البحث

التفاصيل

من أهم صفات وأخلاق الإمام ابن باديس (الحلقة الثانية)

اتصف ابن باديس في سيرته العطرة بصفات الدعاة الربانيين، من الصدق والإخلاص والدعوة إلى الله على بصيرة، والصبر، والرحمة، والعفو، والعزيمة والتواضع، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والنظام والدقة، والزهد، والورع والاستقامة.. الخ ونحاول هنا أن نركز على بعض الصفات التي تميزت بها شخصيته الإصلاحية العظيمة:

  1. الحلم والتسامح:

وهو من أبرز صفات الأنبياء والرسل، وقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

كذلك سار علماء السلف والخلف على هذا الهدي في الحلم والتسامح، فكانوا خير من حمل إلينا هذه الأخلاق العالية والصفات السامية، عن عطاء بن يسار قال: ما أوتي شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم.

وللإمام ابن باديس رحمه الله سجل حافل، وتاريخ زاخر بهذه المعاني الإسلامية السامية، فقد توفرت في شخص الإمام صفات العالم الذي يخاطب عقول المسلمين وقلوبهم، صائغاً إليهم هذا الدين في أحسن صورة لذلك كان موضع سخط السلطات الاستعمارية وأعوانها.

يُروى أن إحدى الجماعات الصوفية المنحرفة التي ضاقت ذرعاً بمواقف ابن باديس، أوعزت ـ بتنسيق مع سلطات الاحتلال ـ إلى نفر من أتباعها باغتيال الشيخ عبد الحميد ظناً منها أن في اغتياله قضاء على دعوته، غير أن الغادر الذي هم بهذه الجريمة لم يفلح في تنفيذها ووقع في قبضة أعوان الشيخ، وكانوا قادرين على الفتك به إلا أن أخلاق الإمام العالية جعلته يعفّ ويعفو ويحلم ويسامح، وينهي أصحابه عن الفتك به متمثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

  1.  التواضع:

من صفاته ـ رحمه الله ـ تواضعه، فقد كان أليفاً مألوفاً، وقد برزت صفة التواضع في حياته العلمية فيقول أحد زملائه: إنه كان في زيارة لوهران، وعرضت قضية من القضايا فقال فيها بغير القول المشهور، ولما عاد إلى قسنطينة واستشار مَراجعه؛ تبين له أنه لم يكن على صواب، فكتب في الشهاب: إنني كنت مع فلان وفلان وتكلمنا في قضية ما، والحق ما قاله فلان وهو القول المشهور، ويقول الشيخ حمزة بو كوشة ـ راوي هذه القصة ـ سألته لماذا كتبت في الجريدة وقد كان يكفيك لو بعثت رسالة إلى الشخص الذي اختلفت معه؟ فقال رحمه الله: أردت أن يكون لكم درساً في الرجوع إلى الحق. وأضاف: تركت لكم مثلاً أنه إذا كان الإنسان عالماً يجب عليه أن يعيش للعلم.

ومثال آخر على تواضعه أن أحد معاصريه قال: لم أستطع طوال عمري أن أسبقه بالسلام.

وابن باديس في هذه الوقفات الصادقة وهذا الوضوح في المنهج؛ ينطلق من قناعته العميقة بأهمية القدوة الحسنة في حياة الدعاة وهو ما يجعل الناس يشعرون بصدق الداعي، ومن ثمة يتقبلون دعوة الله ويكونون من جنودها وأنصارها.

  1.  الزهد:

كان ابن باديس عفيفاً زاهداً في الدنيا، تجلى هذا في مواقف كثيرة منها أنه كان يعمل رئيساً لجمعية التربية والتعليم في قسنطينة، ولكنه لم يكن يتقاضى أي مبلغ من صندوق الطلبة على عمله، بل كان يكتفي بما يحصل عليه من اشتراكات الجريدة.

أما زهده فقد تمثل في انتقاله من بيت والده إلى غرفة بجوار مسجد قموش، وكان طعامه قليلاً لا يزيد على الكسرة واللبن وفنجان أو فنجانين من القهوة يومياً، حيث لم يكن يكثر من شرب الشاي أو القهوة. وكان رحمه الله إذا دعي إلى طعام اشترط الاقتصار على صنف واحد من الطعام، وكان يسأل عن الكسكسي «الطعام أو النعمة» فإن وجد لم يأكل غيره. وجميل ما وصفه به باحث فرنسي بأنه: كان لديه فقر مبتغى مستلهم من القرآن الكريم الذي يحذّر الذين يكنزون الأموال.

ويُروى أنه خرج من مقصورته بجامع سيدي قموش بقسنطينة ذات يوم، فطلب من أحد أصدقائه أن يبحث له عمن يشتري له نصف لتر من اللبن، وأعطاه آنية فرآها ذلك الصديق فرصة لإكرام الشيخ، فيذهب بنفسه إلى الشوّاء واشترى له صحناً من اللحم الممتاز، وعاد إلى الشيخ وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ولما قدمها إليه استشاط غضباً وقال له في لهجة شديدة صارمة: ألا تعلم أنني ابن مصطفى بن باديس. وأن أنواعاً مختلفة من الطعام اللذيذ تُعدّ كل يوم في بيته، لو أردت التمتع بالطعام ولكن ضميري لا يسمح بذلك وطلبتي يسبغون الخبز بالزيت وقد يأكله بعضهم بالماء.

ويمكن أن نستنتج من هذا الموقف:

ـ أن الشيخ ابن باديس كان عالماً ربانياً، وعازفاً عن الدنيا وملذاتها متواضعاً لله تواضع العلماء العارفين.

ـ أن المهمة التي انتصب إليها وهي تربية الجيل وتعليمه قد غلبت على نفسه وهيمنت على قلبه، فتفرغ لها تفرغاً زهّده في الملذات التي يطلبها الناس، والمتع التي يفرط في السعي وراءها الكبار والصغار.

  1.  الجدية وحسن استغلال الوقت:

تميز ابن باديس بالجدية وحسن استغلاله للوقت، فهو منظم في عمله، دقيق في توزيع وقته على المهام العديدة التي يقوم بها، فقد كان مدركاً لقيمة الوقت، وضرورة استغلاله والاستفادة من لحظاته وتظهر نظرته هذه واضحة في سياق تفسيره لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا *} [الإسراء: 78].

فيقول: في ربط الصلاة بالأوقات، تعليم لنا لنربط أمورنا بالأوقات ونجعل لكل عمل وقته وبذلك ينضبط للإنسان أمر حياته، وتطّرد أعماله، ويسهل عليه القيام بالكثير منها، أما إذا ترك أعماله مهملة غير مرتبطة بوقت فإنه لابد أن يضطرب عليه أمره ويشوش باله ولا يأتي إلا بالعمل القليل، ويحرم لذة العمل، وإذا حُرم لذة العمل أصابه الكسل والضجر، فقلّ سعيه وما كان يأتي به من عمل على قلته وتشوّشه بعيد عن أي إتقان.

وليس عجيباً أن يهتم مصلح مثل ابن باديس بالوقت هذا الاهتمام الكبير؛ وهو الذي يقول عند تعليقه على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ.

عمر الإنسان أنفس كنز يملكه، ولحظاته محسوبة عليه، وكل لحظة تمر معمورة بعمل مفيد، فقد أخذ حظه منها وربحها، وكل لحظة تمر فارغة فقد غبن حظه منها وخسرها، فالرشيد هو من أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، فعمّر وقته بالأعمال، والسفيه من أساء التصرف فيه فأخلى وقته من العمل.

بهذه النظرة الصائبة للوقت، نجح ابن باديس في استغلاله أحسن استغلال، فكان يلقي من الدروس في اليوم الواحد ما يعجز عنه غيره، يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر ويظل طيلة نهاره يُعلّم طلبته الدين وعلوم العربية ولا يقطع دروسه إلا لصلاة الظهر ولتناول الغداء، ثم يستمر إلى ما بعد صلاة العشاء. وكان رحمه الله مع أخذه بكل ما يستطيع من الأسباب في تأدية رسالته، يلتجئ إلى الله بثقة لا توهب إلا لأولي العزم من الرجال، ففي إحدى ساعات الشدة والعُسرة قال لأحد طلبته: يا بُنيّ إن جميع الأبواب يمكن أن تُغلق أمامنا ولكن باباً واحداً لن يُغلق أبداً وهو باب السماء.

فمن أهم صفات ابن باديس رحمه الله أنه يهتم بوقته، وقد علّمنا الإسلام المحافظة على الوقت حين جعلَ يوم المسلم منظماً، فالصلاة لها أوقات محدودة يجب أن تؤدى في وقتها عملاً بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا *} [النساء: 103].

لقد تميز ابن باديس في حياته كلها باحترام الوقت والنظام، فكان رحمه الله رجل علم ونظام يحافظ على أوقاته، فكان برنامجه اليومي مما يصعب على الكثير أن يقوم به، وسيأتي تفصيله بإذن الله تعالى وبالإضافة إلى اشتغاله بالتعليم فقد ساهم مساهمة كبيرة في إنشاء المدارس والمؤسسات الخيرية وجمعيات التجار وجمعيات الكشافة والجمعيات الرياضية والفنية وكثير غيرها.

المراجع:

  1. صحيح الإمام مسلم.
  2. علي محمد الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج (2)، دار ابن كثير، دمشق –بيروت، ط(1)، 2016م، ص. ص (161-166).
  3. مازن صلاح مطبقاني، عبد الحميد بن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي، ص.ص (38-40).
  4. محمد الدراجي، عبد الحميد بن باديس بعيون العلماء والأدباء، ص.ص (128-129)، (156-159).
  5.         فتح الباري (11 / 229).

 

 


: الأوسمة



التالي
المعجزة الكبرى (القرآن الكريم)
السابق
بيان حول رفع اسم سماحة الشيخ القرضاوي من قوائم الإنتربول

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع