البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد .. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة الحلقة [ 3 ] : مقدمة الطبعة الأولى والثانية (2 – 3)

الرابط المختصر :

 

 منهجي في هذا الكتاب:

ومنهجي في هذا الكتاب يقوم على جملة عناصر أساسية:

 ]• أولا] الاعتماد أساسا على القرآن:

الاعتماد أساسا على نصوص القرآن الكريم، فهو المصدر الأول للإسلام، الذي لا ريب فيه ولا خلاف عليه، وقد ثبت ثبوتا قطعيا بالتواتر اليقيني، محفوظا في الصدور، متلوا بالألسنة، مكتوبا في المصاحف، وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة.

وهو الذي نستمدُّ منه الدليل على حُجيَّة جميع المصادر الأخرى، حتى السنة النبوية نفسها، فيستدل بآيات القرآن الكريم على حُجيَّتها.

ونفهم هذا القرآن في ضوء أساليب اللغة العربية، بحقيقتها ومجازها، مُراعين السباق والسياق، غير متعسِّفين ولا متكلفين، جامعين بين النصوص بعضها وبعض، موقنين بأن هذا الكتاب يُصدِّق بعضه بعضا، ويُفسِّر بعضه بعضا، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرًا} [النساء:82]. مؤمنين بأن القرآن {كِتَابٍ مُبِينٍ} ميسَّر للذكر والفَهم، وما قيل: إنه (حمَّال أوجُه) فهذا بالنسبة لـ(المتشابهات) فيه، وهي القليل، أما الآيات المحكمات (البيِّنات) فهي الأكثر، وهي الأصل، ولهذا سمَّاها القرآن (أم الكتاب)، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]. ولهذا كان منهجنا أبدا: ردَّ المتشابهات إلى المحكمات، في حين رأينا منهج (الزائغين) ترك المحكمات البيِّنات، والتمسُّك بالمتشابهات.[1[

مؤمنين كذلك بأن كل نصٍّ في المصحف إنما أنزله الله تعالى، ليهتدي عباده بهداه، ويعملوا بموجبه، كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155]، {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105[

ومن هنا كان منهجنا: أن الأصل الثابت في ذلك: أن كل ما في المصحف معمول به غير منسوخ ولا مُلْغًى، لأن ما ثبت باليقين لا يُزال بالشك. ولهذا توقفنا طويلا عند قول مَن قال: إن هناك آية في القرآن سمَّوها (آية السيف) نسخت مائة وأربعين آية أو أكثر في القرآن! وناقشنا هذه الدعوى، وأبطلناها بالأدلة، متسائلين: أين آية السيف هذه؟ فقد اختلفوا في تعيينها: أيُّ آية هي؟ وقد أبطلنا بالأدلة: كل ما ادّعوَه أنه (آية السيف(

بل اضـطرنا الموقف: أن نناقش (فكرة) النسخ، التي اشتهرت بين العلماء، ولا سيما النسخ في القرآن، وهي فكرة بعيدة الأثر، شديدة الخطر، إذا أُخذت مسلَّمة، وصُدِّقت كل دعوى فيها، دون تمحيص ولا تحقيق، وخصوصا أن كثيرا من السلف كانوا يُسَمُّون ما عُرف بعد ذلك بتخصيص العام، وتقييد المطلق، وبيان المجمل، ونحو ذلك: نسخا! إذ لم يكن مصطلح النسخ - كما عُرف عند المتأخرين - قد استقرَّ عندهم. ومَن قرأ ما جاء عن السلف في ذلك، تبين له الأمر بوضوح.

ومن حق كتاب الله علينا: أن نقول لكل ما بين دفتيه: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، وألا نضرب بعضه ببعض، أو نأخذ بعضه ونعرض عن بعض، فنكون - بوجه ما - على نحو ما كان بنو إسرائيل الذين وبَّخهم الله تعالى بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، وقد قال الله تعالى لرسوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49[.

 ]• ثانيا] اعتماد السنة الصحيحة:

الاعتماد على السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وتقريره، التي جاءت بها الأحاديث التي صحَّ سندها بلا انقطاع ولا شذوذ ولا عِلَّة، ولا تُعارض ما هو أقوى منها وأثبت: من القرآن أو من أحاديث أخرى، أو من منطق العلم والعقل، بحيث تكون مبيِّنة لما نزل به القرآن لا مُعارضة له، وتسير في ضوء ما أنزل الله من الكتاب والميزان.

ونحن نرحب بكل ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان القرآن، فهو المكلَّف من ربه ببيان ما نزله الله عليه، كما قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44[

فلا نعتمد على حديث ضعيف في سنده، وإن صحَّحه بعض المشاهير، كما لا نعتمد قاعدة التقوية بكثرة الطرق والشواهد بإطلاق، ولا سيما في الأمور الكبيرة، التي تتعلق ببيان موقف الإسلام من قضايا خطيرة، مثل علاقته بالأمم الأخرى: أهي السلم أم الحرب؟

ولهذا ضعَّفنا حديث: "بُعثتُ بالسيف"[2]. الذي اشتهر لدى القائلين بوجوب محاربة العالم كله، ضعَّفناه سندا، وضعَّفناه متنا.

واضطرنا هذا ومثله أن نرجع إلى علم الرجال، وأقوال أهل الجرح والتعديل، وهذا أمر لا يستغني عنه فقيه يريد أن يجتهد لعصره ومشكلات زمانه، وقضايا أمَّته والعالم من حوله.

ولقد نادينا منذ عقود بضرورة الوصل بين الفقه والحديث، فلا يستغني المحدِّث عن الفقه، ولا يستغني الفقيه عن الحديث، وقد قال بعض كبار السلف: لو كان الأمر بيدنا لضربنا بالجريد: فقيها لا يشتغل بالحديث، ومحدثا لا يشتغل بالفقه.[3[

ولهذا التزمنا: أن نُخرِّج كل حديث نورده في كتابنا هذا، ونبيِّن درجته من حيث الصحة والضعف، أو القَبول والرد، سالكين أقصر السبل، ومعتمدين أوجز العبارات في ذلك، حتى لا نثقل الكتاب بتطويل التخريج، كما يفعل بعض المؤلفين، وهذا فيما عدا ما اقتضاه الموقف من إسهاب لا بد منه.

كما نُعنى بتخريج آثار الصحابة وتابعيهم من مصادرها الأصلية، التي اهتمت بنقل أقوالهم بأسانيدها، مثل: المصنف لعبد الرزاق الصنعاني، والمصنف لابن أبي شيبة، والسنن الكبرى للبيهقي، وكتب الطحاوي وابن عبد البر وغيرها.

فتوثيق النقول أصل أصيل في منهجنا، معتمدين أعلى المصادر وأوثقها، غير مكتفين بمرجع فرعي أو هامشي أو تجميعي، مع إمكان الرجوع إلى المصادر الأصلية والعليا.

وإذا وجد القارئ في كتابي هذا حديثا ضعيفا، فليس للاحتجاج به أو الاعتماد عليه، إنما قد يكون لمجرَّد الاستئناس به، والعمدة أدلة أخرى، وقد يكون منقولا عن الغير في سياق النقول ومناقشتها، أو غير ذلك.[4[

ومن هنا عنينا بكتب (أحاديث الأحكام) وشروحها، مثل: (عمدة الأحكام) للمقدسي، وشرحه لابن دقيق العيد (الإحكام)، والعدَّة للصنعاني عليه، وكتاب (منتقى الأخبار) لابن تيمية عبد السلام جد شيخ الإسلام، وشرحه (نيل الأوطار) للشوكاني، و(بلوغ المرام) للحافظ ابن حجر، وشرحه (سبل السلام) للصنعاني، وكتب الحافظ البيهقي، وبخاصة (السنن الكبرى)، و(شرح معاني الآثار) للإمام الطحاوي الحنفي، وكذلك (مشكل الآثار) له.

• [ثالثا] الاغتراف من بحر الفقه كله:

الانتفاع بكنوز الفقه الإسلامي، والاغتراف من بحاره الزاخرة، دون تحيُّز لفقه مذهب دون مذهب، ولا انغلاق على إمام دون إمام.

بل نعتبر هذه التَّرِكة الكبرى مِلكا لكل باحث، يغوص في أعماقها، ويطَّلع على خباياها، وينقِّب في زواياها، مقارنا بين قول وقول، وبين دليل ودليل، دون تعصُّب لرأي، أو تقليد دائم لمذهب. بل قد نأخذ مرة برأي أبي حنيفة، وثانية برأي مالك، وثالثة ورابعة وخامسة برأي الشافعي أو أحمد، أو داوود، بل قد نخرج في بعض الجزئيات، عن المذاهب السُّنية إلى مذهب الزيدية أو الجعفرية أو الإباضية، إذا وجدنا الحل فيها. وقد نأخذ ببعض المذاهب المُنقرضة، مثل: مذهب الأوزاعي أو الثوري أو الطبري.

بل قد نخرج عن المذاهب كلها إلى الساحة الرَّحبة لفقهاء الصحابة والتابعين والأتباع، ممَّن ليس لهم مذهب متبوع، كالخلفاء الراشدين، وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة ومعاذ وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وتلاميذهم من أمثال مَن عُرفوا بالفقهاء السبعة في المدينة، وغيرهم بمكة والكوفة والبصرة ومصر والشام وسائر الأمصار التي تفرَّق فيها الصحابة وتلاميذهم. مثل: سعيد بن المسيب وسعيد بن جُبير وعكرمة ومجاهد وعطاء وطاووس، والحسن البصري وابن سيرين وعلقمة والأسود ومسروق والنَّخَعي، والليث بن سعد، وغيرهم.

ننتفع بتراث الفقه الإسلامي بشتَّى مدارسه، بمصادره وكتبه، وخصوصا ما عُني منها بالاستدلال. ولذا نُعنى بكتب الفقه المقارن أكثر من غيرها، مثل: (المحلَّى) لابن حزم (ت465هـ)، و(الاستذكار) لابن عبد البر (ت463هـ)، و(المغني) لابن قدامة (ت620هـ)، و(بداية المجتهد) لابن رشد الحفيد (ت595هـ)، وغيرها.

ونناقش الأقوال مقارنين بينها، مناقشة علمية موضوعية هادئة، ولا تهولنا شهرة أصحابها، وعلو كعبهم في مجال العلم، ومجال الزهد والتقوى: أن نضعها على مشرحة التحليل والنقد، ونقوِّي أو نضعِّف، ونختار أو نَدَع، وفقا لمعايير الترجيح العلمي، وحسبما يتراءى لنا، ويبلغه اجتهادنا، بعد التحري والبحث واستفراغ الوسع، فلا ندَّعي أن رأينا دائما هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، وأن رأي غيرنا هو الخطأ الذي لا يحتمل الصواب. بل نقول ما قال أبو حنيفة رضي الله عنه: هذا رأينا، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه. [5[

ونحمد الله سبحانه: أننا وجدنا ـ بلا افتعال ولا تكلُّف ـ في مصادر شريعتنا، وفي فقه أئمتنا الكبار، وفي أقوال سلفنا ـ منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم ـ ما يشدُّ أزرنا في اجتهاداتنا ومواقفنا العلمية؛ وخصوصا ما خالفنا فيه الرأي المشهور، أو قول الجمهور.

وقد أمدَّنا الله بعونه وتأييده، لتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة، والآراء التي سادت قرونا، وفهمها الناس على غير وجهها، ولا سيما حول ما اشتهر بين الفقهاء: أن فرضا على المسلمين ـ فرض كفاية ـ أن يقاتلوا غير المسلمين، ولو كانوا مسالمين لهم، حَسَني الرأي في دينهم، وأن يغزوهم في عقر دارهم، وهو ما يسمونه: جهاد الطلب، وبيَّنا بالأدلة: المراد بذلك، وبماذا يؤدَّى فرض الكفاية ولا سيما في عصرنا.

وفي تتبعنا لآراء الفقه الإسلامي، لا نقتصر على أقوال المتأخرين، من شُرَّاح المتون الشهيرة في المذاهب، والمُحشِّين عليها، وما بها من تفصيلات وتفريعات لا توجد في كتب المتقدمين، كما لا نقتصر على كتب المتقدمين، على ما فيها من أصالة ويسر، بل نجمع بينهما، ونستفيد مما في كلتيهما من علم وهدى. ونحن في هذه وتلك نسترشد بأقوال الفقهاء، ونرى أنها منارات تهدي الباحثين، وتضيء لهم الطريق، وليست أغلالا تكبِّل تفكيرهم، أو تقيِّد حركتهم.

كما نرفض الرأي الذي يرى الاستغناء عن الفقه كله، والبدء من جديد، بالرجوع إلى النصوص وحدها، وطرح هذه المعرفة التراكمية الضخمة ، وقد رددنا على هذا الرأي، وبيَّنا ضعفه في كتابنا (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية).[6[

إننا نؤمن أن الشريعة الإسلامية ليست هي الفقه الإسلامي، فالشريعة وحي الله، والفقه عمل العقل الإسلامي في استنباط أحكام الشريعة، ولكن الشريعة لا توجد إلا داخل الفقه الإسلامي، أعني مجموع الفقه الإسلامي، وليست الشريعة معلَّقة في الهواء، كما يتوهَّم بعض الناس.

كما نؤمن أن الفقه الحقَّ ليس هو النقل من الكتب، فإن الكتب تمثِّل عصرها وبيئتها. بل الفقه الحقُّ اجتهاد الفقيه لزمانه ومكانه وعالمه ، كما اجتهد السابقون لزمانهم ومكانهم وعالمهم ، ولا كلُّ ما صلح لعصر يصلح لغيره، ولا كل ما صلح لبيئة يصلح لغيرها، ولا سيما أن التغيُّر في زماننا صار شيئا كبيرا جدا، وسيأتي مزيد بحث لذلك في عنصر (الربط بالواقع المعاصر).[7[

  ]• رابعا] المقارنة بين الإسلام وغيره من الأديان والقوانين:

ولا نكتفي في المقارنة والموازنة بين المذاهب والآراء داخل الفقه الإسلامي ومدارسه، بل قد نقارن بين فقه الشريعة الإسلامية كلها والقوانين الوضعية الغربية، لنبيِّن مدى أصالة الشريعة، ورسوخ أصولها، ومتانة قواعدها، واستقلالها عن غيرها، وجمعها بين المثالية والواقعية، وبين الربانية والإنسانية.

كما نوازن أحيانا بين شريعة الإسلام كما تجلَّت في مصادرها، ولا سيما القرآن الكريم، وما جاء في الشرائع السماوية الأخرى، التي حُرِّفت كتبها وبُدِّلت، كما في شريعة التوراة، وما جاء فيها عن القتال من أحكام تقشعر من قسوتها الأبدان، وهذا ما جعلنا نرجع إلى (الكتاب المقدس) عند النصارى، بعهديه: القديم: المتضمن أسفار التوراة الخمسة وملحقاتها، والجديد: المتضمن الأناجيل الأربعة وتوابعها. حتى لا نرسل القول على عواهنه دون توثيقه.

وقد تبيَّن لنا بالدليل القاطع ـ كما سنذكر بعد بتفصيل ـ أن شريعة الإسلام في الجهاد شريعة العدل والرحمة والإحسان، وأن الحرب فيها تحكمها القِيَم الأخلاقية في كلِّ جوانبها ومجالاتها، فلا يُقتَل فيها إلا مَن يقاتِل، ولا تُقتَل امرأة، ولا طفل، ولا شيخ هرم، ولا راهب في صومعته، ولا حرَّاث في أرضه، ولا تاجر في متجره، ولا يَشهَر سيف السيف إلا على المحاربين، وأن يد المسلمين ممدودة أبدا لمَن جنح إلى السلم، حتى بعد الحرب... إلى آخر ما هو معروف من أحكام القتال في الإسلام؛ بخلاف ما جاء في التوراة بالنسبة للمدن البعيدة إذا فتحها اليهود وانتصروا على أهلها، فأمر التوراة إليهم: أن اضربوا جميع ذكورها بحدِّ السيف! لم يُستثنَ طفل صغير، ولا شيخ كبير!

أما المدن القريبة - التي يطلق عليها الشرَّاح عليها: أرض الموعد ويعنون بها: أرض فلسطين - فهذه إذا دخلها اليهود وفتحوها، فأوامر التوراة الصريحة المباشرة إليهم: أن أبيدوها عن بكرة أبيها، لا تستَبْقوا فيها نَسَمَة حيَّة. ومعنى هذا: الاستئصال الكامل![8]

 ]• خامسا] الربط بالواقع المعاصر:

ربط الفقه بالواقع المعاصر الذي تعيشه الأمة، ويعيشه العالم، فإنما جُعل الفقه ليحلَّ مشكلات الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، والأمة المسلمة، والدولة المسلمة، بأحكام الشريعة السمحـة، فهو يبحث عن طبٍّ أو دواء لأمراض المسلمين، من صيدلية الشريعة الغرَّاء، لا من خارجها، ويجيب عن أيِّ سؤال يطرحه الفرد أو الجماعة فيما يتَّصل بالدِّين والحياة، وهو الذي يقود المسيرة الحضارية للأمة على نور أحكام الشريعة الغرَّاء.

والفقيه الحق هو الذي يُزاوج بين الواجب والواقع، كما قال ابن القيم رحمه الله[9]، فلا يعيش فيما يجب أن يكون، مُغفلا ما هو كائن.

ليس الفقيه هو الذي يعيش في برج عاجيٍّ، أو في صومعة منعزلة عن الخلق، غريقا في كتبه ومطالعاته، غائصا في الماضي ومشكلاته، بعيدا عن العصر وتياراته، والواقع ومعضلاته، والعالم وأدوائه وآفاته، والمجتمع من حوله وتأوهاته وتطلعاته.

• التفريق بين الثوابت والمتغيرات في قضية الجهاد :

إن على الفقيه المسلم في عصرنا إذا تحدَّث عن الجهاد أو القتال أو الحرب: أن يدرك جيدا حقيقة التغيرات الكبيرة والجذرية في هذا المجال على مستوى العالم، ولا بد له لكي يصدر حكما شرعيا قويما ـ أن يفرِّق بين الثوابت والمتغيرات.

فمما لا ريب فيه: أن هناك ثوابت في هذه القضية مثل (سنة التدافع) التي قرَّرها القرآن في دفع الله الناس بعضهم ببعض.

ومثل : أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هي السلم ، وأن الحرب عارضة ، تكتب على المسلمين وهي كره لهم .

ومثل : أن الأصل في الدعوة إلى الإسلام : الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن .

ومثل: فرضية إعداد القوة المستطاعة لإرهاب أعداء الله وأعداء الأمة.

ومثل: وجوب قتال الذين يقاتلون المسلمين، وتحريم الاعتداء عليهم بقتل مَن لا يستحقُّ القتل. وكذلك وجوب القتال لإنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان .

ومثل : رعاية أخلاقيات الحرب ، إذا اضطر المسلمون إليها ، فلا تقتل امرأة ولا طفل ولا شيخ ولا يهدم بناء ولا يقطع شجر .

ومثل: استبقاء روح القوة والبذل والتضحية في الأمة باستمرار، وتربية أبناء الأمة على ذلك. مع الدعوة إلى السلام والتسامح ، والجنوح إلى السلم متى جنح العدو لها .

ومثل : احترام المعاهدات مع الأعداء ووجوب الوفاء بها .

ولكن هناك متغيرات حدثت في العالم، منها: استنكار الحروب والنفور منها، ومن مشعليها.

ومنها: الرغبة في السلام والتعايش السلمي مع المخالفين.

ومنها: ظهور مواثيق دولية أصبحت موضع احترام العالم كله في الجملة، مثل: ميثاق حقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة، وغيرهما.

ومنها: ظهور مؤسسات دَوْلية اعترف بها العالم وشارك فيها، مثل: (هيئة الأمم المتحدة)، و(مجلس الأمن الدولي)، و(محكمة العدل الدولية)، وهيئة (اليونسكو) وتوابعها.

ومن آثار ذلك: وجوب احترام سيادة الدول الإقليمية، ووجوب حلِّ النزاع بين الدول بالطرق السلمية، وتحريم استعمال أنواع معينة من الأسلحة.

ومنها: ظهور اتفاقيات (دولية)، مثل: اتفاقية إلغاء الرِّق من العالم، واتفاقية جنيف بشأن الأسرى.

ومنها: تغيُّر طبيعة الحرب ذاتها، فلم تعد مبارزة بين بطلين، ولا قتالا بين صفَّين متقابلين، بل اتَّسعت ساحة الحرب بحيث تشمل الوطن كلَّه، أو الأوطان المشاركة كلها، بل قد تصيب غيرهم. واتَّسع مفهوم السلاح وتطوَّر وتنوَّع: دبابات في البرِّ، وغواصات في البحر، وطائرات في الجو. وهذه كلُّها تتغيَّر وتتطوَّر من حين لآخر، فتخترع أسلحة جديدة تلغي القديمة، وأصبحت هناك أجيال من الأسلحة المتطوِّرة التي لم تخطر لأحد على بال.

وغدت قدرة السلاح فائقة وواسعة: صواريخ موجَّهة، وقنابل ذكية، وطائرات بلا طيار، وهناك ما يسمَّى أسلحة الدمار الشامل: النووية والكيماوية والبيولوجية، وهي لا تبقي ولا تذر.

وهذا ما جعلنا نناقش قضية الجهاد العسكري، بأمانة وصراحة وحسم، كما يجسدها عصرنا، وما تفرزه من آثار وتبعات، على المستوى المحلي، وعلى المستوى الإقليمي، وعلى المستوى العالمي، واضعين نُصْب أعيننا رُؤى الفئات المختلفة كلها للجهاد، من الغلاة والجفاة والمعتدلين.

ولقد وُفِّقنا بحمد الله وتوفيقه: أن وجدنا في مصادرنا الأصلية، في قرآننا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي أقوال أئمتنا منذ عهد أصحاب رسول الله، ومَن بعدهم من أكابر فقهاء الأمة: ما يحلُّ كل إشكال، ويجيب عن كل سؤال، ويجعلنا نعيش في عصرنا، وفي عالمنا، بكل قوة وبكل تجاوب، غير غرباء عنه، ولا دخلاء عليه، بل مشاركين فيه، متفاعلين معه، بل سبَّاقين إلى خيره، غير متكلفين ولا متعنتين.

نستطيع - في ظلِّ إسلامنا وقرآننا وسنة رسولنا - أن نعيش في عالم ينادي بالسلام لا الحرب، وبالأمان لا الخوف، وبالتسامح لا التعصُّب، وبالحب لا الكراهية، وبالحوار لا الصدام، وبالتعارف لا التناكر.

نستطيع أن نعيش مع الأمم المتحدة، والقوانين الدولية، ومواثيق حقوق الإنسان، والرفق بالحيوان، وجماعات حماية البيئة والخضرة، ولا عجب، فقد كنا السبَّاقين إلى تأسيس القوانين الدولية، وإلى رعاية حقوق الإنسان، ولا سيما الضعفاء والمعُوقين، والرحمة بالحيوان، ورعاية البيئة بكل مكوناتها[10]، ورعاية التوازن الكوني.

الحق: أننا وجدنا مشكلتنا الأولى والكبرى مع إخواننا المتشدِّدين والمتصلِّبين، الذين أغلقوا على أنفسهم النوافذ، وأصرُّوا على وِجهة نظر واحدة، وتعصَّبوا لها وحدها، لا يريدون النظر في غيرها، ولم يحاولوا يوما أن يمتحنوا ما عندهم من فكرة توارثوها، ويتَّهمون كل مَن يريد زحزحتهم عنها في دينه وإيمانه، ناهيك بعلمه وفقهه، آفتهم: أنهم يحيون في الماضي لا في الحاضر، وفي الكتب لا في الواقع.

 ]• سادسا] تبني منهج الوسطية:

لقد تبنّينا في هذا الكتاب - كما في كل كتبنا وبحوثنا - المنهج الذي وفقنا الله إلى اختياره وترجيحه في الدعوة والتعليم والإفتاء والبحث والإصلاح والتجديد، وهو: منهج الوسطية والاعتدال، الذي يجسد قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) البقرة:143، وقوله سبحانه: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) الرحمن:9،8، وهو المنهج الذي يمثل: (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الفاتحة:6، الذي ندعو الله أن يهدينا إليه في صلواتنا كل يوم.

ومن معالم هذا المنهج في الفقه والفَهم والاجتهاد: أن نجدِّد الدين من داخله، وأن نجتهد لحياتنا وعصرنا، كما اجتهد أئمتنا السابقون لحياتهم وعصرهم، وأن نستمدَّ من حيث استمدُّوا، وأن نفهم النصوص الجزئية في إطار المقاصد الكلية، وأن نردَّ المتشابهات إلى المُحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والجزئيات إلى الكليات، وأن نشدِّد في الأصول ونيسِّر في الفروع، وأن نلائم بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، وأن نصل النقل الصحيح بالعقل الصريح، وألا نتعصَّب لرأي قديم، ولا نتعبَّد لفكر جديد، وأن نتمسك بثبات الأهداف، ومرونة الوسائل، وأن ننتفع بكل قديم نافع، كما نرحب بكل جديد صالح، وأن نستلهم الماضي، ونعايش الحاضر، ونستشرف المستقبل، وأن نلتمس الحكمة من أيِّ وعاء خرجت، وأن نعرض ما عند غيرنا من منجزات على ما عندنا من أصول وقِيَم، فنأخذ ما يوافقنا، ونَدَع ما لا ينفعنا... إلخ.

على هذا النهج سرنا في بحثنا وفي اجتهادنا وترجيحنا، وكان من توفيق الله لنا: أن اتضحت لنا المحجَّة، وبدت لنا بيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك


: الأوسمة



التالي
ثنائية الحطمة 1
السابق
كتاب : الحق المر فضيلة : الشيخ محمد الغزالي الحلقة [ 3 ] : بيوتنا ـ وعقولنا ـ فى خطر!

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع