البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد الحلقة [ 36 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين

الرابط المختصر :

كتاب : فقه الجهاد .. - تأليف : الدكتور يوسف القرضاوي

الحلقة [ 36 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين(

الفصل العاشر : دعوى إجماع الفقهاء على أن جهاد الطلب فرض كفاية وعلى وجوب الغزو مرة كل سنة

• دعوي الإجماع:

ومما استدلَّ به دعاة الحرب في دعواهم في وجوب قتال المسالمين، قولهم: إن الفقهاء من جميع المذاهب، قد أجمعوا على أن الجهاد – أي جهاد الطلب - فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط الإثم عن سائر الأمة، وإذا لم يقُم به أحد أثِمت الأمة جميعها.

كما أنهم أجمعوا: أن فرض الكفاية يسقط عن الأمة بغزو بلاد الكفار مرة واحدة في السنة على الأقل، وبهذا يتحقَّق الفرض اللازم، وتبرأ الأمة كلها من الإثم.

ومعنى هذا: أن الذي ينادي به دعاة السلام، والذين لا يرون وجوب قتال المسالمين للمسلمين: هو قول مخالف لإجماع الأمة.

وعندي وقفة أمام كل من هاتين الدعويين الكبيرتين:

• لا إجماع في المسألة عند التحقيق:

أما الدعوى الأولى: فهي غير مسلَّمة، فلا يوجد إجماع في هذه القضية، فقد وجد من الأئمة مَن قال: إن الجهاد كان فرضا على الصحابة وحدهم. كما حكى ذلك الحافظ في (الفتح)، وكما روى مسلم، عن ابن المبارك في توجيه حديث: "مَن مات ولم يغزُ، ولم يحدِّث نفسه بالغزو فقد مات على شعبة من النفاق" [1]، أن ذلك كان في شأن الصحابة. وقال النووي: إن هذا محتمل.

كما وجد من الصحابة والتابعين والأئمة مَن قالوا: إن جهاد الطلب تطوُّع لا فرض، كما نقل ذلك الإمام أبو بكر الرازي (الجصاص)، وابن أبي شيبة، وغيرهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وعن عطاء وعمرو بن دينار من التابعين، وعن ابن شُبرُمة وسفيان الثوري من الأئمة.

نعم إن القول بأن الجهاد فرض كفاية: هو قول الجمهور من فقهاء الأمصار، ولكن قول الجمهور ليس حُجَّة ملزِمة، إنما الحُجَّة في النص القاطع، وفي الإجماع المتيقَّن، ولم يوجدا.

• دعوى أنه قول مخالف للإجماع محدث في الدين:

وإذا احتجَّ بعض دعاة (الجهاد الهجومي) على مخالفيهم، كذلك بأن القول بأن الإسلام دين السلام، وأن قتال غير المسلمين المسالمين للمسلمين ليس مشروعا، وأن القتال شرع لدفع الشرِّ والاعتداء على الإسلام وأهله، وأن جهاد الطلب ليس فرضا في كلِّ حال: قول مُحْدَث في الدين، اخترعه علماء العصر، ممن تأثَّروا بثقافات غير إسلامية، ولم يقُل به أحد من الأئمة من الفقهاء والمفسرين، داخل المذاهب المتبوعة أو خارجها. فهو مخالف للإجماع، وداخل في دائرة الابتداع! فنحن نقول بكلِّ هدوء وتبصُّر:

إن الردَّ على هذا الاحتجاج سهل يسير، فما أكثر دعاوى الإجماع التي ثبت فيها الخلاف بيقين. وقد ضربنا لذلك أمثلة في كتابنا (فقه الزكاة) فليراجعها من أحبَّ الاستيثاق وزيادة العلم [2[

ولهذا قال الإمام أحمد: مَن ادَّعى الإجماع فقد كذب (يعني: أخطأ) ما يدريه: لعل الناس اختلفوا، وهو لا يعلم، فإن كان لا بد فيقُل: لا أعلم الناس اختلفوا.

وقد ذكرنا في حديثنا عن حكم الجهاد: أن من السلف مَن قال: إن جهاد الطلب نافلة ليس بفرض. منهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمر، ومن التابعين: عطاء وعمرو بن دينار، ومن كبار الفقهاء: ابن شُبرمة والثوري. كما نقلنا ذلك عن العلامة المالكي ابن رشد الجد: ما هو قريب من هذا القول.

• الأئمة: ابن تيمية والحسن الجلال والصنعاني يخالفون هذا الإجماع المدَّعى:

ومن أبرز الذين صنَّفوا في ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته التي تحدَّثنا عنها من قبل، والتي نقل عنها أكثر من واحد، مثل الشيخ محمد أبي زهرة في كتابه عن ابن تيمية [3]، والشيخ عبد الله بن زيد المحمود في كتابه (الجهاد المشروع في الإسلام) [4]، وكانت هذه الرسالة في مكتبة العالم القَطَري الحنبلي الكبير الشيخ محمد بن مانع رحمه الله، وقد علَّق عليها بعض التعليقات. وهي ضمن مكتبته التي أهداها إلى مكتبة الملك فهد بالرياض.

وممَّن اطلع عليها، وأخذ بها: العلامة الأمير الصنعاني، وكتب رسالة في ذلك، يوافق فيها ابن تيمية. سننشرها كاملة في ملاحق هذا الكتاب إن شاء الله [5[

وممن أشار إليها كذلك: الإمام الشوكاني في كتابه الشهير (نيل الأوطار)[6[

وإذا كان بعض الذين كتبوا في الجهاد: زعموا أن أحدا من علماء الأمة طوال الأزمنة السالفة، لم يقُل بأن جهاد الطلب ليس فرضا في كلِّ حال، وأن الجهاد الواجب في الإسلام إنما هو لدفع شرِّ الكفار عن المسلمين، وأن هذا القول ليس إلا من اختراع علماء العصر، المتأثِّرين بالثقافة الغربية وغيرها، فأقول: إن مَن قال هذا إنما قاله بحسب علمه واطلاعه، ومَن غاص في مصادر العلم، تبيَّن له أن هناك مَن قال بذلك. ومَن حفظ حُجَّة على مَن لم يحفظ.

فمن المعلوم ما ذكرناه أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد صنَّف رسالة معروفة في هذه المسألة، نقل عنها الناقلون الثقات، وعلَّق عليها كبار العلماء في القديم والحديث.

وممَّن تبنَّى هذا القول ونصره: الإمام المجتهد، علاّمة الزيديين، وفخر اليمنيين: الحسن بن أحمد الجلال (ت 1084هـ) في حاشية (ضوء النهار المشرق على صفحات الأزهار) الذي قرَّر بوضوح: أن قتال الكافر إنما هو لدفع شرِّه وضرره عن الإسلام وأهله.

وقد قال العلامة الأمير الصنعاني (ت 1182هـ) في حاشيته على (ضوء النهار)، معلّقا على قول الإمام الحسن الجلال: إن آية السيف مختصَّة بالمحاربين (أي الذين يقاتلون المسلمين)، يردُّ بذلك على مَن قال: إن آية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]. نسخت آية السيف: أن لا حاجة إلى القول بالنسخ؛ لأن العلاقة بين الآيتين إنما هي علاقة العام بالخاص، وليست علاقة المنسوخ بالناسخ، فآية نفي الإكراه: عامَّة، وآية السيف: خاصَّة بأهل الحرب على الإسلام وأهله. والنسخ لا يُصار إليه إلا عند تعذُّر الجمع.

واستدلَّ العلاَّمة الجلال على أن آية السيف مختصَّة بالمحاربين، بقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90[

قال الجلال: وبذلك يُعْلَم أن قتال الكافر المحارب ليس إكراها على الدين، بل لدفع شرِّه عن الإسلام وأهله، فإذا استسلم - كالمنافق والذمي - لم يَجُز قتاله.

قال: وعلى المحاربين يُحمل حديث: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ... " الحديث [7]. ويصحِّح هذا الحمل تركه لقتال الذمِّي والمنافق [8] اهـ.

هذا ما قاله العلامة الحسن الجلال، وهو في غاية الوضوح.

قال الأمير: أقول: اختلف أئمة التفسير من السلف في الآية (أي: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]) على قولين:

الأول: لبحر الأمة ابن عباس: أنها منسوخة بآية السيف. فأخرج ابن أبي داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:90]، قال: نسختها براءة: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] [9]. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس عن قتادة في قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ } [النساء:90] قال: نسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ...} [التوبة:5] الآية [10]. وأخرج ابن جرير، عن الحسن وعكرمة في هذه الآية قال: نسختها براءة.

 

قلت (القرضاوي): أولا: النسخ لا يثبت بمجرَّد الدعوى.

ثانيا: {الْـ} في {الْمُشْرِكِينَ} للعهد وليست للجنس، أي المشركين المذكورين في الآيات السابقة من سورة التوبة، وهؤلاء يجزون على سوء ما صنعوا.

ثالثا: أن النسخ في لسان السلف كثيرا ما يراد به ما عُرف باسم (التخصيص) ونحوه. انتهى.

الثاني: أن المراد بالسَّلَم في قوله تعالى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء:90]: الصلح، وهم المعاهدون. ولا كلام أنهم لا يقاتلون. فأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الربيع: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} قال: الصلح.

وقد تقرَّر في علوم التفسير: أنه ليس الرجوع في تفسير كلام الله تعالى إلا إلى أقوال السلف، سيما بحر الأمة المدعو له بأن الله يعلِّمه التأويل [11]: ابن عباس.

وعلَّق الصنعاني على قول الجلال: وبذلك يُعْلَم أن قتال الكافر المحارب ليس لطلب الإيمان [12]، بقوله: أقول: معلوم من ضرورة الدين أنها لم تبعث الرسل من أولهم إلى آخرهم إلا لطلب الإيمان بالله وكتبه ورسله. انتهى.

وما ذكره العلاَّمة الأمير (الصنعاني) من وجوب الرجوع في التفسير إلى السلف لا إلى غيرهم: هذا فيما لا يعلم إلا بالنقل كأسباب النزول ونحوها، فتؤخذ عنهم، أما ما للرأي مجال فيه، فهم كغيرهم ما لم يكن إجماع يقيني، ولهذا اختلفت تفسيراتهم.

• علة إيجاب قتال الكفار:

قال الصنعاني: وأما إيجاب القتال للكفار، فاعلم أن في سببه قولين:

• العلة مقاتلتهم للمسلمين:

الأول: أن سببه مقاتلتهم للمسلمين، وصدِّهم لهم عن الدين، ودفع شرِّهم وضرِّهم عن الموحّدين، وإلى هذا ذهب مالك وأحمد وأبو حنيفة.

• العلة مجرد كفرهم:

والثاني: أن سببه مجرَّد كفرهم، سواءٌ خِيف ضررهم أم لا. وإلى هذا ذهب الشافعي.

ثم ليس المراد المقاتلة بالفعل، بل متى كان الكافر من أهل القتال الذين يخيفون أهل الإيمان، ومن شأنه أن يقاتِل، فإنه يحلُّ قتله.

قالوا: ومن ثمة نُهي عن قتل الشيخ الفاني والمرأة والصبي، لأنهم ليسوا ممَّن يخيف أهل الإيمان.

والحاصل: أن الأولين يقولون: الموجب لقتال الكفار ليس مجرَّد الكفر، بل كفر مع إضرار بالدين وأهله، فيقاتل وجوبا، لدفع ضرره عن الدين وأهله [13[

• غزو الكفار كل سنة لا دليل عليه:

وأما الدعوى الثانية: وهي غزو الكفار كل سنة، فقد بيَّنا أنه لم يأتِ بها نصٌّ من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو استنباط من الفقهاء، دفعهم إليه الواقع الذي كانوا يعيشونه مع مَن حولهم من غير المسلمين، وخصوصا الروم، فكانوا مهدَّدين منهم، فكان لا بد من الدفاع عن حدودهم، وخير وسائل الدفاع الهجوم، في نظر الكثيرين.

• آراء مهمة في تفسير فرض الكفاية السنوي:

ولقد نقلنا في تفسير هذا الغزو المفروض عن فقهاء الحنفية والشافعية: ما يغني عن الغزو المباشر للأعداء، ويكفي أن نشحن الثغور والأماكن المخُوفة في البرِّ والبحر بالقوَّات المسلَّحة المجهَّزة بأفضل الأسلحة – ما أمكن ذلك - والمدرَّبة تدريبا عاليا، والقادرة على الحركة السريعة عند اللزوم، والمستعدَّة لمنازلة العدو إذا فكر في المساس بأرض الإسلام وحرمات المسلمين، وتلقينه درسا لا ينساه، وإن في هذا الإعداد إخمادًا لشوكة العدو، وإرهابا لهم، وتيئيسا لهم أن يطمعوا في أن ينالوا شيئا من المسلمين. وبهذا تؤدِّي الأمة فرض الكفاية عليها.

ومقتضى هذا: أنه يكفي أن يكون عندنا من العُدَّة والقوة العسكرية المادية والبشرية المدرَّبة والمجهَّزة: ما نُرهب به عدو الله وعدونا، وأن تكون جاهزة حاضرة على كل المستويات برًّا وبحرا وجوًّا، وأن يقوم عليها الأقوياء الأمناء الذي يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، وهذا ما تحرص عليه كل الدول القوية وكل الأمم العزيزة، ولا تلام دولة ولا أمة تسعى إلى أن تمتلك من أسباب القوة ومقوماتها ما يحفظ عليها سيادتها واستقلالها، ويحميها من أطماع الطامعين، وتطلُّعات المتربِّصين.


: الأوسمة



التالي
لصِّدِّيق في المجتمع المدنيِّ، وبعض مواقفه ... الحلقة الأولى
السابق
لريسوني لهنية: نرفض التطبيع وسنتصدى معا لصفقة القرن

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع