البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد .. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة [ 2 ] : مقدمة الطبعة الأولى والثانية (1 – 3)

الرابط المختصر :

 

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على محمد خاتم رسله ، الذي بعثه الله رحمة للعالمين ، وحجة على الناس أجمعين ، بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وعلى آله وصحبه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، أولئك هم المفلحون ، وعلى كل من سار على دربه ، واهتدى بهديه ، وجاهد جهاده إلى يوم الدين .

أما بعد :

فإن موضوع (الجهاد في الإسلام) من أعظم الموضوعات خطرا ، وأبعدها أثرا، لما له من قيمة وأهمية في الحفاظ على هوية الأمة، والدفاع عن كيانها المادي والمعنوي، وعن رسالتها التي هي مبرر وجودها وبقائها.

وبغير الجهاد يصبح حماها مستباحا، ودم أبنائها رخيصا رخص التراب، وتغدو مقدساتها أهون من حفنة رمل في صحراء، وتهون الأمة عند أعدائها فيتجرأ عليها الجبان، ويتعزز عليها الذليل، وتغزى الأمة في عقر دارها، ويتحكم أعداؤها في رقابها، فقد نزع الله من صدور عدوها المهابة منها، بعد أن كانت تنصر بالرعب على أعدائها مسيرة شهر.

وأخطر من ذلك ـ أو قل: من أسبابه ـ : أن ترى الأمة أغفلت الجهاد، بل ربما أسقطت الجهاد من حسابها ومن برنامجها: أسقطته ماديا، وأسقطته نفسيا، وأسقطته فكريا وثقافيا. فالأمة يجب أن تعد نفسها للجهاد عسكريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا، وإن لم تقم بذلك تداعت عليها الأمم من كل أفق ، كما تداعى الأكلة على قصعتها. كما نبأنا الحديث الشريف، الذي نبهنا على مؤامرة دولية مرتقبة على المسلمين، رغم كثرتهم العددية، ولكنهم للأسف: كمٌّ بلا كيف، رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها " فقال قائل : "ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"[1] فقال قائل : وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت"[2[ .

بين أن سبب وهن الأمة وضعفها: سبب نفسي وأخلاقي في الأساس، هو: حب الدنيا وكراهية الموت، وإنما ينتصر الإسلام بقوم شَروا الحياة الدنيا بالآخرة، وآثروا ما عند الله على ما عندهم، وآمنوا بأن الموت في سبيل الله هو عين الحياة، فبذلوا أنفسهم رخيصة في سبيل الله، وهم الذين كان خالد بن الوليد يهدد بهم طغاة الفرس والروم، إذ يقول: "وإلا غزوتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة".[3[

ولكن من الخطر والخطل أيضا : أن يفهم الجهاد على غير وجهه ، ويوضع في غير موضعه ، وتستباح باسمه دماء معصومة ، وأرواح بريئة ، وتستحل باسمه حرمات وأموال وديار بغير حق ، ويتهم بسبب ذلك المسلمون والإسلام بالعنف والإرهاب والعدوان ، والإسلام برئ كل البراءة من هذا الاتهام ، وهذا ما حدث بعد الحادي عشر من أيلول (11 سبتمبر) 2001 م ، إذ أمسى الإسلام هو المتهم الأول بإفراز العنف والإرهاب في العالم .

 المواقف النظرية من الجهاد :

لقد كتب كثيرون عن الجهاد، وقُدِّمت فيه عدة أُطروحات للدراسات العليا في عدد من الجامعات الإسلامية والمدنية: ماجستير ودكتوراه، وكتب كثير من الباحثين في الموضوع، وعُنيت به جماعات وحركات إسلامية: علما وعملا ودعوة وتطبيقا، وبعضهم سمَّى نفسه بهذا الاسم مباشرة مثل: جماعات (الجهاد) في أكثر من بلد عربي وإسلامي.

ولكن مشكلتنا في هذه القضايا الكبرى: أن الحقيقة تضيع فيها بين طرفي الغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط، أو (الطغيان والإخسار) وفق تعبير القرآن، الذي قال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7-9[

لقد رأينا في الجهاد ثلاثة مواقف، أو ثلاث فئات:

• [1] الفئة التي تريد إماتة الجهاد:

فئة تريد أن تُهيل التراب على الجهاد، وأن تسقطه من حياة الأمة، وأن تجعل أكبر همِّها ومبلغ علمها: أن تربِّي الأمة - كما تقول - على القِيَم الروحية، والفضائل السلوكية، وتعتبر هذا هو (الجهاد الأكبر): جهاد النفس والشيطان.

ومن الغريب أن يتفق في هذا الاتجاه: دعاةُ التصوف السلبي الموروث من عهود التراجع والتخلف، (على خلاف دعاة التصوف السني الإيجابي الذين ساهموا في الجهاد بنصيب وافر، مثل: الأمير عبد القادر في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا والسنوسيين ...)، ودعاةُ العلمانية الدخيلة، المتغرِّبون، يشاركهم عملاء الاستعمار الغربي والشرقي، من اليمين واليسار، الذين يريدون أن يجرِّدوا الأمة من أسلحتها، لتبقى عارية مكشوفة أمام أعدائها، فهاجموا فكرة الجهاد، وحركة الجهاد، قديما وحديثا، واتهموا الجهاد الإسلامي بالعدوانية.

ويرحِّب بهؤلاء وأولئك جميعا: الاستعمار قديمه وحديثه، ويغذِّيهم بما يقوِّي عضدهم، ويمدُّهم بكلِّ ما يعينهم على تحقيق أهدافهم، ولقد صنع الاستعمار البريطاني نِحلة في الهند: (القاديانية) كان أشهر ما دعت إليه هو (إلغاء الجهاد)، لإخلاء الطريق للاستعمار، ليفرض سلطانه على المسلمين دون مقاومة.

ومن المؤسف حقا: أن يوجد من علماء الشرع ودعاته: مَن يريد أن يَدين كلَّ أنواع الجهاد المعاصر: صالحها وطالحها، مستقيمها ومنحرفها، معتدلها ومتجاوزها، في حين يبرِّر لطواغيت الحكام كل ما تقترفه أيديهم من تعطيل للشريعة، وإفساد للأخلاق، وارتكاب للمظالم؛ فكم من دماء سُفكت، وكم من أعراض هُتكت، وكم من حرمات انتُهكت، وكم من حقوق ضُيعت، وكم من كرامات أُهدرت، وكم من ألوف اختُطفوا من منازلهم، ثم ذُهب بهم إلى حيث لا يُدرَى أهم أحياء أم أموات؟ وكم من أناس قُتلوا في سجونهم بأيدي سجَّانيهم، خُفية أو جهرة!! وكم… وكم... وهذا كلُّه حلال مبرَّر. أما المؤثَّم والمجرَّم والمحرَّم، فهو ما تقوم به الشعوب المقهورة، والجماعات المهضومة من تنفيس دفاعي، قد يتجاوز بعضهم فيه، ولكن ربما كان لهم من العذر ما ليس لظالميهم من المعادين لدينهم، الماكرين بمِلتهم، من الذين طغَوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد.

• [2] الفئة التي تعلن الحرب على العالم كله:

وفي مقابل هذه الفئة: فئة فهمت الجهاد على أنه (قتال العالم كله): مَن حارب المسلمين أو وقف في سبيل دعوتهم، أو فتن المسلمين في دينهم... ومَن ألقى إلى المسلمين السلم، ومدَّ يد المسالمة والمصالحة للمسلمين، فلم يَشهَر في وجوههم سيفا، ولم يظاهر عليهم عدوا.

فكل الكفار عند هذه الفئة سواء في وجوب مقاتلتهم إذا كان المسلمون قادرين، فالكفر وحده سببٌ كافٍ لقتال غير المسلمين!

وكل ما ورد من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، تدعو إلى مسالمة مَن سالمنا أو البر والإقساط إلى مَن لم يقاتلنا في الدين، ولم يخرجنا من ديارنا، أو يظاهر على إخراجنا، ونحو ذلك: فكلها كانت آيات مرحلية، انتهى مفعولها، وأمست موجودة في المصحف خطًّا، معدومة معنًى. فقد نسختها كلها - وهي نحو مائة وأربعين آية أو مئتا آية أو أكثر - آيةٌ واحدةٌ سمَّوها (آية السيف(!

والعجب كل العجب أن آية السيف هذه قد اختلفوا في تعيينها.

هؤلاء لا يرتضون ميثاق الأمم المتحدة، لأنه يمنع الأمة من الجهاد، ويفرض عليها احترام الحدود الإقليمية للدول ذات السيادة، ويوجب حلَّ النزاعات الإقليمية بالوسائل السِّلمية.

كما يرفض هؤلاء الاتفاقية الدولية للتعامل مع الأسرى، إذ يرون أن لهم حق قتل الأسرى بلا قيد ولا شرط، وهذه الاتفاقيات تمنع قتل الأسرى.

كما يرفضون اتفاق العالم كله على (إلغاء الرق)، ويرون في هذا تحريم ما أحلَّ الله، وإبطال ما شرع الله!

ويرى هؤلاء: أن الإسلام إنما انتشر في العالم بالسيف والجهاد، وأن الذين يزعمون أن الإسلام انتشر بالدعوة والحُجَّة والإقناع وأخلاق المسلمين، لا بالسيف والسنان، مثل: المؤرخ البريطاني (توماس أرنولد) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام)، هؤلاء مضلِّلون، يريدون أن يبعدوا المسلمين عن الجهاد، والذين يمدحون مثل هذا المستشرق من المسلمين، إنما هم جهلة بحقيقة الإسلام، وبضاعتهم مُزجاة في علومه، وهم تلاميذ للاستشراق الخبيث!

وقد كان لهذا الفكر آثار سيئة، في أنفس مَن آمن به من الشباب المخلصين في نيتهم، فحملوا السلاح على قومهم وأهليهم، وقاتلوهم وقتلوا منهم، فقد أدخلوهم في زُمرة الكفار الذين يجب قتالهم، لأنهم ارتدُّوا عن الإسلام، وباتوا يوزعون تهمة الكفر على كل مَن يخالفهم من الناس، حتى من علماء الدين! ولم يبالوا بمَن قتلوا من البُرآء في سبيل ذلك، حتى ألصقوا بالإسلام تهمة (العنف(

وزاد على ذلك بعضهم، فقتلوا مَن ليس لهم بهم عَلاقة، ولا لهم معهم مشكلة، مثل: السياح وركاب الطائرات والرهائن وأمثالهم، ليرهبوا غيرهم بقتلهم، أو باختطافهم واحتجازهم، وبذلك ألصقوا بالإسلام تهمة أخرى - إلى جانب تهمة العنف - وهي تهمة (الإرهاب(.

• [3] فئة التوسط والاعتدال:

والفئة الثالثة، هي (الأمة الوسط)، التي هداها الله إلى الموقف الوسط، وآتاها العلم والحكمة، ورزقها البصيرة في فقه الشرع، وفقه الواقع، فلم تقع في تفريط الفئة الأولى التي تريد للأمة أن يبقى حقها بلا قوة، ومصحفها بلا سيف، وأن تبقى دارها بلا حُرَّاس، وحرماتها بلا حُماة.

كما لم تقع في إفراط الفئة الثانية وغلوِّها، التي تريد أن تقاتل المسالمين، وتشنَّ الغارة على الناس أجمعين، وتعلن الحرب على الأحمر والأسود، والشرق والغرب، بدعوى أنها تسوق الناس إلى الله، وتقودهم بالسلاسل إلى الجنة، وتأخذ بأيديهم قسرا إلى الصراط المستقيم، وتزيل الحواجز المادية التي تضعها السلطات الطاغية أمامهم، فلا يُتاح لهم تبليغهم كلمة الله، ودعوة رسوله، ليسمعوها عالية صريحة، خالية من كل شَوب.

وهذا كان صحيحا في الزمن الماضي، حين كان كسرى وقيصر وأمثالهم من الطواغيت، يقفون عقبة في سبيل شعوبهم وأممهم، فلا يمكن إيصال الدعوة إليهم إلا بالانتصار عليهم، وإزاحتهم بالقوة من طريق الدعوة، وهذا ما فعله الصحابة ومَن اتَّبعهم بإحسان.

أما اليوم فلم نعُد في حاجة إلى ذلك، وقد أتاحت لنا وسائل العصر: أن نبلِّغ العالم كله دعوتنا، وأن نُسمعهم كلمتنا، دون أن يستطيع حاكم منعنا من ذلك. فعندنا القنوات الفضائية التي تملأ الآفاق، والإذاعات الموجَّهة التي تنقل موجاتها إلى أقصى العالم، وشبكة الإنترنت التي تدخل كل بيت دون إذن من أحد، والرسائل والنشرات المكتوبة بلغات العالم، كل هذه الأدوات والآليات هي أسلحتنا القوية والمؤثرة في جهاد العصر، وهي تحتاج إلى جيوش جرَّارة من الدعاة والمعلِّمين والإعلاميين المدرَبين الأكفاء الأقوياء الأمناء المقتدرين على مخاطبة العالم وأُممه بلغاته المختلفة، وبلسان عصره، وبأساليب عصره، ليبيِّنوا لهم، ويُفهموهم ويؤثروا في عقولهم وعواطفهم.

وهذا - للأسف الشديد - ما لا نملك عشر معشاره، بل ولا واحدا على الألف من المطلوب في هذا الميدان الخطير.

ولقد قلت بحق يوم افتتاح موقعنا العالمي على الإنترنت (موقع إسلام أون لاين. نت - www.Islamonline .net): إن هذا هو جهاد العصر، فمَن كانت له نية في الانضمام إلى ركب المجاهدين، أو رغبة في نيل فضل الجهاد في سبيل الله، بالنفس أو بالمال، أو بالجهد، فهذا هو جهاد اليوم، وهو جهاد كبير، وجهاد طويل.

• مراجعات بعض الجماعات الجهادية لنفسها :

ومما يجب تسجيله هنا: ما قامت به بعض الجماعات الإسلامية التي تبنَّت مدة من الزمن فكر الفئة الثانية وطبَّقته، وقاتلت وقتلت، وأصابها في سبيل ذلك ما أصابها، من أحكام بالإعدام، وأحكام بالسَّجن لمدد تطول أو تقصر. ثم طفِقت تراجع نفسها، وتنقد ذاتها، وتستمع إلى غيرها، وتعود إلى خط الاعتدال والوسط، بعيدا عن الوكس والشطط، وتتراجع عن كثير مما كانت تؤمن به وتصرُّ عليه وتدافع عنه. وهو ما قامت به (الجماعة الإسلامية) في مصر - وهي شقيقة (جماعة الجهاد) - فقد أصدرت عدة كتب سمَّتها (سلسلة تصحيح المفاهيم)، أعلنت فيها تخلِّيها عن كثير من أفكارها القديمة، في شجاعة أدبية تُحسب لها، وتُشكر عليها، وقد صدر منها اثنا عشر كتابا.

ومما فاجأني في هذه الكتب: أني وجدتُهم ينقلون من كتبي صفحات كاملة متتالية، وقد كانت من قبل من (المحرَّمات) التي يرفضون قراءتها، ويحذِّرون منها أتباعهم. فهذا التغيير يدلُّ على أن العقول المغلقة قد عرَفت التفتُّح، والنفوس المتعصبة قد عرَفت التسامح، والمواقف المتصلِّبة قد عرَفت اللين، وأن عهدا جديدا قد بدأ، لم يعُد فيه الفرد المسلم أسيرا لرأي واحد، ولشيخ واحد، ولوِجهة واحدة، وهذا بلا شك تطوُّر محمود، وإنجاز كبير.

لهذه الاعتبارات وجدتُ من الواجب عليَّ أن أنهض للكتابة في هذا الموضوع، بعد أن شرح الله له صدري، فكم خطر في بالي منذ أنجزتُ كتابي (فقه الزكاة) أن أكتب شيئا مشابها في (فقه الجهاد). وكم طلب مني إخوة كرام منذ مدة أن أكتب في هذه القضية التي شرَّق الناس فيها وغرَّبوا، واعتذرت لهم بأني لا أجد في نفسي هِمة لذلك. مع أني قد كنت كتبت فيه من قديم نتفا مبعثرة، في انتظار أن يحين الوقت للكتابة المنظمة المتصلة فيه، باعتباره أحد الموضوعات الأساسية التي لا بد من الكتابة المنهجية فيها، لحاجة المسلمين خاصة، وحاجة العالم عامة، إلى معرفتها معرفة حقَّة، بعيدة عن غلو الغالين، وتقصير المقصرين.

وها قد آن الأوان للغوص في لُجة هذا البحر الخضم، لبحث الموضوع من جذوره، وردِّه إلى أصوله المُحكمة من نصوص القرآن والسنة، وإعادة قراءتها وتدبُّرها وفقهها في ضوء الأصول الدينية، والمقاصد الشرعية، والقواعد المرعية، والمسلَّمات العلمية والعقلية، والرجوع إلى أقوال المتقدِّمين، والموازنة بينها، وترجيح الراجح منها، وعدم الاكتفاء بالأقوال الشائعة على الألسن، فكثيرا ما تشيع بعض الآراء وتُنشر وتشتهر، حتى ليحسب القارئ أنها الرأي الوحيد ولا رأي غيره، فإذا قرأ وتوسَّع، وراجع ووازن، تبيَّن له أن في الأمر خلافا كبيرا، وأن الأمر الشائع ربما لم يكن هو الأقوى والأصوب.

وقد أوجب الإسراع بالبحث في هذا الموضوع أمران:

• [1] ما يتعرض له الإسلام وأمته اليوم من غارة شعواء، تريد اقتلاعه من جذوره، فقد أُعلنت عليه حرب لا هوادة فيها، شنَّتها عليه قوى الصليبية الماكرة، والصهيونية الفاجرة، والوثنية الكافرة، تقودها أعتى قوة في الأرض اليوم، متستِّرة بدعوى حرب (الإرهاب)، وهي دعوى زائفة مكشوفة العَوار؛ فإن أعظم قوة إرهابية في الأرض هي قوة الكِيان الصهيوني الغاشم، الذي قامت دولته منذ البداية على الاغتصاب والعدوان، والمذابح البشرية، والإحراق والتدمير، ومع هذا تعتبرها القوة العالمية العظمى (أمريكا) مدافعة عن نفسها، وتعتبر السفاح الأكبر (شارون) - رئيس الوزراء الأسبق لدولتهم المدللة إسرائيل - ومن بعده أولمرت رجُلَيْ سلام!! على حين ترى المقاومة الفلسطينية الشرعية - التي تدافع عن أرضها وعِرضها ومقدساتها - جماعات إرهابية عدوانية متَّهمة بكل أنواع الجرائم!!

• [2] غلو بعض الشباب المتحمِّسين في قضية الجهاد، من الذين اشتركوا في المقاومة الأفغانية الباسلة، للشيوعية الغازية الطاغية، بقيادة الاتحاد السوفيتي، وكانت هذه أشرف حرب وأعدلها، للدفاع عن الدين والأرض والعِرض، وكانت أمريكا ذاتها تشجِّعهم وتؤيِّدهم، وتفتح لهم المغاليق، وكذلك أقطارهم وحكامهم. فلما انهزم الاتحاد السوفيتي، وانتصر الأفغان المسلمون عليهم: بدأت أمريكا والأنظمة الحاكمة العربية والإسلامية، تقلب لهؤلاء الشباب ظهر المِجَنِّ، وأصبح مجاهدو الأمس مجرمي اليوم، أمسوا يُستقبَلون من المطارات إلى المعتقلات. فدفعوا هؤلاء الشباب دفعا إلى أن يتَّخذوا الغلو طريقا، ويحاربوا العنف بالعنف، قائلين: الشرُّ بالشرِّ يحسم، والبادي أظلم. ولا ننكر أن منهم مَن آمن بفكرة العنف مع الغير، كما آمن بها الخوارج من قديم. والفكر لا يقاوم إلا بالفكر لا بالعصا والسيف.

وقد تكون نيَّات هؤلاء الشباب حسنة، فكلُّهم أو جلُّهم متديِّنون مخلصون، ولكن الغلو إذا دخل أيَّ شيء أفسده، وفي الحديث: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".[4[

فنشأ تنظيم القاعدة، ونشأت السلفية الجهادية، كما نشأ قبلهما جماعات الجهاد، وأصبح لها (فقه) تروِّجه، وفكر تسوِّق له، وأمسى لهم تلاميذ ومعجبون، يريدون إعلان الحرب على العالمين، فكان لا بد من الإسراع في الردِّ عليهم، وتفنيد شبهاتهم، التي بها يبسطون سلطانهم على الفتيان الذين لم يتحصَّنوا من الفقه في الدين بما يحميهم من الوقوع بسهولة في أيدي هؤلاء.

ولقد تحدَّث الكثيرون عن الجهاد، فأساؤوا فَهمه، ولم يعرفوا حقيقته وأبعاده، ولا أهدافه ومراميه، وضاعت الحقيقة في زحام القيل والقال، وأساء الكثيرون إلى الإسلام وإلى الأمة، وإلى الحضارة والتراث والتاريخ.

والمشكل في كثير من قضايانا العلمية والفكرية: أن بعضا من علمائنا ودعاتنا يتبنون أحد الآراء في المسألة، وربما كان الرأي المشهور، ويعتبرونه هو الإسلام، ويجعلون دفاعهم عنه دفاعا عن الإسلام ذاته، ويعدُّون مخالفيهم فيه كأنهم هم خصوم الإسلام، ويصوِّبون إليهم سهام الطعن والتجريح المسمومة. والحق أنها وِجهات نظر لا أكثر، فلا يجوز أن يتحول البحث فيها إلى معركة يدور فيها القتال، ويقع فيها الفريقان أسرى وجرحى وقتلى!

وهذا ما رأيتُه في تناول المفكرَيْن الكبيرَيْن: أبي الأعلى المودودي، وسيد قطب، رحمهما الله، لقضية الجهاد، برغم حبي واحترامي الكبيرين لكليهما، لما بذلاه في سبيل الإسلام، لكنهما إذا تبنَّيا قضية، تحمَّسا تحمُّس المحامين الكبار للدفاع في القضايا الشهيرة، وصالا وجالا، بكلِّ ما يملكان من قدرة وبيان. وهما على كل حال مأجوران في اجتهادهما، أصابا أم أخطآ، وهذه من روائع الإسلام حقا.


: الأوسمة



التالي
فتوى حول : حكم المسابقات ، ما يجوز منها وما لا يجوز:
السابق
البيان الختامي للدورة 21 لمجلس شورى حركة النهضة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع