البحث

التفاصيل

كتاب : الدعوة الإسلامية في القرن الحالي فضيلة : الشيخ محمد الغزالي الحلقة [ 21 ] الفصل التاسع : ولاؤنا لمن؟

الرابط المختصر :

 ولاؤنا لمن؟

في أوائل القرن الرابع عشر أمكن الأعداء أن يمزقوا أمتنا بالسيف، فأمست الأمة الواحدة أمما شتى، غير أن كل جماعة أبعدت عن أختها كانت تشعر بالأواصر الخفية التي تشدها إليها، فهي معزولة عنها تحت وطأة القهر وحده.

وإلى آخر لحظة كان المسلمون في مصر الرازحون تحت عبء الاحتلال الإنجليزي يهرعون إلى نجدة إخوانهم في ليبيا، ويشاركونهم في مقاومة الاحتلال الإيطالي.

ولعل أحر ما قيل في رثاء القائد الليبي المسلم عمر المختار قصيدة أحمد شوقي التي مطلعها:

ركزوا رفاتك في الرمال لواء .. يستنهض الوادي صباح مساء

والغريب أني عندما كنت في " غزة " من ثلاثين سنة رأيت أن أسم " عمر المختار" يطلق على أكبر وأهم شوارعها.

إن البلاء اليهودي الذي دهم فلسطين، وأشعل النار في كل بيت، لم ينس أهل فلسطين أخوة الإسلام، وشارات الجهاد المشترك بينهم وبين إخوانهم في أرض الإسلام الواسعة ..!!

لله ما أعظم هذا الدين وأقوى إيحاءه، وأوثق علائقه !!

والجبهات المعادية للإسلام تدرك هذا، وتتقي خطره، من أجل ذلك اجتهدت في تحويل هذا التقطيع القسري إلى تقطيع إرادي، ورسمت سياسات طويلة لشغل كل إقليم بذاته وبقضاياه، ثم شنت على الجامعة الإسلامية غارة شعواء لمحو آثارها المادية والمعنوية، وذلك بغرس مباديء الوطنية والقومية، وتعليق كل قبيل من المسلمين بالتراب الذي ولد عليه، والجنس الذي انحدر منه.

وفرض الاحتلال العسكري والثقافي هذا التحويل بالقوة والمكر، فهل أجداه ذلك؟

إن التعصب للتراب أو الدم دافع بدائي محقور مهما نفخنا في صورته أو زعمنا لقيمته. والأوروبيون أنفسهم أكملوا نقصه، أو سدوا فراغه، بصور من التدين أو بمذاهب فلسفية واجتماعية وضعية. فماذا يرسم للمسلمين كي يحيوا داخل النطاق الذي فرضه الاستعمار الأجنبي؟

لقد سمح بوجود شكلي للإسلام لا يجوز أن يعدوه، أو يحاول العمل خارج حدوده. وقبلت القوى المعادية للإسلام أن توضع في دساتير كثيرة مادة " دين الدولة الرسمي هو الإسلام " على أن تظل حبراً على ورق، فلا دخل لها في شئون التربية أو التشريع أو التقاليد العامة أو أصول الحكم.

إن الولاء الأول للإقليم ومصلحته الخاصة والجبهة الشرقية أو الغربية التي يتبعها، واستفاد أعداء الإسلام من ذلك كسببين مهمين:

الأول: أن المسلمين في طول الدنيا وعرضها جهل بعضهم بعضاً وانقطع عنه وعامله على أنه دولة أجنبية! والمسلمون الآن يقاربون ملياراً من النفوس وينتشرون رعايا كثر من سبعين دولة، وكل جزء من هذه الأمة المفرقة يحيا وفق نظامه الخاص.

وقد يكون كثرة كبرى في دولته، أو يكون قلة دون نصف السكان أو أكثر، ومع ذلك فإنه يحسب طائفة لا وزن لها ولا لدينها...

وكنت في أحد المؤتمرات بالولايات المتحدة فسألت أحد المسلمين عن جنسيته . فأجاب: من " غيانا " بأمريكا الوسطى.. وسألت آخر فأجاب: من جنوب إفريقيا! وعلمت أن هناك مسلمين في زائير، وآخرين في روديسيا يتشوقون إلى الاتصال ببني ملتهم..

قلت: من لهؤلاء المسلمين يرعى عقيدتهم، ويصون كرامتهم؟ إن الكسب الأول الذي عمل له أعداء الإسلام وبلغوه هو تذويب هؤلاء في الخضم الواسع الذي انتشروا فيه دون أن تصلهم نجدة، أو حتى يسمع بصياحهم أحد..

وأنا أكتب هذه السطور أقرأ في الصحف أن بابا الفاتيكان ذهب إلى أمريكا الجنوبية كى يتعهد رعاياه هناك. وهى زيارة شخصية تؤكد الروابط الروحية والفكرية التي يتعهدها البابا بعشرات الألوف من الدعاة في أرجاء الدنيا العريضة..

أما الإسلام اليتيم فلا أبوة له ولا خلافة تتحدث باسمه، أو تحمي ثقافته أو تدافع عن بنيه، لقد ترك للعصبيات القومية والنسبة الوطنية أن تحيا فوق ما يتاح لها من أديم الأرض..

وعلى الأيام القريبة والبعيدة أن تعمل عملها في تذويب هذا الدين، وتحطيمه في نفوس الأفراد، بعد تمزيق صفوفه في المجتمعات الدولية والمحلية...

أما الكسب الثاني الذى أحرزه أعداء الإسلام ـ بعد تمزيقه عالميا ـ فهو في أوطانه الأم أو في أرض العروبة نفسها..

لقد كانت الوطنيات المحدودة تقبل وجود مادة في دساتيرها تقرر أن الإسلام دين الدولة. فلما حلت القومية العربية محل القوميات الضيقة، ولد بعث عربي يتغنى بأمجاد العروبة، حذفت هذه المادة، وقيل في علانية وجحد: العروبة فوق الإسلام، لا ارتباط بهذا الدين ولا بغيره. كيف؟..

قيل: تحدثوا عن كرم محمد كما تتحدثون عن كرم حاتم! تحدثوا عن شجاعة محمد كما تتحدثون عن شجاعة عنترة! أما الحديث عن وحي نزل على قلبه أو رسالة كلف بتبليغها فلا..

هل الارتداد إلا هذا الكلام؟ هذا الكلام هو قرة عين اليهود والنصارى والماركسيين!

ودار بيني وبين الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله ـ رئيس الإخوان ـ بسوريا ـ حديث في هذا الشأن فقال: عجزنا عن جعل الإسلام دين الدولة الرسمي، كان التيار البعثي أقوى منا.. ثم أردف يقول: لكننا استطعنا جعل الفقه الإسلامي مصدرا للتشريع.

قلت في نفسي: إلى جانب الفقه الروسي والروماني..! إن جعل الفقه الإسلامى مصدرا للتشريع مادة ميتة هى الأخرى، وعقوبة الذين يريدون إحياءها رهيبة..!!

إن عصابات الرقيق الأبيض، وباعة الحشيش والمخدرات الأخرى، وجالبى الهزائم المخزية على أمتهم سنة 1967 وما قبلها، إن هؤلاء جميعا قلما يُعدم أحد منهم، بل لم يُعدم منهم أحد.

أما الذين اتهموا بالعمل للإسلام وإحياء شرائعه، فإن أخطاءهم مميتة ودماءهم تُسفك بغزارة ورخص.. لعل السادة من وراء الحدود يرضون ويسرون !!.

هذه المآسي يجب أن تنتهي من أرجاء العالم العربي والإسلامي، ولنعلن في مصارحة تامة أننا لن نترك ديننا، وأن تكليفنا بذلك سفالة لا قرار لها.

إن الولاء للإسلام حق أمته الكبرى فى كل قطر تحيا فيه، وإن تطبيق شرائعه حق كل مجتمع يكون المسلمون كثرة واضحة فيه.

وهناك قضية هزلية اختلقها الاستعمار العالمي ولج في تكرارها ليوهم الأغرار بصدقها، قضية الطوائف النصرانية واليهودية التي زعم أن المسلمين يتعصبون ضدها.

إن هذه الطوائف هى أسعد "الأقليات" في الدنيا.. واستمتاعهم بالحقوق المادية والأدبية التي يستمتع المسلمون بها ليس موضع ريبة، والخواجات فى أوروبا وأمريكا يعرفون ذلك جيدا، ويعرفون أن ولاء المسلمين لدينهم لا يخدش مخالفيهم في الدين قليلا ولا كثيرا.

لكن الاستعمار العالمي ـ لغرض في نفسه ـ أراد إحراج المسلمين وتعمد اتهامهم واتهام دينهم معهم، وفي ذلك يجعلنا نتحدث لنفضح المخبوء من أمره.

لقد زعم الإنجليز لما دخلوا مصر أنهم مهتمون بحماية الأقباط! فليُنظر إلى الإنجليز في بلادهم يوم زعموا ذلك لنرى مبلغ احترامهم للأقليات عندهم ومبلغ احترامهم للحرية الدينية فإن تسعة أعشار الإنجليز بروتستانت! فماذا صنع هؤلاء مع القلة " الكاثوليكية " ؟

حرموها حق التصويت في الانتخابات، وحق التمثيل النيابي، وحق الاشتغال بمهنتي الطب والمحاماة، وحق التزاوج مع البروتستانت وسنوا قوانين مهينة للأسرة الكاثوليكية.

بل بلغ الأمر أن الإنجليز الذين يحترمون الحرية الدينية لخصومهم حرموا على هؤلاء الخصوم أن يركبوا الخيل، حسبهم الجحاش والحمير !! فإذا ركب كاثوليكي فرسا بأكثر من خمسة جنيهات ـ أى حصاناً غالياً وجب عليه أن يبيعه لأحد البروتستانت وحكم القضاء بذلك !!!

هؤلاء هم الرجال الذين اتهمونا نحن المسلمين بالتعصب الديني ضد النصارى! وهم يعلمون أن النصارى لهم من الأملاك ما يغنى، ولهم من الأوضاع ما يريح.

لو أن الكاثوليك الإنجليز انضموا إلى الألمان أعداء إنجلترا في الحربين العالميتين الأولى أو الثانية لطمس البروتستانت وجوههم، واستأصلوهم وذراريهم.

ولكن النصارى العرب انضموا إلى الفرنسيين فى حملتهم على مصر أيام نابليون، وانضموا إلى اليهود في هذه الأيام التي يفعل الموارنة فيها بالعرب ما يفعلون …! فماذا فعل المسلمون ؟ نسوا كل شيء.

نسيت روعته في وطن .. كل شيء فيه ينسى بعد حين !

وبعد ذلك يقال للمسلمين: لا تذكروا الإسلام، لا تصارحوا بالولاء له، لا تطلبوا إحياء شرائعه، لا تكونوا متعصبين !!

أما في الوجوه بقية حياء؟

على العرب ـ وهم دماغ الإسلام وقلبه ـ وعلى سائر المسلمين في القارات الخمس أن ينتبهوا لما يراد بهم. إن المراد هو التطويح بهم وبرسالتهم في مهاوي العدم. وهم سوف ينتحرون يقينا إذا نجحت بينهم مؤامرات الاستعمار، وجعلت ولاءهم لشيء ما أسبق من الولاء لدينهم.

وكلمة لا بد منها إلى إخواننا النصارى، إن شياطين الاستعمار توحي إليكم أنكم بين المسلمين كالبيض بين الزنوج! وكما أن البيض هم حكام روديسيا وجنوب إفريقيا فأنتم كذلك أصحاب السيادة والثروة والسطوة في مصر والشام وغيرهما...

إن هذا الكلام إفك كله، والقاعدة الوحيدة التي تشملنا هى: " لكم مالنا دون زيادة، وعليكم ما علينا دون نقص " ومن أغراكم بغير هذا فهو يمكر بكم ويستغلكم لأغراض وضيعة، فاحذروه على أنفسكم.

إن كنيستكم الشرقية يا معشر النصارى بقيت حية لأنكم بين ظهرانينا ونحن لا نعرف التعصب ولا نحسنه.

ولو أنكم كنتم في فرنسا لذبحتم في مجزرة " سان بارتلميو ". ولو أنكم كنتم في إنجلترا لألزموكم الهوان حتى تتلاشوا... كما فعل ذلك بغيركم.

إنهم الآن يتقربون منكم ليضربونا بكم، وظننا أنكم لن تقترفوا هذه الخيانة بعد ما ذقتم حلاوة البر والعدل في جوارنا، وأورثكم ذلك مالا وجاها ما نحسدكم عليهما فأنتم له أهل...

إن هناك أفرادا ينطلقون الآن أمام مبنى هيئة الأمم ليتحدثوا عن تعصب إسلامي مزعوم، وهم مستأجرون لجهات نعرفها، ما تريد الخير لكم ولا لنا فأدبوهم ليدعوا هذا الإفك، حتى نستأنف الحياة جميعا وافرين.

***

إماتة الشرائع والشعائر بعد تمزيق الأمة كلها:

قلنا: إن أعداء الإسلام قطعوا أرضه الواسعة سبعين وطنا ينفصل أحدها عن الآخر سياسيا واقتصاديا.

ويبدو أن هذا لم يكفهم، فقد بذلوا جهداً أخطر في تقطيع حقيقته العلمية وبعثرة شعب الإيمان السبعين، فغدت دون روابط تشدها.

وبدأت حركة تمويت العديد من شرائع الإسلام وشعائره، وها هو ذا القرن الثالث عشر ينتهي ونصف الإسلام ميت في ميدان الحكم والمال، والنشاط متصل للإجهاز على النصف الآخر في ميدان العقيدة والخلق والعبادة.

على أن المجاهدين المسلمين ما فتئوا يبذلون طاقتهم لحراسة ما بقى، وإحياء ما مات.. ودون بلوغ هذه الغاية مراحل طوال، وأعباء شداد، يمكن تلخيصها فيما يلي:

( 1 ) أغلب الحكام المسلمين يتبعون إما الجبهة الشيوعية أو الجبهة الصليبية. وكلتا الجبهتين لها في ضرب الإسلام واستذلال أهله تاريخ أسود. وكلتاهما لا تأذن أبدا كتجمع إسلامي يحيى الولاء لهذا الدين، ويرد الحياة إلى ما هُدَّ من شرائعه..

وكثير من الحكام واهى الصلة بالعقائد والعبادات التي شرع الله، والذين يؤدون الصلوات أحيانا يريدون المحافظة على بعض المظاهر الشعبية وحسب.

وهم جميعا ـ إلا ما شَذَّ ـ يرفضون عودة الإسلام إلى عالم المال، والقانون والعلاقات الدولية، والسياسات المحلية، يكفيه هذا الوجود المحدود فإن طمع في مزيد أنكروا عليه حق الحياة أصلا…‍‍

وأصحاب العقلية الشيوعية أو الصليبية الغربية أوفياء للمبادئ التي استوردوها أو التي كلفوا بنقلها إلى بلادهم، وهم دائبون على تلوين أرض الإسلام بفلسفات سادتهم الجدد بعد أن حسموا صلتهم العملية بتراث محمد صلى الله عليه وسلم.

والحكام الشيوعيون ولوا وجوههم شطر "الكرملين" يأخذون عنه.. والآخرون ينقلون عن الغرب، وكلاهما صوت سيده في عداوة الإسلام، ورفض هداياته، وكراهية أتباعه..!

ولما كان هؤلاء وأولئك حراصا على انتماء اسمي للإسلام مع موالاة أعدائه جميعا فقد رأينا أن نذكر هنا جملا من القرآن الكريم تصف هذا المسلك بدقة.

إننى لم أقرأ هذه العبارة: (... ويحذركم الله نفسه ) إلا في تناول هؤلاء الحكام، لقد وردت مرتين خلال بضعة سطور من المصحف الشريف...

الأولى: ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير)

ثم يبين جل شأنه أنه خبير بالضمائر وأنه يعرف من يخون الإسلام ومن يصون بيضته، يعرف من يتصرف ضده وضد رجاله، ومن يحنو على أمته ويمكر لها لا عليها.

لذلك قال: ( قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير * يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد )

وهذه هى الثانية فى سياق الكلام عن موالاة الأعداء..

والغريب أن أدعياء الإسلام هؤلاء إذا بطشوا برجاله بلغوا نى الفتك والسفك مدى يقصر عنه الكفار المجاهرون بعداوتهم..

وقد رأيت في أقطار شتى أن الذين قتلوا إبان الاستعمار الخارجي كانوا أقل عدداً من الذين قتلوا في ظل الاستعمار الداخلي..!

لذلك كان الاشتغال بالدعوة الإسلامية والسعي لإعادة الشرائع المفقودة عملا منطويا على مخاطر شداد .

( 2 ) استطاع الاستعمار العالمي أن يحرك الطوائف النصرانية ضد انتساب الكثرة لدينها، وقد حركها أخيراً لتعترض العودة إلى القوانين الإسلامية، فنشر كبير منهم مقالا يرفض في خضوع النصارى لشرائع الإسلام في الحدود والقصاص وغيرها، ولما كانت الحكومة تريد الوحدة الوطنية فإنها ضحت بالأحكام السمارية منعاً للفرقة..

والمهزلة هنا مفضوحة، فلا معنى للتعليق عليها. وإنما تعليقنا على قول الكاتب: إن الإسلام لا يلزم النصارى بأحكامه واستشهاده على ذلك بالآية الكريمة ( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه )

وهذه الآية جزء من سياق تاريخي متماسك، واقتطاعها منه للتدليل على أن الأحكام الإسلامية لا تشمل أهل الذمة يذكرنا بقول الشاعر القديم:

ما قال ربك: ويل للأولى سكروا .. بل قال ربك: ويل للمصلينا ..!!

وعلى هذا الأسلوب في الاستدلال تحرم الصلاة على المؤمنين، كما حرمت إقامة الأحكام السماوية على الذميين ..!!

والموضوع كله ظاهر في الكتاب الكريم.. فإن الله بين أنه أنزل التوراة على اليهود ليحكموا بما جاء فيها فقال: ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا)

ثم انتهت رسالة موسى، وبدأت رسالة عيسى عليهما السلام، ونزل عليه الإنجيل، وكلف اليهود باتباع النبي الجديد والكتاب الجديد، ما أقره وما غيره من التوراة.

ثم انتهت رسالة عيسى عليه السلام وجاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكلف النصارى باتباع الرسول الخاتم وما أنزل عليه من وحي.

فقول الله تعالى: ( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ). هو للنصارى الذين تبعوا عيسى مدة رسالته، ومدة بقاء الإنجيل بينهم ‍‍‍‍!!

ولا ريبة عندنا في أن الكافرين برسالة عيسى عبد الله ورسوله، والعصاة للإنجيل النازل عليه من عند الله هم قوم فاسقون.

لكن رسالة عيسى التي أنهت رسالة موسى عليهما السلام، أنهتها كذلك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم!

والإنجيل الذي نزل عليه من رب العالمين اختفى من قرون طوال، ولا وجود له في القارات الخمس، فما الذي يحكم به؟

إن ما يسمى الآن أناجيل هى سير كتبها نفر من الناس دونوا فيها ما ترامى إليهم من أخبار عيسى عليه السلام، فجاء تصويرهم عجيبا أشد العجب، إذ جعلوا " عيسى " وهو عبد لله إلها مع الله، وابنا له، وفادياً مقتولا على الصليب، من أجل الخليقة.

ولم يكتفوا بإله ثان مع الله بل جعلوا جبريل ـ وهو عبد لله من الملائكة ـ إلها ثالثا. وهذا المثلث المتعدد الأطراف يوصف بأنه إله واحد.

وعندما نزل القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم نَّقي عقيدة التوحيد من هذا الخلط، ورفض رفضا حاسماً أن يكون مع الله أى إله آخر من الأرض أو من السماء، وبرأ عيسى عليه السلام من هذه الدعوى الجريئة.

ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )

َوندع أمر العقيدة لندخل في قضية التشريع الفرعي.

إن الله بعد أن قال: إنه منح موسى عليه السلام التوراة ثم منح عيسى عليه السلام الإنجيل قال لمحمد صلى الله عليه وسلم ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم … ) وقال بعد ذلك: ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . . . )

أي ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وحقائق التوراة والإنجيل الجديرة بالاتباع موجودة في القرآن الكريم..

أما ما سكت القرآن عنه، ولم يطلب العمل به فقد انتهى تشريعه ـ إذا سلمنا ابتداء أنه نزل من عند الله، وهذا معنى هيمنة القرآن على ما سبق من كتب..

قد تقول: وما الذي سكت القرآن عنه ولم يستبق تشريعه فيما هو الآن موجود عند القوم في كتابهم المقدس؟ نقول: مثل هدم بيوت بعض المرضى المقرر في العهد القديم...

وتدبر ما ننقله لك منه: من يوصف بأنه أبرص ؟ جاء في سفر اللاويين الإصحاح الثالث عشر: "إذا كان إنسان في جلده ناتيء أو قوباء أو لمعة تصير في جلد جسده ضربة برص، يُؤتي به إلى هارون الكاهن أو إلى أحد بنيه فإن رأي الكاهن الضربة في جلد الجسد، وفي الضربة شعر قد أبيض، ومنظر الضربة أعمق من جلد جسده فهي ضربة برص. فمتى رآه الكاهن يحكم بنجاسته " ( ص 135 من العهد القديم ).

ولكن هل البرص وصف للإنسان وحده ؟ لا. إن الثوب يوصف به كذلك، جاء في سفر اللاويين: " وأما الثوب فإذا كان به ضربة برص، ثوب صوف أو ثوب كتان، في السدي أو اللحمة، أو في جلد أو في كل مصنوع من جلد، وكانت الضربة ضاربة إلى الخضرة أو إلى الحُمرة في الثوب أو في الجلد أو فى متاع ما من جلد، فإنها ضربة برص فتعرض على الكاهن، فيرى الكاهن الضربة، ويحجز المضروب سبعة أيام فمتى رأى الضربة في اليوم السابع قد امتدت في الثوب، في السدي أو اللحمة أو الجلد فالضربة برص مفسد، إنها نجسة! فيحرق الثوب.... بالنار يحرق " ( ص 136 ).

فهل يقف البرص عند الثوب؟ لا.. إن أحجار البيوت تصاب به كذلك، جاء في سفر اللاويين: " كلم الرب موسى وهارون قائلا: متى جئتم إلى أرض كنعان التي أعطيكم ملكاً، وجعلت ضربة برص في أرض ملككم، يأتي الذي له البيت ويخبر الكاهن قائلا: قد ظهر لي شبه ضربة في البيت، فيأمر الكاهن أن يفرغوا البيت قبل دخوله ليرى الضربة لئلا يتنجس كل ما في البيت .. فإذا رأى الضربة وإذا الضربة في حيطان البيت نُقِّر ضاربة إلى الخضرة أو إلى الحُمرة ومنظرها أعمق من الحائط يخرج الكاهن من البيت ويغلقه سبعة أيام.

فإذا رجع الكاهن في اليوم السابع ورأى الضربة قد امتدت في حيطان البيت يأمر الكاهن أن يقلعوا الحجارة التي فيها الضربة ويطرحوها خارج المدينة في مكان نجس، ويقشر البيت من داخل، حواليه، ويطرحون التراب الذي يقشرونه خارج المدينة في مكان نجس… فإذا رجعت الضربة وأفرخت في البيت… وأتى الكاهن ورأى أن الضربة امتدت في البيت، فهى برص مفسد في البيت، إنه بخس فيهدم البيت حجارته وأخشابه وكل تراب البيت، ويخرجها إلى خارج المدينة إلى مكان بخس " ( ص 139 من العهد القديم )

تلك هى أحكام الكتاب المقدس على الأجساد والملابس والبيوت. لا نريد أن نتساءل: أهذا وحي إلهى أم تخريف بشري؟ ولكنا نريد تقرير حقيقة محددة أن الله أعفى العالم كله من هذه الأحكام الواردة في الكتاب المقدس، والمحفوفة بجو العصمة .

وذاك تفسير قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قرآنه المصون: ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك )

فهل بعد ذلك يجيء مجادل ضرير ليقول: لا نقبل تطبيق أحكام الإسلام في أرض الإسلام ـ علينا نحن إتباع الكتاب المقدس، لأن القرآن يقول ذلك…؟

أين إنجيل عيسى عليه السلام الناطق بعبوديته لله، والمبشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أين؟.. إننا نمنح مكافأة سخية لمن يجيء به من أي مكان في العالمين!

( 3 ) إذا كان تجهم الحكومات المدنية للإسلام قد غض من كرامته وأمات الكثير من تعاليمه، وإذا كان تمدد الطوائف الدينية الأخرى قد أحرج الإسلام وأقصى الكثير من شعائره، فهناك أمر ثالث أعجز الإسلام عن الحركة الصحيحة أو كاد، ذلك هو ضعف مؤسساته العلمية وامتلاؤها بالقاعدين والطامعين..

إن التعليم الديني في العالم الإسلامي لا يخدم الإسلام كما يجب، ولا تتجه إليه العناصر البشرية القادرة على ذلك.

وقد تآمرت هيئات وأفراد على جعل خريجيه يعيشون على هامش المجتمع، وعلى جعل مناصبه هدايا للشياطين الخرس، أو حظوظا لأذناب السلطة.. أو نصيبا لبعض العابدين البله الذين لا فقه لهم ولا خوف منهم..

ومع ذلك، فإن الجماهير المخلصة أرسلت بنيها للتعليم الديني ابتغاء وجه الله ولو تعرضوا للهوان، وبدا ـ مع سيل هذا الإخلاص ـ أن جيلا من المتدينين الأذكياء سيخدم الإسلام ويعلي شعاره، بل إن هذا الجيل الغيور شرع يأخذ طريقه إلى اقتياد الأمة نحو هدفها الحبيب، نحو عودة الإسلام إلى كل ميدان أخرجه الاستعمار منه.

وهنا حدث انقلاب في أرجاء العالم الإسلامي لا يمكن أن تكون المصادفات من ورائه، فقد حُوَّلت المعاهد الدينية البحتة إلى جامعات عامة تدرس الدين والدنيا معا كما قيل..

تم ذلك في الأزهر والزيتونة والقرويين وفي يوم واحد أقفلت الجامعة الإسلامية في ليبيا والجامعة الإسلامية في السودان ثم أُعيد فتحها على نطاق ضيق بعد انحسار المد الشيوعي.

ولا نقول: إن التعليم الديني ألغى وأودع كفنه، بل أخذ طريقه فقط إلى الذبول والانزواء. وقد اشتغلت بالتعليم الجامعي قرابة عشرين سنة ـ إلى جانب عملي بالدعوة في وزارة الأوقاف ـ ولمست كيف تعامل المؤسسات الدينية؟؟

إن الوقف الخيري نظام أقلق التبشير العالمي وأقض مضجعه، وقد أعلنت عليه حرب خفية وجلية.

واحتقارا للعاملين بوزارة الأوقاف ـ في مصر ـ لم يعين وزير واحد من موظفي هذه الوزارة خلال أربعين سنة ؟ وأغلب الموظفين الكبار يجاء بهم من خارجها؟؟

أما الأزهر نفسه فإن طابعه الديني يوشك على الزوال، وصفات التقوى والأدب مع الله والغيرة على الإسلام تم نقلها إلى دور الآثار العربية والإسلامية..

قد يفهم من ذلك أن تخريب المؤسسات التعليمية الإسلامية يجيء من عدوان المعتدين وأهواء ذوي السلطة، وأسارع فأقول: إن العلماء التقليديين أنفسهم مسئولون عن هذه الحال ويحملون أمام الله قسطاً كبيرا من مآسيها...

وشاء الله أن يزدهر التعليم الديني في جزيرة العرب ليجدد ما درس في أقطار أخرى.

ولقيت الدكتور محمد الرشيد عميد كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز الذي تفاهم معي على العمل في مكة المكرمة وكنت يومئذ مهزوماً مظلوماً ضائقا لما أصابني وأنا أحمل علم الدفاع عن بقايا الإسلام في علم التشريع، كان يراد تنصير قوانين الأسرة فاستمتنا في رد هذه الفتنة وأصابنا من ذلك ما أصابنا...

قال لي الدكتور محمد الرشيد: لا عليك أن تخدم أبناء المسلمين في دولة تقوم على الدين، وترفعه لها شعارا.

وكان الانتقال إلى المملكة العربية السعودية مباغتة لي، وكنت قد نقلت فى أول كتاب ألفته كلاما عن الملك عبد العزيز يصف صرامته في تأديب البدو والقبائل التي مردت على إيذاء الحجيج..

ويظهر أن الكاتب الذي نقلتُ عنه جار فى حكمه واشتط في اتهامه، وأنا على كل حال مسئول عن الكلام الذي نقلته وإن وصف خطأ بأني قلته...

وقد سافرت إلى مكة وبدأت العمل في الجامعة وبدأت كذلك أدرس تاريخ الملك عبد العزيز أدرسه سرا، وأتعرف على معالمه وحدي...

وكان أول ما استوقفني كتيب فيه الأدعية المأثورة التي كان الملك يتلوها تقرباً إلى الله وتطلعا إلى فضله..!! قلت: ملك عابد؟؟ هذا غريب!!

وبدأت أجمع المعلومات، وأنا بعيد عن أي حاكم في المملكة فعلمت ما لم أكن أعلم.

عرفت أن الرجل كان صواما قواماً مقبلا على ربه، راغبا في نصرة دينه، يتحرى الحق ويسأل عنه أهل الذكر.. ويريد أن يقيم دولة للإسلام تجمع ما تفرق من أمره، وتحميه من الخرافات والأباطيل..

وعرفت أنه كان متواضعاً للناس، يبعثر فيهم ما يجيئه من مال، وكان المال يومئذ قليلا، لما يستكشف النفط بعد وتغزر موارده. وتأملت فى مؤسسي الأسر المالكة التي ظهرت خلال القرنين الأخيرين فوجدتُ محمد علي باشا أقام ملكا عريضا بمساعدة فرنسا، وأنه حيث دخل بلدا كان ينقل القوانين الوضعية الفرنسية ويستبدلها بالقوانين الإسلامية.

أما عبد العزيز فكان الهدف الأول والنداء الأول له إقامة حكم إسلامي تطبق فيه تعاليم الكتاب والسنة. وقد استطاع أن يجمع تحت هذه الراية أقطاراً فيحاء من جنوبي سوريا شمالا إلى شمال اليمن جنوبا واصلة بين البحر الأحمر والخليج الفارسي شرقاً وغربا، ولم تتوحد البلاد على هذا النحو إلا على عصر ازدهار الإسلام.

وقد هاجمه بعض المتدينين وطعنوا فيه لأنهم رغبوا إليه أن يعلن الحرب على إنجلترا ويأذن لهم بفتح العراق، ولكن الرجل أبي أن يتعرض لمغامرة هى في عقباها مقامرة خاسرة. وعند التأمل نجد الحق معه ولا ريب أنه كان سياسيا ماهرا بعيد النظر.

إنني أكتب هذه الكلمات إنصافا للحقيقة العلمية، لا رغبة ولا رهبة، أكتبها بعد خمس سنين قضيتها فى السعودية كأي أستاذ يشتغل بالتعليم والتربية، ما قال لى مسئول: لماذا كتبت عنا كذا..؟ أو لعلك تستدرك ما ذكرت قديماً عنا، لا.. انه العدل مع رجل عظيم أفضى إلى ربه ولا نزكي على الله أحدا...

ولأعد بعد ذلك الاستدراك الواجب إلى موضوعي، إن أجهزة التعليم الديني في العالم الإسلامي الرحب تحتاج إلى تصحيح ودعم، فجمهور العلماء والدعاة ليسوا على مستوى الإسلام العظيم ـ وما أبرئ نفسي فطالما استعذت بالله من شر نفسي وسوء عملي ـ وأرى لكي تستقيم الحقائق الدينية في بصائر ذويها، ولكي يحسنوا الترجمة عنها، أن تجتمع أمور.

منها ضرورة دراسة النفس الإنسانية، ولا حرج في الاستعانة بالعلوم الإنسانية في تطورها الجديد وتجاربها الكثيرة لاستكشاف أغوار النفس وأهوائها.

ومنها دراسة التاريخ العالمي، ومتابعة كفاح الأمم وهى تبحث عن حقوقها، أو عن الحقائق الخافية عليها، وملاحظة المظالم الدامية التي اقترفتها البشرية، وكيف وقعت فيها وكيف خلصت منها، وما العبر التي خرجت بها من هذا التاريخ الطويل...؟

ومنها دراسة التاريخ الإسلامي نفسه دراسة نقد واستيعاب، والاستفادة الذكية مما اكتنفه من أحوال حسنة أو سيئة، وتحديد قربه أو بعده، من القيم المقررة في هذا الدين.

ومنها دراسة النشاط الفقهي والأدبي والتربوي في المدارس الإسلامية المختلفة وإحياء علم المقارنة بين شتى المذاهب الفكرية وبذل الجهود للخروج بحقائق نافعة.

ومنها دراسة الأدب العربي في أدواره وأعصاره ونقل نماذج للآداب الأجنبية الأخرى التي لها مكانة مرموقة عند أصحابها.

وإنما يدعوني إلى ذلك ما شعرت به من قماءة عدد كبير من علماء الدين، وضيق أفقهم، وجمعهم الذي يثير الاشمئزاز بين الجهل والجلافة. وقلما خلا قطر زرته من هذا الصنف الرديء...

وشيء مهم لا بد من ذكره: إن السعة العقلية مهما حمدت لا تغني فتيلا عن عظمة القلب وصدق العلاقة برب العالمين...

إن الصدع بالحق لا محيص عنه عندما نرى كفراً بواحاً، وخطراً على الإسلام داهماً.

وعلماء الدين الذين يلوذون بالصمت في هذه الظروف ليسوا علماء دين، إنهم طلاب دنيا نعوذ بالله أن نكون منهم، وندعوه أن يرزقنا العصمة، وإذا أراد بعباده فتنة قبضنا إليه غير مفتونين.


: الأوسمة



التالي
عمر المختار.. شيخ المجاهدين والشهداء (1)
السابق
داعيا المنظمات الإنسانية والعالم الإسلامي إلى الدعم ومساعدة المتضررين الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يتضامن مع إندونيسيا في مصابهم ويتقدم بواجب العزاء لأهالي الضحايا

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع