأن نشاطها السياسي والعسكري تشعب في جبهات عديدة، شمل أغلب القارات، فكيف يخفي ما أصابها من عجز؟ لذلك سميت حكومة الرجل المريض..

وقد ظل الرجل المريض يغالب الموت قرنين طويلين ولم يسلم الروح إلا بمؤامرة ناجحة على قتله.. وبلوغ الدولة هذا الدرك الهابط يتطلب نظرات عميقة

***

• الدعوة الإسلامية فى العهد التركى الأخير :

( 1 )  من القرن العاشر إلى الثالث عشر لم يظهر في العالم الإسلامي عالم مفكر، ولا أديب نابه، ولا شاعر عظيم ولا مؤلف ذكي، إلا فلتات تعد على الأصابع.. كان الجهل الغليظ يلف كل شيء، وكانت عجمة الدولة ـ كما أشرنا ـ سبباً في تخلف المسلمين دينيا ومدنيا.

( 2 )  انتشرت البدع والخرافات والخيالات السقيمة، وتحول الإسلام إلى رسوم ميتة، وأحاديث واهية أو موضوعة، وكثرت صور الشرك الجلي والخفي والطلسمات والشعوذة، وأعلن التصوف الجاهل على هذا كله إذ أن طرقه دخلت كل مدينة وقرية.

( 3 )  من الناحية المدنية العامة توقف الركب الإسلامي في مكانه، لا يدري وراء حدوده شيئا بينما العالم يفور ويمور بحركات وفلسفات جديدة غيرت نظم الحكم، وكشفت المجهول من القارات، وأخذت رويدا رويدا تعرف الكثير من قوى الكون وأسراره وتستغله فى تجديد حياتها وأسلحتها.

( 4 ) ورث الحكم العثماني جميع سيئات الحكم الفردى فى الدول الإسلامية السابقة وضم إليها جديدا من الجبروت والاستعلاء دون نظر إلى دين أو خلق، وربما قتل السلطان جميع إخوته حتى لا ينازعوه السلطة.

( 5 )  منح السلطان امتيازات أجنبية للطوائف النصرانية المختلفة جعلها دولة داخل الدولة، واستغل الأعداء ذلك أسوأ استغلال إذ تمكنوا بواسطة هذه الرعايا من التجسس، ونشر الفوضى، وإلحاق أبلغ الأذى بالإسلام.

ومع أننا نعيب على العرب تقاعسهم في خدمة الثقافة الإسلامية الصحيحة إبان هذه القرون الهامدة من الحكم التركي، إلا أننا نذكر أن الحركة الوحيدة التي نهض بها العرب لإصلاح العقائد والعبادات ومحو ما شابها من زيغ وانحراف قاومتها الدولة بالسيف حتى أجهزت عليها.. نعني حركة الإصلاح التي قام بها محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب...

أما الأزهر.. فقد تقوقعت فيه علوم الدين واللغة العربية، كما تدخل السلحفاة جسمها داخل ظهرها الصلب، وتبقي مكانها دون حراك..

إن الجهالة العامة كانت سمة ظاهرة في الأحوال الإسلامية، ولم يكن هناك ما يسمى دعوة إلا الخطب المنبرية التي يدعي في نهايتها للسلطان، وهى دعوات لم تستجب لها السماء....!

وقبل أن تستسلم الخلافة العثمانية للموت أدركتها صحوة يائسة، فقد ولى الأمر السلطان عبد الحميد، وهو من أذكى وأقدر الخلفاء الأتراك، حاول الرجل أن يشد الأعصاب المسترخية، ويبعث في الأمة روحاً جديدا، فاستعان بالسيد جمال الدين الأفغاني على إحياء الجامعة الإسلامية، ورد المسلمين إلى مصادر قوتهم الأولى.

ووقف بصلابة أمام أطماع الصليبية العالمية التي استعدت لاقتسام تركة الرجل المريض..

ورفض بشمم واعتزاز تحرك الصهيونية العالمية نحو فلسطين، وعف عن المال الكثير الذي عرض عليه ليدع هذا القطر العربي.

ومع يقظة هذا الخليفة ونشاطه وجلده إلا أن سنن الله في الأمم المفرطة لا بد أن تتم، إن العالم الإسلامي بقيادته التركية لم يكن يدرى من دين الله ولا من دنيا الناس ما يرشحه لمكانة محترمة، وأخطاء القرون الطوال لا تمحي بسهولة.

ويجب أن نرمق ما حدث وراء دار الإسلام لنعرف ما وقع هنالك من تغير هائل..! إن أوروبا بعد عصر الإحياء أخذت تتجدد من بلي، وتستيقظ من إغماء.

وقد انحدرت إلى أرضها كل الثقافات الإنسانية التي احتضنها الإسلام وهذبها، ونماها، وأضاف إليها من عنده ما جعلها مناراً للعقل الغربى المتحرك ينشد الحياة..

واليقظة الأوروبية احتقرت المسيحية وكهانتها ورجالها، ولكنها لم تحترم الإسلام ولم تشعر بأية رغبة فى اعتناقه..

ولهذا الموقف أسباب شتى، بعضها يعود إلى المسلمين وقيادتهم الثقافية والسياسية.

وليس الموقف هنا للشرح والمعاتبة، المهم أن الصحو الأوروبي أقصى المسيحية فى الداخل، وأبعدها عن العلم والحكم والاقتصاد وسائر الساحات الجادة..

ولكنه استغلها في تمهيد الأقطار التي اكتشفها في أمريكا وأستراليا وإفريقية، كما استغلها في الهجوم على الأرض الإسلامية، واستئناف الصراع الطويل بين المسيحية والإسلام..!!

والهجوم الأوروبي الجديد يسانده ذكاء وعلم وسبق في كل شيء.. وتسانده قبل ذلك كله ما شرحناه آنفا من تأخر شامل لف المسلمين كلهم في قصوره وعجزه..!

لم يكن المسلمون أهلا لعون الله بعد ما جهلوا دينه، وفرطوا في لبابه، ولم يكن لديهم من أسباب الدنيا ما يشد أزرهم، ويكيد عدوهم...

والجدير بالذكر أن هذا العدو الذكي قرر أن يضرب بعض المسلمين ببعض، أن يحيك من المؤامرات ما يبلغه هدفه بأقل الخسائر...

وقد استطاع خلال القرن الثالث عشر أن يخطف من الدولة العثمانية مصر وتونس، وأن توقع بها هزائم عسكرية جسيمة في البلقان.. وأن يحتضن تيقظ اليهود لإقامة إسرائيل على أنقاض فلسطين..

فلما ولى السلطان عبد الحميد السلطة وحاول وقف هذا البلاء تحرك المكر الاستعماري وقرر تشجيع انقلاب عسكري ضد الخليفة الذي قرر الصمود.

وعزل الخليفة، وتولى الحكم ضباط الاتحاد والترقي، وهم شباب مشئوم جاهل دعى، ولا يعنينا هنا أن نعرف من أعانهم، ولا كيف وصلوا، وهل هم خونة مرتدون أم أغرار متطاولون ؟؟

إن الانقلابات العسكرية في العالم الإسلامي خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر تحتاج إلى تآليف دقيقة صريحة، لأن ما نتج عنها حقق لأعداء الإسلام فوق ما أملوا ويؤملون..!

وهذا الانقلاب الأول جر على الترك أنفسهم، وعلى الخلافة كلها كوارث وصلت بها إلى حافة الهاوية..

أحس العرب أن الحكام الجدد يبيتون الشر لهم وللإسلام فتململوا في بلادهم. ونظر أمير مكة الشريف حسين حوله يريد خلاصا لجنسه، وملكا لأسرته فوجد الإنجليز يبتسمون له، ويشجعونه على التمرد، ويعدونه، فوثق فيهم ببلاهة غريبة وأعلن ثورة عربية على الدولة، وهى في حرب حياة أو موت مع الحلفاء بقيادة الإنجليز...!!

وكانت ثورة الحسين أساسا كبيرا في كسب إنجلترا للحرب " وفي خسارة الترك لكل شيء.... وفي المنشور الذي أذاعه الملك حسين عشرة أسباب للثورة التي أعلنها نوجزها فيما يلي:

1 جعل العسكريون الخليفة صورة، وقاموا بتعيين شيخ الإسلام، ورئيس الوزراء وغيرهم من كبار الموظفين حسب هواهم.

2 تلاعبوا بأموال الدولة، وأثقلوها بالقروض الأجنبية.

3 دخلوا في حروب كثيرة لم يجنوا منها إلا الهزائم، واستغلوا حالة الحرب لضرب مخالفيهم في الرأي وإلحاق الأذى بهم.

4 مكنوا الاستعمار العالمي ـ الصليبية الدولية ـ من اختطاف ألبانيا، ومقدونيا، والبوسنة، والهرسك، واحتلال طرابلس " ليبيا ".

5 أثاروا الأحقاد الجنسية، وأوقعوا مآسي شنيعة بالعناصر التي رفضت سياسة تتريك الدولة، والتي قاومت النزعة الطورانية.

6 محاولة قتل اللغة العربية وتحقير مكانتها، وجعل التركية لغة الدولة الرسمية ولغة التعليم في أنحاء الدولة.

 

7- ترك الفوضى تشمل الحجاز، وتهدد قوافل الحجيج، وتستولى على أموالهم وتستبيح دماءهم.

8 تشجيع الإلحاد، وتعطيل إقامة الصلوات في المعاهد العسكرية ومنح الحرية للفئات التي تهاجم الإسلام.

9 إعلان الأحكام العرفية أثناء الحروب واستغلال هذه الأحكام لإرهاب العرب حتى إن رجال الاتحاد والترقي شنقوا في يوم واحد 21 رجلا ـ وذكر المنشور أسماءهم.

10 مصادرة ممتلكات الزعماء العرب وتعريض النساء والأطفال للجوع والفتنة، لا لشيء إلا للخصومة السياسية.

وقد يكون الملك حسين صادقا في كل ما ذكره أو في بعضه، فهل ذلك يبيح له الانضمام بالشعب العربي الذى يحكمه إلى صف الإنجليز؟

أما كان يعلم أن الإنجليز دخلوا مصر، وأعطوا سبعين وعدا بالجلاء عنها، ولم يصدقوا في واحد منها؟

إن الإنجليز الذين كانوا يكاتبون الشريف المخدوع، ويعدونه بملك عربى واسع يشمل سوريا والحجاز كانوا في الوقت نفسه يكاتبون اليهود ويعدونهم بفلسطين، وقد كذبوا مع العرب وصدقوا مع اليهود..

لقد نجحت أوروبا الجديدة في الوصول بضباط الاتحاد والترقي إلى الحكم ليظلموا العرب، ويغرسوا في قلوبهم الضغائن.

ونجحت أوروبا الجديدة في إغراء العرب ـ بقيادة الملك حسين ـ كى يطعنوا الترك في ظهورهم ويجروا عليهم هزيمة يفقدون فيها كل شئ.. ودخل الأوروبيون " إسلامبول " وأمست حاضرة الخلافة تحت أقدامهم.

وظاهر أن التركيب الاجتماعي والسياسي لدولة الخلافة، والقحط العلمي والخلقي الذي ران على الشعوب الخاضعة لها هو الذي مكن من هذا المصير الكئيب..

ومع هذا البلاء فإن الجيش التركي تراجع إلى الأناضول وأخذ يعيد تنظيم صفوفه ليواصل القتال، والقتال هنا لتحرير الأرض التركية وحسب.

وانهال التأييد المادى والأدبي من أنحاء العالم الإسلامي للجيش الذي قرر استئناف الكفاح، والذي أحرز فعلا بعض الانتصارات المحلية على اليونانيين المشتركين مع الحلفاء في ضرب الأتراك، وكان الجيش بقيادة مصطفى كمال، وبدا كأن الحظ شرع يبتسم له، وأنشد شوقي قصيدته المشهورة:

الله أكبركم في الفتح من عجب .. يا خالد الترك جدد خالد العرب   

ماذا تفعل الصليبية في ملاقاة هذا العبء الجديد ؟ اتصلت بمصطفى كمال وأخبرته أنها على استعداد لترك البلاد له على شريطة أن يترك الإسلام والخلافة، ويقطع كل صلة بين تركيا والعالم الاسلامي .. وقبل " الغازي " هذه الردة المعروضة عليه، وقرر أن ينشئ تركيا الحديثة، دولة طلقت الإسلام والعرب، والخلافة، وكل معالم التاريخ القديم.

ولكن كيف يتم هذا ؟ بانقلاب عسكري يجهز به مصطفى كمال على أنصار الإسلام أجمعين !!

وشرعت الرقاب تطير، والمؤمنون ينهزمون، والدنيا تتغير، والدولة التي اصطبغت بالإسلام ستة قرون، تتحول إلى دويلة بائسة يعرف العالم أن نظامها مقطوع الصلة بالإسلام، وكل ما يمت إليه..

صحيح أن الشعب التركي بقى على ولائه لمواريثه الدينية، وأن حنينه يزيد على مر الأيام كى يحيا في ظل الإسلام.. ترى كم تستغرق هذه العودة، ومتى تحين ؟

أما الأمة الإسلامية فقد أحست باليتم الروحي والسياسي بعد انتهاء هذه الخلافة الصورية، وانقطع الخيط الذي انتظم عشرات الشعوب، وأحس المسلم على شاطئ الهند أو الأطلسي أو في وادي النيل، أنه غريب متوحش في هذه الدنيا.

وعليه أن يلتمس ولاء جديدا له يربطه بأي شيء إلا بالإسلام ... إذ أن أوروبا ترفض هذا الولاء


: الأوسمة



التالي
الدين والضحك والمرح
السابق
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يهنئ الشعب التركي باستكمال المؤسسات الدستورية في ظل النظام الرئاسي - للنشر

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع