البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد . الحلقة [ 41 ] : الباب الرابع : أهداف الجهاد (القتالي) في الإسلام الفصل الثاني : أهداف القتال في الإسلام ( 2 من 2 )

 

• ( 3 ) إنقاذ المستضعفين:

ومن أهداف القتال في الإسلام: إنقاذ المستضعفين من خلق الله، من ظلم الجبَّارين، وتسلُّط المستكبرين في الأرض بغير الحقِّ، الذين يستخفُّون بحرمات الضعفاء، ويسومونهم سوء العذاب، ويُهدِرون إنسانيتهم، لأن في أيديهم القوة المادية التي تمنع الأيدي أن تُدافع، وتُخرس الألسنة أن تتكلم، وتُكره الناس على أن يسكتوا عن الحقِّ أو ينطقوا بالباطل.

فعلى المسلمين واجب النَّجدة لتحرير هؤلاء المستعبدين، وإغاثة هؤلاء الملهوفين، وإنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ولا يملكون إلا الدعاء إلى الله تعالى أن يُنجِّيهم من عدوهم، ويُهيِّئ لهم مَن ينصرهم ويأخذ بأيديهم.

يقول تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75،74[.

فانظر إلى هذا الأسلوب التحريضي البليغ الذي يستثير الهِمم، ويحرِّك العزائم، {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}؟ فجعل القتال في سبيل المستضعفين قرين القتال في سبيل الله، إذ عطفه عليه بالواو بلا فاصل. بل هو عند التأمُّل جزء من القتال في سبيل الله، لأن القتال إنما يكون في سبيل الله إذا كانت الغاية: أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله هي كلمة الحقِّ الذي يواجه الباطل، والعدل الذي يقاوم الظلم. وإنقاذ المستضعفين إنما هو لإقامة عدل الله في الأرض. ولهذا قالت الآية التالية لهذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]، فقرَّرت الآية أن شأن الذين آمنوا: أن يكون قتالهم في سبيل الله، هكذا بإطلاق وتعميم، وإن كان من أجل المستضعفين، فهو أيضا في سبيل الله. بخلاف الذين كفروا، فإن لهم غاية غير غاية المؤمنين، وهي أنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت. وهو: كلُّ ما يُعظَّم ويعبد ويطاع طاعة مطلقة من دون الله، وهو مصدر كل شرٍّ وطغيان. ولهذا بعث الله رسله لتحرير الأمم من عبادة الطاغوت أيا كان اسمه ونوعه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36[.

والظاهر: أن المسلمين مدعوون لإغاثة الملهوفين، وإنقاذ المستضعفين في الأرض من خلق الله، وإن لم يكونوا مسلمين، لأن رفع الظلم والأذى عن جميع الناس مطلوب من المسلم إذا كان قادرا عليه، ما لم يكونوا محاربين للمسلمين.

بل المسلم مطلوب منه أن يرفع الأذى عن الحيوان الأعجم إذا قدر عليه، سواء كان هذا الأذى ناشئا عن ظلم إنسان له، أو أسباب طبيعية أخرى، كأن يصيبه العطش أو غيره من ألوان الأذى [1[.

بل المسلم مطلوب منه: أن يرعى البيئة، ويحميها من التلوُّث والفساد، ويقف في وجه الذين يفسدون البيئة ويلوِّثونها، لأن الله لا يحبُّ الفساد، ولا يحبُّ المفسدين [2[.

• ( 4 ) تأديب الناكثين للعهود:

ومن أهداف القتال في الإسلام: تأديب أولئك الذين لا يحترمون العهود، ولا يرعَون المواثيق، فهم يحافظون عليها ما دامت في صالحهم، فإذا رأوا أنها لم تعُد تخدُمهم، وكان بهم قوة: ضربوا بها عُرض الحائط، وداسوها بأقدامهم، ولم يرعَوا لعهد حرمة، ولم يرقبوا في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة.

وهذا النوع من البشر لا يجوز أن يُترَك ليعيث في الأرض فسادا، ويملأها جَورا وإجراما، دون أن يسائله أحد أو يعاقبه على جرمه، وإلا تمادى في طغيانه، وازداد علوا في الأرض وفسادا.

من أجل هذا شرع الإسلام: أن يقاتَل هؤلاء المجرمون المفسدون، تأديبا لهم، وعقابا على ما اقترفت أيديهم، جزاء وفاقا.

وقد ابتلي الإسلام في عهد النبوة بأصناف من هؤلاء الناقضين للعهود، الخائنين للأمانات، بعضهم من اليهود، الذين عقد الرسول صلى الله عليه وسلم معهم (معاهدة) أو (اتفاقية) حدَّدت فيها الحقوق والواجبات، وألزمت الأطراف بنوع من التكافل والدفاع المشترك، ضدَّ أي هجوم على المدينة من الخارج.

ولكن قبائل اليهود سرعان ما غلب عليهم خُلق الغدر، فنقضوا عهد الرسول والمسلمين، قبيلة بعد أخرى، ابتداء ببني قينقاع، مرورا ببني النضير، وانتهاء ببني قريظة، الذين نكثوا العهد أحوج ما يكون المسلمون إلى الوفاء به، وكانوا في صفِّ الوثنيين المعتدين على المدينة ضدَّ المسلمين.

وهو ما اضطَّر الرسول وأصحابه: أن يخوضوا معهم معارك متتابعة، بعد كل غزوة من الغزوات الكبرى الأولى، فبعد بدر، كانت موقعة بني قينقاع، وبعد أحد، كانت موقعة بني النضير، وبعد الأحزاب، كانت موقعة بني قريظة.

وقد أشار القرآن إلى موقف هؤلاء القوم ونقضهم المستمر للعهود المُبرمة بينهم وبين المسلمين، فقال تعالى: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وهُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال:55-57[.

نقل المفسِّرون عن ابن عباس أنه قال: هم قريظة، فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا: أخطأنا، فعاهدهم مرة أخرى، فنقضوه أيضا يوم الخندق [3[.

وقال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}: اعلم أنه تعالى تارة يرشد رسوله إلى الرفق واللطف في آيات كثيرة. منها قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ومنها قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]، وتارة يرشد إلى التغليظ والتشديد، كما في هذه الآية، وذلك لأنه تعالى لما ذكر الذين ينقضون عهدهم في كل مرة: بيَّن ما يجب أن يعامَلوا به، فقال: {فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ} قال الليث: يقال: ثقفنا فلانا في موضع كذا، أي أخذناه وظفرنا به، والتشريد عبارة عن التفريق مع الاضطراب. يقال: شرَّد يُشرِد شُرودًا، فمعنى الآية: أنك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد، فافعل بهم تنكيلا يشرِّد غيرهم من ناقضي العهد، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}: أي لعل مَن خلفهم يذكرون ذلك النكال، فيمنعهم ذلك عن نقض العهد [4]انتهى.

روى الإمام مسلم في صحيحه، عن ابن عمر: أن يهود بني النضير وقريظة: حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقرَّ قريظة ومَنَّ عليهم، حتى حاربت قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين. إلا أن بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمَّنهم وأسلموا. وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم: بني قينقاع (وهم قوم عبد الله بن سلام)، ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة [5[.

• غلظ الجريمة التي ارتكبها بنو قريظة :

ومن هنا نعلم مقدار غلظ الجريمة التي ارتكبها بنو قريظة، فقد حاربوا رسول الله والمؤمنين معه قبل ذلك مع بني النضير، وأجلى بني النضير، وأبقاهم وأقرَّهم ومنَّ عليهم - بتعبير ابن عمر رضي الله عنهما - ومع هذا لم يُقدِّروا هذا الموقف الكريم من محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أقرَّهم ومنَّ عليهم بلا مقابل، وكأنهم اعتبروا ذلك مهارة ودهاء منهم: أنهم ضحكوا على محمد، وأظهروا له الندم، حتى سامحهم وأبقى عليهم بجواره في المدينة. فلما عادوا لمحاربته مرة أخرى، في أحلك الظروف، وأحرج المواقف، حيث كان الواجب أن يقفوا معه ويساندوه عسكريا وبشريا وماديا لمقاومة المُغيرِين على المدينة، كما تقضي بذلك المعاهدة المكتوبة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المؤمنين، ولكنهم بدل أن يقفوا مع رسول الله وقفوا مع المهاجمين، ونقضوا العهد، واتَّخذوه وراءهم ظِهريا. فقد وجدوها فرصة لا تعوَّض في القضاء على محمد وأتباعه، واستئصال شأفتهم، حتى لا تبقى لهم من باقية. فالجيش المهاجم ضخم، ورجاله متحمِّسون لإبادة محمد ودينه الجديد، فإذا انضموا إليهم - وهم في داخل المدينة - تضاعف الخطر على المسلمين، وأمسى الخلاص منهم شبه محتوم.

هكذا فكَّر بنو قريظة الأشرار، ولو سارت الأمور على ما يشتهون لاقتُلعت شجرة الإسلام من جذورها، وأطفئ هذا النور الإلهي الذي جاء من عند الله لهداية العالمين، ولكن كيد الله أعظم من كيدهم، ومكر الله أكبر من مكرهم، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]، وصدق الله إذ يقول: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32[.

ولو طُبِّق على هؤلاء اليهود ما حكمت به التوراة في قتال الشعوب الأخرى، ولا سيما الكنعانيين واليبوسيين والأموريين وغيرهم، لوجب ألا تستبقى فيهم نَسَمَة حية، وأن يبادوا عن بكرة أبيهم، كما هو أمر الرب الإله لموسى [6]! ولكن نبي الإسلام اكتفى بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم. وهذا - بالنسبة لضخامة جريمتهم - رحمة لا مثيل لها.

وكما نقض اليهود عهودهم مع رسول الله والمؤمنين مرَّة بعد مرَّة: كذلك فعل المشركون إلا قليلا منهم. فاشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، ولم يرقُبوا في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة، فاستحقُّوا التأديب بالسيف، عقوبة لهم على ما صنعوا.

وفي قتال هؤلاء الناكثين وتأديبهم، نزلت سورة (براءة) تُمهلهم أربعة أشهر، يسيحون في الأرض، ثم يختارون لأنفسهم الموقف الذي يحدِّدونه مع رسول الله وأصحابه. فإذا انسلخت الأشهر الأربعة التي حرُم فيها القتال، وأجِّلوا فيها، فعلى المسلمين أن يخوضوا معهم حربا لا هوادة فيها: يقتلونهم حيث وجدوهم، ويحصرونهم، ويقعدون لهم كل مرصد: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة:2،1] الآيات.

ويحرِّض القرآن المسلمين على قتال هؤلاء الناكثين، فيقول: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:7-10]، إلى أن يقول: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة:12[.

ويزيد في التحريض حين يقول: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13].

ومن المفسرين الذين رجَّحوا أن آيات سورة براءة إنما هي في المشركين الناكثين للعهود: الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه (الناسخ والمنسوخ)، فهو بعد أن ذكر الآية الأولى، قال: للعلماء في هذه الآية سبعة أقوال، سردها قولا قولا، والذي يهمُّنا منها هو سابعها.

قال رحمه الله: (والقول السابع: أن الذين نبذ إليهم العهد وأجِّلوا أربعة أشهر، هم الذين نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُمر بنبذ العهد إليهم وتأجيلهم أربعة أشهر، فأما مَن لم ينقض العهد، فكان مقيما على عهده، قال الله عز وجل: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:7]. ومَن لم يكن له عهد، أُجِّل خمسين يوما كما قال ابن عباس، وهذا أحسن ما قيل في الآية، وهو معنى قول قتادة. والدليل على صحته: ما حدثناه أحمد بن محمد بن نافع، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعمَر، عن أبي إسحاق الهَمْدَاني، عن زيد بن يُثَيْع [7]، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع: "لا يحجُّ البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وأن يتمَّ لكل ذي عهد عهده" [8[.

قال أبو جعفر: فإن قيل: فقد روي في الرابعة: "وأن ينبذ إلى كل ذي عهد عهده" [9]، فالجواب: أنه يجوز أن يكون هذا لمَن نقض العهد، على أن الرواية الأولى أولى وأكثر وأشبه، والله أعلم.

وأورد أبو جعفر بسنده، عن ابن عباس، قال: لم يعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا أحدا. وقال السُّدِّي: لم يعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مَن كان له عهد قبل.

قال أبو جعفر: هذا - وإن كان قد روي - فالصحيح غيره، وقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد الآن جماعة، منهم أهل نَجرَان: قال الواقدي: عاهدهم وكتب لهم سنة عشر، قبل وفاته بيسير) [10] انتهى.

وما ذكره الإمام النحاس: أن مَن لم يكن له عهد أُجِّل خمسين يوما، هو أحد الأقوال، في تفسير: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة:5]، وذلك بانتهاء ذي الحِجَّة ومحرم، والقول الأخير - وهو الراجح عندي - انتهاء أربعة أشهر منذ إعلانهم في يوم الحج الأكبر. وإنما سُمِّيت هذه الأشهر (حُرُمًا) لأن القتال حرُم فيها. ويشوِّش على القول الأول: أن الخمسين يوما لا تُسمَّى أشهرا، لأنها أقل من شهرين .

• ( 5 ) فرض السلام الداخلي بالقوة:

وهناك نوع من القتال يختلف عما ذكرناه، فهو ليس موجَّها إلى غير المسلمين، بل هو موجَّه إلى المسلمين أنفسهم، لفضِّ النزاع المُسلَّح بينهم، فله هدف محدَّد، وغاية معلومة، وهي: فرض السلام الداخلي بالقوة بين الطائفتين المتنازعتين من المسلمين. وهذا ما كلَّف الله به الأمة المسلمة متضامنة، فهو من فروض الكفاية الواجبة على الأمة، وأول مَن يطالب به الخليفة أو الإمام أو مَن يقوم مقامه. وأهل الرأي والشورى من المسلمين.

يقول تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10،9[.

ومعنى هاتين الآيتين: أن الإسلام لا يقبل من المسلمين أن يقفوا متفرِّجين، وطائفتان من إخوانهم يتنازعون بالسلاح فيما بينهم، ويسفك بعضهم دماء بعض، بل الواجب المُحتَّم عليهم: أن يسارعوا بالتدخُّل لإصلاح ذات البين، وإيقاف نزف الدم المسلم، فإن قبلت الطائفتان، فبها ونعمت، وإن رفضت إحداهما، أو وافقتا ثم بغت إحداهما على الأخرى، فالأمة مطالَبة أن تقاتِل الطائفة الباغية، حتى تفيء إلى أمر الله. فإن فاءت كان الصلح بينهما بالعدل والإقساط، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، بلا وكس ولا شطط.

ومقتضى هذا: أن يكون بين المسلمين بعضهم وبعض: ما يشبه (مجلس الأمن) بين الدول المختلفة بعضها وبعض في عصرنا، ومهمة هذا (المجلس الإسلامي): أن يفرض الصلح والسلام على المتنازعَين المختلفَين، وهذا الصلح يجب أن يكون بالعدل، بحيث يُعطى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، ولا يحابَى ظالم، أو يُضيَّع مظلوم.

وهذا يتَّفق مع منطق الإسلام وحرصه على السلام والوئام والوفاق: سلام المسلم مع نفسه، وسلامه مع أهله وأسرته، وسلامه مع جيرانه ومجتمعه، وسلامه مع أمته، وسلامه مع الناس أجمعين. وسلام أمته مع غيرها من الأمم [11[.

ولهذا أمر الإسلام بالإصلاح بين الناس إذا اختصموا، وفسدت ذات بينهم، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1[.

وقوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114[.

وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلُّكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة" [12].

وفي بعض الروايات: "لا أقول: تحلِق الشعر، ولكن تحلِق الدين" [13].

وفي النزاع بين الزوجين قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35[

وبهذا نرى الإسلام حريصا كل الحرص على الإصلاح بين الناس: أفرادا وأسرا وجماعات.

وإذا كان الإسلام يُرغِّب في السلام الخارجي، ويحرص عليه، ويدعو إلى السلام بينه وبين الأمم والدول المختلفة في العالم، المخالفين له في العقيدة، فإنه أشدُّ حرصا على (السلام الداخلي): السلام بين شعوبه ومجتمعاته المسلمة بعضها مع بعض.

لذلك يقيم العَلاقة بين أبنائه - وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم، أو اختلفت لغاتهم وأوطانهم، أو اختلفت مراتبهم وطبقاتهم - على أساس مكين من الإيمان بالله والإخاء المشترك، الجامع بينهم. فهذا الإخاء فرع من الإيمان وثمرة له. يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، وقال تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63،62].

وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربة من كربات الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومَن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" [14[

وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبِع بعضكم على بيع أخيه، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم: لا يخذله ولا يحقره … بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم. كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" [15[

وقال: "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا". وشبَّك بين أصابعه [16[

وقال: "ترى المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر" [17[

وقد أمر الله المؤمنين أن يتَّحدوا ولا يختلفوا، وأن يجتمعوا ولا يتفرَّقوا، وأن يكون أساس اتحادهم هو الاعتصام بحبل الله جميعا، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا …} إلى أن قال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:103-105].

وجعل من مظاهر الكفر: أن تصل الفُرقة بينهم إلى أن يقاتل بعضهم بعضا، كما كان يفعل أهل الجاهلية: يُغير بعضهم على بعض ظلما وعدوانا، وكما قال قائلهم:

وأحيانا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا [18[!

روى جرير بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حَجَّة الوداع: "استنصت الناس": أي اطلب منهم أن ينصتوا ويُصغُوا لما يقال. فقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض" [19]، وكذلك رواه عنه ابن عمر [20[

وروى عنه ابن مسعود: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" [21[

ولم يكتفِ الإسلام هنا بالتوجيه الأخلاقي، ولكنه ألزم بالتشريع القانوني، فرأيناه يفرض السلم بين المسلمين، ولو بالقوة، ويوجب عليهم أن يتدخَّلوا لإيقاف النزاع المسلَّح بين المسلمين بعضهم وبعض. وفي ذلك ذكرنا قريبا قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10،9[

دلَّت الآيتان الكريمتان على أن المؤمنين وإن اختلفوا وانقسموا إلى طائفتين متقاتلتين: لم يخرجوا من دائرة الإيمان، ولذا سمَّاهما القرآن (مؤمنين). وما داموا مؤمنين فهم إخوتنا، يسوءنا ما يسوءهم، ويؤذينا ما يؤذيهم، ويجب علينا ألا نَدَعهم لأهواء أنفسهم، أو لنزغات شياطين الإنس والجنِّ، وأن ننصرهم على أنفسهم وعلى شياطينهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما!". قالوا: يا رسول الله، ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم - أو تأخذ فوق يديه - فإن ذلك نصره" [22[

يحرص الإسلام على أن تسود الأخوة والمحبَّة بين الناس، وأن يظلُّهم السلام الاجتماعي بظلِّه الوارف، تحت راية الإسلام، الذي يقرِّب الناس بعضهم من بعض، ويوثِّق صلة الناس بعضهم ببعض، وينزع من صدورهم الغلَّ والحسد والبغضاء، فالحسد والبغضاء: داء الأمم من قبلنا، والبغضاء هي الحالقة، لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين.

• تأجيج الصراع بين الطبقات في الثقافة الماركسية :

وهذا على النقيض من (الفلسفة الماركسية) التي تقوم على تأجيج نار (الصراع بين الطبقات) بعضها وبعض، فتثير الفقراء ضدَّ الأغنياء، والعمال ضدَّ أرباب العمل، والمستأجرين ضدَّ المُلاك، والمحكومين ضدَّ الحكام، وتتَّخذ من هذا الصراع المشتعل وسيلة لإيقاد الثورة المرتقبة، التي تنتهي عندهم بتحطيم كلِّ الطبقات، وتنصيب طبقة واحدة عليهم، تحكم المجتمع كلَّه حكما ديكتاتوريا، هي طبقة (البروليتاريا)، وحكم ديكتاتورية (البروليتاريا): أي طبقة العمال الذين يحكم (الأباطرة) باسمهم، ولا يكاد العمال يجدون إلا الفتات!

أما الإسلام، فهو يجتهد أن يؤاخي بين الجميع، وأن يقيم المجتمع على دعائم من الحقِّ والعدل، وأن يعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، دون أن يستأثر أحد بالخير وحده، أو يحتكر لنفسه ما لا يُتاح لغيره، أو يبغي بقوته أو بثروته على الآخرين.

وفي ظلِّ هذا المجتمع الرباني الأخلاقي: رأينا الفقراء والأغنياء يتنافسون في أشياء غير الأموال والأمور المادية، فقد جاء الفقراء يشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ذهب أهل الدُّثُور (الأموال) بالأجور. يصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال، منها يتصدَّقون ويعتقون، ويقدرون على أعمال الخير، وهم يريدون أن يكونوا مثلهم ![23[

فانظر: في أي شيء تتنافس الطبقات بعضها مع بعض، وعلى أي شيء يحرصون في عهد النبوة؟ إنه التنافس في الصالحات، والتسابق في الخيرات، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26[

 


: الأوسمة



التالي
الإبداع في خلق الكون.. رسائل للمشككين والملحدين
السابق
المعجزة الكبرى (القرآن الكريم)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع