البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد الحلقة [ 35 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين)

الرابط المختصر :

 

الفصل التاسع : الكفر وحده عِلَّة كافية للقتال!

• هل الكفر وحده علة كافية للقتال؟

تبنَّى دعاة الحرب على العالم كلِّه القول بأن عِلَّة قتالنا الكفار: هو مجرد الكفر، ولا شيء غير ذلك.

وقد أثار الفقهاء من قديم بحثا حول عِلَّة قتالنا لغير المسلمين: أهي كفرهم بالله تعالى وبرسالة خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم؟ أم هي أمر آخر، مثل قتالهم لنا، وعدوانهم علينا، وفتنة المؤمنين بالإسلام في دينهم، ونحو ذلك؟

• علماء الحنفية يوضِّحون سبب فرضية الجهاد وهو حِرَاب الكفار لنا:

تعرَّض لذلك علماء الأحناف، فقالوا: سبب فرضية الجهاد: كون الكفار حربا علينا. أي أنهم هم الذين بادؤونا بالحرب والاعتداء، فجهادنا دفاع عن أنفسنا.

قال في (الهداية) عن الجهاد: (وهو فرض على الكفاية؛ لأنه ما فُرض لعينه؛ إذ هو إفساد في نفسه، وإنما فُرض لإعزاز دين الله، ودفع الشرِّ عن العباد. قال في (شرح العناية على الهداية) في بيان كونه إفسادا: لما فيه من تخريب البلاد، وإفناء العباد) [1]. يشير إلى آثار الحرب في الحياة البشرية من القتل والتدمير.

وناقش علماء الحنفية دلالة النصوص التي جاءت آمرة بالقتال، مثل قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء:74]، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244]، {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193، الأنفال:39]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216[

قال الأحناف: كيف تثبت فرضية الجهاد، بهذه العمومات، مع أنه ثبت أنها مخصوصة، فقد قُصرت على بعض ما يتناوله اللفظ، بدليل أنه لا يدخل فيها النساء ولا العُمْيُ ولا المُقعَدون، ولا الرهبان في الصوامع، وغيرهم ممَّن لا يجوز قتلهم. والعام إذا خُصص يصير ظنيَّ الدلالة عند الأحناف، فلا يثبت به الفرض، لأنه لا يثبت عندهم إلا بدليل قطعي؟

وأجاب علماء الحنفية على هذا الاعتراض بأن النصَّ العام قد ورد مقرونا بما يقيِّده، فقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} {الْـ} هنا للعهد لا للجنس، والمراد: القتال المعهود المذكور في السورة، والمأمور بقتالهم هم - كما قال ابن الهُمَام - مَن بحيث يحارب (المسلمين)، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، فأفاد: أن قتالنا المأمور به جزاء لقتالهم ومسبب عنه.

وكذا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]. أي لا تكون منهم فتنة للمسلمين عن دينهم بالإكراه بالضرب والقتل. وكان أهل مكة يفتنون مَن أسلم بالتعذيب حتى يرجع عن الإسلام، على ما عُرف في السيرة، فأمر الله سبحانه بالقتال لكسر شوكتهم، فلا يقدرون على تفتين المسلم عن دينه، فكان الأمر ابتداء بقتال مَن بحيث يحارب من المشركين، بالحديث الصحيح.

قال ابن الهُمَام: وقد أكَّد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات الصحيحة، لحديث النهي عن قتل النساء، حين رأى المرأة المقتولة: "ما كانت هذه تقاتل" [2[

ثم قال صاحب (الهداية): (وينبغي للمسلمين ألا يغلُّوا ولا يغدِروا ولا يمثِّلوا ، ولا يقتلوا امرأة، ولا صبيا، ولا شيخا فانيا، ولا مُقعَدا، ولا أعمى؛ لأن المبيح للقتل عندنا هو (الحِراب) ولا يتحقَّق منهم. ولهذا لا يقتل يابس الشقِّ (المصاب بالشلل النصفي)، والمقطوع اليمنى، والمقطوع يده ورجله من خلاف.

• خلاف الشافعي تردُّه الأدلَّة:

والشافعي رحمة الله عليه: يخالفنا في الشيخ الفاني والمقعَد والأعمى، لأن المبيح عنده: الكفر، والحُجَّة عليه: ما بيَّنا. وقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الصبيان والذراري. وحين رأى امرأة مقتولة، قال: "هاه، ما كانت هذه تقاتل، فلم قُتلت؟") [3[

وقد خرَّج المحقِّق ابن الهُمَام في شرحه ما استدلَّ به صاحب الهداية من أحاديث، وقد سبق لنا تخريجها من قبل. ثم قال بعد حديث: "ما كانت هذه تقاتل": وإذا ثبت فقد علَّل القتل بالمقاتلة، في قوله: "ما كانت هذه تقاتل"، فثبت ما قلنا من أنه معلول بالحِراب [4]، فلزم قتل ما كان مَظِنة له، بخلاف ما ليس إياه، وبمَنْع قتل النساء والصبيان أو يابس الشقِّ ونحوه: يبطل كونه الكفر - من حيث هو كفر - عِلَّة أخرى، وإلا لقُتل هؤلاء. وهو المراد بقول المصنف: والحُجَّة عليه: ما بيناه، يعني: من عدم قتل يابس الشقِّ، لكن هذا الالتزام على أحد القولين له (أي للشافعي(

وذكر ما قرَّره الرافعي في شرح الوجيز: أن للشافعي قولين في المسألة:

أحدهما: يجيز قتل الشيوخ والعميان والضعفاء والزمنى ومقطوعي الأيدي والأرجل. وبه قال أحمد في رواية، لعموم: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ...} [التوبة:5]، ولأنهم كفار، والكفر مبيح للقتل. وفي قول: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة ومالك... وذكر أدلة هذا القول.

قال في (فتح القدير): (وأنت تعلم أن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، عام مخصوص بالذمي والنساء والصبيان، فجاز تخصيص الشيخ الفاني ومَن ذكر المصنف بالقياس، لو لم يكن فيهم خبر، فكيف وفيهم ما سمعتَ؟ (أي من الأحاديث)، بل ما قدمنا من أن النصوص مقيدة ابتداء بالمحاربين ، على ما ترجع إليه. وأما حديث الشيوخ، يعني: "اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم" [5]. فتقدم: أنه ضعيف بالانقطاع عندهم. وبالحجاج بن أَرطَاة، ولو سُلِّم فيجب تخصيصه على أصولهم) [6] انتهى.

• ينبغي للشافعية ترجيح القول الذي يوافق الجمهور ويحقِّق المصلحة للأمة:

وما قاله فقهاء الحنفية من أن عِلَّة قتالنا للكفار إنما هي (الحِراب) أي محاربتهم وقتالهم لنا، وليست مجرد كفرهم، كما هو المشهور عن الشافعي رضي الله عنه، وإن كان في مذهبه قول يوافق الجمهور: وهو المعتمد، والنصوص كلها من القرآن الكريم، ومن الحديث الصحيح، ومن وقائع السيرة النبوية، تؤيِّد هذا الرأي.

وقد فصَّلنا فيما سبق نقله عن الإمام ابن قدمة في (المغني): أنه رجَّح القول الموافق للجمهور. فلم يبقَ إلا هذا القول في مذهب الشافعي. والأولى بعلماء الشافعية في عصرنا: أن يرجِّحوا من مذهبه ما يوافق جمهور الأمة، وخصوصا في القضايا الكبرى التي لها تأثيراتها العالمية في الفكر والسلوك والعَلاقات الدولية، ولا سيما أن الأدلة من القرآن والسنة تسند هذا الرأي وتؤيِّده. وقد سنَّ الإمام الشافعي سنة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال، لهذا كان له مذهبان: قديم وجديد، فقد غيَّر بعض آرائه بعد استقراره في مصر، لأنه رأى ما لم يكن قد رأى، وسمع ما لم يكن قد سمع رضي الله عنه.

• رسالة ابن تيمية: قاعدة في قتال الكفار:

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في (قتال الكفار)، أيَّد فيها هذا الرأي بما عهد عنه من براعة وتميُّز وموسوعية، في قوة التأصيل، ووفرة التدليل، وقد أنكرها بعض علماء السعودية، وأبَوا أن يُدخلوها في مجموع فتاواه التي بلغت خمسة وثلاثين مجلدا، بغير حُجَّة، إلا أنها لا توافق اتجاههم الذي تبنَّوه، وهو وجوب قتال العالم كله: مَن سالمنا ومَن حاربنا سواء.

وقد أقرَّها العلاَّمة الشيخ محمد أبو زهرة، ونقل منها في كتابه عن (ابن تيمية(

وأقرَّها كذلك العلاَّمة الفقيه الحنبلي الشيخ عبد الله بن زيد المحمود - قاضي قضاة قطر - في كتابه (الجهاد المشروع في الإسلام) وأكثر النقل منها.

وأقرَّها كذلك العالم والباحث السعودي الشيخ الدكتور عبد الله القادري الأهدل في كتابه عن (الجهاد في الإسلام) ونقل منها.

ولقد كانت رسالة ابن تيمية شبه مفقودة، وطالما بحثتُ عنها في المكتبات، فلم أجدها، وسألت عنها الكثيرين فلم أعثر عليها عند أحد، حتى هيَّأ الله لها مَن قام على تحقيقها [7] وطباعتها ونشرها للناس لينتفعوا بها، وبما فيها من تعليقات مفيدة، وإن كنت أخالف المحقِّق في نفيه ما تفيده الرسالة بوضوح، وما انفردت به، وهو: أنها لا تقرِّر وجوب جهاد الطلب، وأن الكفار إذا سالمونا سالمناهم، وإذا حاربونا حاربناهم، وإذا حاربناهم فلا بد أن تنتهي الحرب - إذا انتصرنا عليهم - بإسلامهم أو بإعطاء الجزية.

وفي هذه الرسالة بيَّن شيخ الإسلام اختلاف الأئمة حول هذه القضية الكبيرة: هل يقاتَل الكفار لحرابهم واعتدائهم على المسلمين، أو لمجرَّد كفرهم، وإن لم يقع منهم ضرر ولا أذى للمسلمين، إلى رأيين:

الأول: هو رأي الجمهور: مالك وأبي حنيفة وأحمد، والثاني: هو رأي الشافعي.

وقد رجَّح ابن تيمية رأي الجمهور، وضعَّف رأي الشافعي، وبسط القول في ذلك على عادته، بما حباه الله من غزارة العلم، وقوة الحجَّة، والقدرة على التأصيل.

• أهم أدلة ابن تيمية على قاعدته:

ونستطيع أن نلخِّص أهم أدلَّته هنا تلخيصا غير مخلٍّ، إن شاء الله.

• آيات سورة البقرة:

1. قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، فهذا تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدلَّ على أن هذا علَّة الأمر بالقتال.

ثم قال: {وَلا تَعْتَدُوا} والعدوان: مجاوزة الحدِّ، فدل على أن قتال مَن لم يقاتلنا عدوان.

ثم قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]، والفتنة: أن يفتن المسلم عن دينه، كما كان المشركون يفتنون مَن أسلم عن دينه. ولهذا قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191]، وهذا إنما يكون إذا اعتدوا على المسلمين، وكان لهم سلطان، وحينئذ يجب قتالهم، حتى لا تكون فتنة، حتى لا يفتنوا مسلما، وهذا يحصل بعجزهم عن القتال، ولم يقُل: (وقاتلوهم حتى يسلموا(

وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، وهذا يحصل إذا ظهرت كلمة الإسلام، وكان حكم الله ورسوله عاليا، فإنه قد صار الدين لله. (أي لا يشترط أن يزول الكفر من الأرض(

• حديث: "ما كانت هذه لتقاتل":

2. ما ثبت في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم، مرَّ في بعض مغازيه على امرأة مقتولة، فقال: "ما كانت هذه لتقاتل" [8]. فعلم أن العلَّة في تحريم قتلها: أنها لم تكن تقاتل، لا كونها مالا للمسلمين (أي كما يقول الشافعي(

قال ابن تيمية: فهذا الأصل الذي ذكرناه - وهو أن القتال لأجل الحرب لا لأجل الكفر - هو الذي يدلُّ عليه الكتاب والسنة، وهو مقتضى الاعتبار. وذلك أنه لو كان الكفر الموجب للقتل - بل هو المبيح له - لم يحرم قتل النساء. (ومثل النساء: الشيخ الهرم والأعمى والزَّمِن وكل مَن لا يقدر على القتال، لا ببدن، ولا برأي(

وذكر ابن تيمية هنا: أن الرجل إنما قتل، لدفع ضرر عن الدين وأهله، فمَن أُمن ضرره بالدين وأهله لم يُقتَل، ومعلوم أن كثيرا من الرجال يُؤمَن ضرره أكثر من كثير من النساء.

ولهذا تقتل المرأة إذا قاتلت، وإذا كانت مدبِّرة بالرأي مثل هند (زوج أبي سفيان). وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح دم عدَّة نسوة فيهنَّ هند.

• آية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{

3. وأيضا قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]. وهذا نصٌّ عام: أنا لا نُكره أحدا على الدين، فلو كان الكافر يقتل حتى يُسلِم، لكان هذا أعظم الإكراه على الدين.

وردَّ ابن تيمية على مَن قال: إن المراد بالآية: أهل العهد بقوله: الآية عامَّة، وأهل العهد قد علم أنه يجب الوفاء لهم بعهدهم، ولا يُكرهون على شيء.

قال: وذهب قوم إلى أنها منسوخة، وقالوا: هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال، فعلى قولهم تكون منسوخة بآية السيف.

وردَّ ابن تيمية عليهم بأن جمهور السلف والخلف على أنها ليس مخصوصة ولا منسوخة، بل يقولون: إنا لا نُكرِه أحدا على الإسلام، وإنما نقاتل مَن حاربنا، وردَّ ابن تيمية على مَن زعم أنها نزلت قبل الأمر بالقتال بأن هذا غلط، فإن سورة البقرة مدنيَّة كلَّها، وفيها غير آية تأمر بالجهاد، وفيها: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216]، فكيف يقال: إنها قبل الأمر بالقتال؟

ثم سبب نزول الآية يدلُّ على أن هذا كان بعد الأمر بالجهاد بمدَّة، قال ابن عباس وغيره: إن المرأة من الأنصار كانت تكون مقلاة - لا يعيش لها ولد - فتحلف: لئن عاش لها ولد لتهوِّدنه ... فلما أُجليت بنو النضير، كان فيهم أناس من أبناء الأنصار، فقال الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا! فنزلت هذه الآية [9[

• مشروعية المن والفداء للأسير:

4. قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ - (أضعفتموهم) - فَشُدُّوا الْوَثَاقَ - (ابدؤوا الأسر) - فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4]. والمن: إطلاق الأسير بغير مقابل. والفداء: أن يفدى بمال أو بأسير أو أكثر.

فلو كان مجرَّد الكفر يوجب القتل لم يجُز أن يمنَّ على الأسرى أو يهادنهم. بل وجب قتل كلِّ كافر، وقد منَّ على أبي عزَّة الجُمَحي، وعلى ثُمامة بن أثال [10]، وغيرهما.

بل إنه لما فتح مكة منَّ عليهم، ولم يكرههم على الإسلام، بل أطلقهم بعد القدرة عليهم. لهذا سُمُّوا الطلقاء. وهم مسلمة الفتح (وهم نحو ألفي رجل). والطليق: خلاف الأسير.

فإن قيل: المنُّ والفداء منسوخ!

قيل: هذا منسوخ، فأين الناسخ؟!

• عدم قتال مَن هادنه:

5. كما استدلَّ شيخ الإسلام بسيرته صلى الله عليه وسلم، فقال: وكانت سيرته: أن كلَّ مَن هادنه من الكفار لا يقاتله. وهذه كتب السيرة والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا. وهذا متواتر من سيرته.

فهو لم يبدأ أحدا من الكفار بقتال، ولو كان الله أمره أن يقتل كلَّ كافر لكان يبتدئهم بالقتل والقتال.

• تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة:

6. قال شيخ الإسلام: وأيضا لو كان مجرَّد الكفر مبيحا، لما أنزل النبي صلى الله عليه وسلم قريظة على حكم سعد بن معاذ فيهم، ولو حكم فيهم بغير القتل لنَفَذَ حكمه.

بل كان يأمر بقتلهم ابتداء ... وكان لهم من حلفائهم في الجاهلية من المسلمين: مَن يختار المنَّ عليهم. فلما حكم فيهم سعد بالقتل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمتَ فيهم بحكم الله" [11[

وهذا يدلُّ على أن بعض الكفار يتعيَّن قتله دون بعض. وهذا حجَّة لكون مجرَّد الكفر ليس هو الموجب للقتل. وإنما الموجب كفر معه إضرار بالدين وأهله، فيقتل لدفع ضرره.

• إقرار الكفار على كفرهم ببذل الجزية:

7. وأيضا فلو كان الكفر موجبا للقتل: لم يجُز إقرار كافر بالجزية والصغار، فإن هذا لم يبدِّل [12] الكفر. ولهذا لما كانت الردَّة موجبة للقتل، لم يجُز إقرار مرتد بجزية وصغار.

وبيَّن شيخ الإسلام: أن المراد بأخذ الجزية منه دفع شره وعدوانه، وصدِّه لغيره عن الدين، فإنه بالصغار مع العهد كفّ يده ولسانه.

أقول: والمراد بالصغار هنا: الخضوع والإذعان للسيادة الإسلامية، ولذا فسَّره غير واحد من العلماء بأنه: جريان الأحكام عليهم.

والصحيح: أن الجزية تؤخذ من كلِّ كافر: كتابيا كان أو وثنيا، عربيا كان أو عجميا. فقد أثبت القرآن أخذها من أهل الكتاب، وأثبتت السنة أخذها من المجوس، وذكر ابن تيمية أنه: إذا ثبت أخذها من مجوس الفرس والبحرين وغيرهما، فأولى أن تؤخذ من مشركي العرب، لأن شركهم أخف من شرك المجوس الذي يعبدون النار، ويقولون بإلهين اثنين للخير والشر، وللنور والظلمة، وكانوا على بقايا من ملَّة إبراهيم، ويقرُّون بوحدانية الخالق، أي وحدانية الربوبية أو الخالقية ... إلى آخر ما هو معلوم.

• التضييق في قتل النفس البشرية:

8. أكَّد ابن تيمية قوله بأن الأصل في قتل الآدمي الحرمة، ولو كان غير مسلم. وإنما أباح الله من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، ولذا قرَّر: أن قتل الكافر الذي لا يضرُّ المسلمين، من غير سبب يوجب قتله: فساد لا يحبُّه الله ورسوله. وإذا لم يقتل يُرجى له الإسلام، كالعصاة من المسلمين.

قال: والله أباح القتل؛ لأن الفتنة أشد من القتل، فأباح من القتل ما يُحتاج إليه، فإن الأصل أن الله حرَّم قتل النفس إلا بحقِّها. وقتل الآدمي من أكبر الكبائر بعد الكفر. فلا يباح قتله إلا لمصلحة راجحة، وهو: أن يُدفع بقتله شرٌّ أعظم من قتله، فإذا لم يكن وجود هذا الشرِّ، لم يجُز قتله. قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32[

فلم يبِح القتل إلا قودا (أي قصاصا)، أو لفساد البغاة، وسعيهم في الأرض بالفساد، مثل فتنة المسلم عن دينه، وقطع الطريق. أما ذنبه الذي يختصُّ به، ولا يتعدَّى ضرره إلى غيره، فهذا لا يسمى فسادا [13] انتهى.

وهذا الذي أكَّده ابن تيمية، قرر مثله من قبل: الإمام تقي الدين ابن الصلاح في فتاويه، حيث قال: (إن الأصل هو إبقاء الكفار وتقريرهم؛ لأن الله تعالى ما أراد إفناء الخلق، ولا خلقهم ليُقتلوا، وإنما أُبيح قتلهم لعارض ضرر وُجد منهم، إلا أن ذلك ليس جزاء لهم على كفرهم، فإن دار الدنيا ليست دار جزاء، بل الجزاء في الآخرة) [14[

هذا أهمُّ ما ذكره ابن تيمية في قاعدته في قتال الكفار، وقد أثبت فيها بما يزيل كلَّ ريب، ويقطع كلَّ نزاع عند مَن تأمَّل وأنصف: أن الكفر وحده ليس موجبا ولا مبيحا لقتل المخالفين، وإنما الموجب هو ما يقوم به هؤلاء المخالفون من محاربة وفتنة وعدوان على المسلمين: في دينهم أو أهليهم أو أموالهم أو حرماتهم. وما شرع الإسلام القتال إلا لدفع هذا الشرِّ والعدوان.

أما المخالف الذي لا يتعرَّض للمسلمين بسوء ولا أذى فإنما مضرَّة كفره على نفسه.

وقد أكَّد ابن تيمية في هذه القاعدة وفي غيرها من كتبه مثل: منهاج السنة، والجواب الصحيح، والصارم المسلول، والسياسة الشرعية، والفتاوى وغيرها: أن المنهج الذي التزمه النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يسالم مَن سالمه ويحارب مَن حاربه، وأنه لم يبدأ أحدا بقتال قط، إلا أن يبدأه هو، وقال شيخ الإسلام: هذه كتب السيرة والحديث والتفسير والفقه والمغازي متَّفقة على ذلك [15[

وما قرَّره شيخ الإسلام أكَّده تلميذه الإمام ابن القيم في "هداية الحيارى، وفي أحكام أهل الذمَّة"، وفي غيرهما.

وهذا كلُّه يؤكِّد ما ذهبنا إليه من تحريم قتال المخالفين المسالمين للمسلمين، الذين لم يبدُ منهم أيَّ إساءة للإسلام ولا لأمَّته، لم يقاتلوهم في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم. بل ألقَوا إليهم السلم، وكفُّوا أيديهم وألسنتهم عن المسلمين. فهؤلاء ليس لهم منا إلا البر والقسط.

أما مَن أساء إلى المسلمين، واعتدى عليهم، فمن حقِّ المسلمين، بل من واجبهم أن يقاتلوه، ذودا عن دينهم وحرماتهم، حتى يدخل في الإسلام، أو يعطي الجزية عن يد، وهو صاغر، أي: مذعن لدولة الإسلام، وشريعة الإسلام، لا لعقيدة الإسلام، فهذه لا إكراه فيها.

 


: الأوسمة



التالي
الوسطية
السابق
ثورة السيسي الدينية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع