البحث

التفاصيل

سهيل اليمن ومرارة الأفول

الرابط المختصر :

" ماذا ستخلد لنفسك من ذكريات ؟

ماذا ستخلد لنفسك من خير تذكر به بعد موتك ؟

بعض الناس يوصي بشراء برادة!!

أو بناء مسجد...

يا أخي ابن الأمة وابن اصحابك بالخير حتى يعطيك الله الخير ويكون لك الأجر سائرا إلى يوم القيامة..."

 

(هذه هي الكلمات الوحيدة التي حفظتها من الشيخ سعيد بن سهيل رحمه الله ...)

 

توفي بالأمس وبالتحديد في صباح الجمعة الشيخ المصلح العلامة المجاهد سعيد بن سهيل وقد عرفه القاصي والداني في مأرب وهو من حملة العلم وناشري لواء الدعوة وقد عرف  بالتربية وتنشأة الأجيال إذ تعلم وتخرج الآلاف من الشباب على يديه حيث أنشأ دارا للقرآن وساهم في غرس الأخلاق لدى المجتمع فأصبح سعيدا بما أنجز سهيلا كما برز ..

وفقدانه لا شك خسارة لا  تعوض وثلمة لا تسد..

ومهما كتبت عنه فلن أوفيه حقه فهو معلم متمكن من العلم وداعية رباني ومجاهد غيور غلى دينه..

*الشيخ مع الشباب..*

كان الشيخ سعيد يهمه أمر الشباب وتربيتهم وتعليمهم فقد قضى عمره كله بينهم وهاهم اليوم في كل مكان يثنون عليه ويترحمون عليه فهنيئا له هذا الإنجاز.

*مع القرآن والعمل الخيري* 

بعد عودة الشيخ من السعودية سعى في تأسيس دار العلوم الشرعية ثم بعد فترة أسس دار العلوم الشرعية ثم أسس مؤسسة الدار الخيرية..

وفي الجانب التكافلي الاجتماعي الخيري كان رئيسا لجمعية البر والتكافل الاجتماعي الخيري وأسس فرع جمعية الإصلاح بمأرب وجمعية الأقصى وغيرها من الجمعيات إلى جانب أنشطته الكثيرة التي آتت أكلها..

وأما الجانب العلمي فالشيخ بلغ فيه مبلغا لا يصله إلا القليل فهو الحائز على مرتبة الشرف الأولى على دفعته في الدراسة الجامعية في الجامعة الإسلامية وقد كان تلميذا نجيبا بين يدي صاحب أضواء البيان وابن باز والجزائري والعباد وغيرهم وهو المصلح الاجتماعي فلا تصعب مشكلة إلا ويتجه الخصوم إليه وهو الخطيب المفوه فقد كان خطيبا للجامع الكبير في مأرب وهو مفتي المحافظة ومرجعيتها العلمية والشرعية...

فحياته كرسها للقرآن وتعليمه وإصلاح المجتمع والنهضة به..

 

*مغناطيسية الخلق*

كان الشيخ مثالا حيا فريدا على الخلق الجميل وكل من عرفه يذكر ابتسامته التي لا تفارق محياه وخدمته للصغير والكبير وتواضعه الجم ومما يُحكى في هذا الباب عن الشيخ ما حدثني به أحد الأحبة الثقات وقد صاحب الشيخ فترة من الزمن أن الشيخ في بداية دعوته مر بامرأة عجوز فلم تمنعه هيبته وجلالة قدره عدم الوقوف لها بل أوقف سيارته لها فركبت معه وكان  حينها الهجوم قويا على الشيخ وعلى تحركاته وزياراته واستقطابه للشباب فقالت العجوز بما أنك أحسنت إلي وأركبتني معك فسأسدي إليك نصيحة..

فأرهف لها سمعه وقال تفضلي:

قالت : يابني هناك رجل يسمى سعيد سهيل يخرب عقول الشباب احذره أشد الحذر وقامت تكيل التهم للشيخ وهو منصت مبتسم لها كعادته...

وهي امرأة عجوز مسكينة لا تعلم عن الشيخ إلا ما يقال لها..

واصل الشيخ الوقور ابتسامته ثم قال لها بعد أن أكملت حديثها بلطف وجمال يا أماه....

وإن كنت أنا سعيد سهيل..

فحارت فيه وتلعثمت لأنها وجدت غير سمعت..

فقالت له: هم فداء لحذائك..

أرأيتم يا كرام كيف تفعل الأخلاق ؟

إنها تجعل العدو صديقا وبدون كلام..

" فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"

ليت شعري ما حديث المرأة بعد ذلك..

لن تكون إلا مناصرة له ولدعوته فقد تحولت بسبب خلقه إلى ١٨٠ ْ درجة..

فيا أيها الدعاة أخلاقكم أخلاقكم فإن فعل رجل في رجل أعظم من قول ألف رجل لرجل..

 

*أجمل العطايا*

عاش الشيخ عظيما ومات عظيما فهو الأول على  وكانت جنازت بالأمس جنازة مشهودة وإن من أجمل العطايا وأفضل المنن أن يكون للمرء بعد وفاته الذِّكر الحسن بين الناس، ولهذا سأل نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام ربَّه عزَّ وجل فقال: (وَاجْعَلْ لي لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ)، قال أهل التفسير: هو الذِّكْر الجميل، والثناء الحسن بعد الممات قروناً تِلْو قرون.

 

يَمُوتُ قَومٌ فيُحْي العِلْمُ ذِكْرهُمُ ** **والجهْلُ يُلْحِقُ أَمْواتاً بأمْــــــــواتِ

 

يقول سمايلز: ((إن العظماء والنبلاء لم يموتوا، إنهم محنطون في كتبهم، ولكن أرواحهم تسير خارجها، فالكتاب صوت حي، وعقل لا يزال المرء يستمع إليه)).

هذا ما يقوله سمايلز عن العظماء الذين خدموا الأمة بفكرهم وأطروحاتهم..ولكن ثمة اعتراض على سمايلز أن التخليد لا يكون في الكتب فقط فما حال من لا يعرف الكتابة أصلا وهو من مصاف العظماء..

إنه سيبقى خالدا في القلوب تثني عليه الأجيال جيلا بعد جيل تتذكر مجده وعظمته وقدره..

والأهم ليس خلود ذكره فحتى حمالة الحطب خلد ذكرها لكن الأهم الدعاء له والترحم عليه والتماس العفو له من ملك الملوك..وهذا ما يؤكده أديب العربية مصطفى صادق الرافعي في مقال له بعنوان: "بعد الموت... ماذا أريد أن يقال عنِّي؟"، وإليك بعض عباراته التي تبين لك شيئا مهما لابد أن تقف عنده؛ حيث يقول مؤكِّدًا أنَّ الناس تقول بعد الموت ما يعشش في قلوبها؛ لأنَّه قد ذهب الطَّمع والحسد بهذا الحدَث الكبير، فيقول: "وبعد الموت يقول النَّاسُ أقوالَ ضمائرهم، لا أقوال ألسِنتِهم؛ إذ تَنقطع مادَّة العداوة بذهاب من كان عدوًّا، وتخلص معاني الصَّداقة بفقد الصَّديق، ويرتفع الحسَد بموت المحسود، وتبطل المجاملَة باختفاء مَن يجاملونه، وتبقى الأعمال تنبه إلى قيمة عاملها".

 

ثمَّ  يتخيل بعض الألقاب التي ستكتب في سيرته كراحل ترك هذه الدنيا وأصبح فقط اسما لامعا في الصحف  فيرجو بعد ذلك كله أن تَذهب كلُّ هذه الأوسمة، وتبقى كلمات للترحُّم عليه والدعاء له، فيقول: "وماذا يقولون اليوم عن هذا الضعيف؟ وماذا تَكتب الصُّحف؟! هذه كلمات من أقوالهم: حجَّة العرب، مؤيد الدِّين، حارس اللغة العربية، صدر البيان العربي، الأديب الإمام، معجزة الأدب! أما أنا، فماذا ترى روحي وهي في الغمام؟! سترى روحي أنَّ هؤلاء الناس جميعًا كالأشجار المنبعِثة من التراب عالية فوقه، وثابتة فيه، وستبحث منهم لا عن الجذوع والأغصان والأوراق، والظَّاهر والباطن، بل عن شيء واحد هو هذه الثمرةالسماويَّة المسماة القلب، وكل كلمةِ دعاء، وكلمةِ ترحُّم، وكلمة خير، ذلك هو ما تذوقه الروحُ من حلاوة هذه الثمرة".

 

 إن السعيد الأريب النابه هو من يصنع مجدا قبل الرحيل ويزاحم العلياء بمنكبيه فبعض الناس ينعم الله عليه بالتوفيق للعلم والإفتاء والتدريس  فيبرز ويكون نابغة في قومه والبعض يوفقه الله في ميدان الجهاد وإعداد النشء وتربيتهم التربية الجهادية وله في ذلك ميدان رحب ومن الناس من يفتح الله عليه في باب العبادة والتلذذ بتدبر القرآن وتذوق حلاوة الصيام والقيام والخلوة به تعالى ومن الناس من يوفقهم الله لإسعاد الناس وإدخال السرور عليهم وحل قضاياهم والبعض يوفقه الله للتأليف والكتابة والنفع وإرشاد الجيل وكلها خير وقد يجمعها الله في شخص واحد فيكون أثره كبيرا وجهده عظيما وعمله متقبلا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها ولكن المهم ما الذي قدمته قبل الرحيل؟؟

هل ستترك فجوة كبيرة برحيلك أم سيرتاح الناس من أذاك..

إن السعيد هو من يبادر لاقتناص كل فرصة تحت الشمس ويقدم خيرا لنفسه وأمته ليكون عظيما يوم رحيله فيلحقه الدعاء والترحم عليه بعد موته ليس من عالم البشر فحسب..بل من عوالم أخرى لا تلقي لها بالا...فهناك عوالم النباتات والجمادات، فقد ورد في بعض الآثار  أنَّ العبد الصالح إذا مات بكَت عليه الأرض، بكى عليه موضِعُ سجوده، وبكى عليه موضع قَدمه الذي كان يَمشي به على الأرض، وهذا القرآن الكريم عندما حكى عن هلاك قوم فرعون قال: ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 29]، فلا يذهبنَّ خيالُك إلى عوالِم  صغيرة تتحكَّم فيها المشاعر والأفكار، وتذكر أن هناك عوالم في هذا الكون تبكي عليك وتتحسر لفقدك ...

فالدواب وحيتان البحر وحتى النملة في جحرها يصلون على معلم الناس الخير ويدعون لطالب العلم..

فكيف به وهو في أمس الحاجة للدعاء عند مغادرته عالم الدنيا...

*صناعة الموت..*

إن من الناس من يموت يوم يموت وهو لا يساوي شيئا بل يرتاح منه حتى أهله ومن الناس يموت وقد أتقن موتته لأنه خلد ذكره بكل جميل، ونقش فعله في الجيل فالعظماء النبلاء يحسنون صناعة الموت وفي التاريخ شواهد حية لعباقرة كان لهم فريهم في صناعة العظمة فما إن تقرأ سيرهم حتى تشتم روائح المسك ونفحات الزهر  تعبق من حواليك...فكأنهم أحياء يسامرونك وفي هذا يقول الشاعر:

*بالذكر يحي المرء بعد وفاته فانهض إلى الذكر الجميل وخلدِ*

ومن مات من العظماء فإن جسده الذي يدفن أما مكارمه فتعلن وفي هذا يقول الشاعر:

*لعمرك ما وارى التراب فعاله ولكنه وارى ثيابا وأعظما*

وتترد محاسنه على المسامع فتتشنف بها فكأنه بين القوم ما فقدوه وفي هذا يقول الشاعر:

*ردت صنائعه عليه حياته فكأنها من نشرها منشور*

يا كرام..

كلنا سنموت..

لكن ماذا قدمنا..

لقد انبهرت بما قدمه سهيل اليمن وتمنيت لو زيد في عمره ثلاثين سنة لما قرأت وعلمت عن الدور الذي يقوم به والأجيال التي بناها وكفاكم أن العلامة وزير الأوقاف ممن تأثروا به وغيره العشرات بل المئات ممن سلكوا الدرب على يديه وكانت بصمته واضحة فيهم..

ولكن العبد إذا أقبل على مولاه  بصدق بارك الله في جهده وعمره يقول ابن عطاء الله : "رُبَّ عُمُرٍ اتَّسعت آماده وقلت أمداده، ورُبَّ عُمُرٍ قليلة آماده، كثيرة أمداده، ومن بورك له في عمره، أدرك في يسير من الزمن من المنن ما لا يدخل تحت دائرة العبارة ولا تلحقه الإشارة".

انظر إلى الإمام النووي، الذي عاش نيفا وأربعين عاما، لكنه ترك تراثا علميا فريدا وهو مشروع لتكوين العلماء من الصفر ، ابتداء بالأربعين النووية، ثم الأذكار، ورياض الصالحين، وشرح صحيح مسلم، والمنهاج، والروضة، والتقريب والتيسير، ثم ختمها بالمجموع فجمع فيه الفقه والحديث وأصول الإسلام وأحكام الدين..

وتأمل معي سيبويه الذي مات في الثانية والثلاثين من العمر وترك لنا علما خالدا ما محته السنون..

وانظر إلى عبدالحميد بن باديس الذي الذي مات في الخمسين من العمر وأسس حركة الجهاد والتجديد وجمعية العلماء التي لا زالت تؤتي أكلها بإذن ربها وأصبح أشهر من نار على علم..

وشيخنا في فترة وجيزة ما وصل إلى الستين بعد وقد حقق ما لم يحققه الكثير من الناس..

*عاجل بشرى المؤمن*

إن البشارات تريح النفس وتطمئن الفؤاد وظننا بربنا عظيم  لأنه أهل الفضل والجود والكرم والشهادة بالثناء الحسن للمُتوفَّى ومن البشارات كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرُّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ» ثمَّ مرُّوا بأخرى فأثنوا عليها شرَّاً، فقال: «وجبت» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيراً؛ فوجبت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شرَّاً، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض»

وشيخنا الراحل تجد كل من عرفه يثني عليه وعلى أخلاقه وصلاحه ومن البشارات شفاعة المصلين لاسيَّما أهلُ التوحيد للمُتوفَّى: ويدل لهذه الشفاعة أحاديث:

- حديث عائشة رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مَيِّت يُصلِّي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مئة، كلُّهم يشفعون له إلا شُفِّعوا فيه» وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما «أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً إلَّا شَفَعهم الله فيه» فكيف بجموع غفيرة لم تشهد مثلها مأرب على الإطلاق..

ومن البشارات الختم على عمل صالح: فعن أنس بن مالك، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أراد الله بعبدٍ خيراً يستعمله» قيل: كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال: «يُوفِّقه لعمل صالح قبل الموت»

وعن عمرو بن الْـحَمِق الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أراد الله بعبد خيرا عَسَلَهُ قبل موته» قيل: وما عسلُه قبل موته ؟ قال: «يُفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يَرْضى عنه» فكيف وهذا الشيخ قد صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى طلعت الشمس ثم عاد لبيته ليسلم الروح إلى بارئها...

وما رفع الشيخ هذه الرفعة وجعل الناس يحزنون على فراقه ويتألمون لرحيله إلا

الإخلاصُ والصدق مع الله في القول والعمل_ فيما أحسب_

وهذه هي المنزلة التي رفعت الشيخ أيَّما رِفْعة، ، فأيُّ فَضيلة أعظمُ مِن الإخلاص؟

 يقول أحد العارفين:

«وقد جَرتْ عادة الله التي لا تُبدَّل وسُنَّته التي لا تُحوَّل ؛ أن يُلْبَس المُخلِص من المهابة، والنُّور، والمحبَّة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه، ونِيَّته ومعاملته لربِّه، ويُلْبَس المرائي اللَّابس ثوبي الزُّور من المقْتِ، والمهانة، والبُغْضة ما هو اللَّائق به ؛ فالمُخلِص له المهابة والمحبَّة، وللآخر المقت والبغضاء»، فرحمك الله شيخنا، وأنزل على قبرك شآبيب رحمته.

*عامر الخميسي*


: الأوسمة



التالي
كتاب : الدعوة الإسلامية في القرن الحالي فضيلة : الشيخ محمد الغزالي الحلقة [ 22 ] الفصل العاشر : الأبعاد الجديدة: بعد ما صعدوا هبطنا!!
السابق
هذا هو الإسلام

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع