البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد الحلقة [ 42 ] : الباب الرابع : أهداف الجهاد (القتالي) في الإسلام الفصل الثالث : أهداف مرفوضة للجهاد في الإسلام (1 من 2)

وإذا كنا قد ذكرنا الأهداف الأساسية التي من أجلها يخوض الإسلام المعارك ويشنُّ الحروب، فينبغي علينا هنا: أن نُلقي بعض الضوء على أهداف أخرى، قد تخطر في بال بعض الناس، أو يروِّجها بعض الناس، حتى بعض المسلمين للأسف، لنبيِّن أن هذه الأهداف لا يقرُّها الإسلام، ولا يعتبرها بحال في قتاله إذا قاتل.

• أولا : هدف محو الكفر من العالم مرفوض:

هل الهدف من القتال: محو الكفر من العالم، حتى لا يبقى على الأرض إلا مسلم، وحتى تختفي الأديان الأخرى من حياة البشرية؟

ربما يتصوَّر هذا بعض الناس، ولا سيما إذا قرأنا ما قاله بعض الفقهاء المسلمين من أن سبب القتال لغير المسلمين هو كفرهم لا غير، وليس أي سبب آخر. وربما أكَّد هذا تفسير بعضهم للفتنة بالشرك في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]، قالوا: حتى لا يكون شرك وكفر بالله ورسوله.

وهذا الهدف في رأيي غير وارد قط، لأنه مناقض مناقضة صريحة لما قرَّره القرآن من أن اختلاف الناس في أديانهم وعقائدهم، وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين، وموحِّدين ووثنيين، ومصدِّقين بالرسل ومكذِّبين لهم: كل هذا واقع بمشيئة الله تعالى التي لا تنفصل عن حكمته عزَّ وجلَّ، فهو الذي خلق الناس مختلفين، أو قابلين للاختلاف في الإيمان وضدِّه، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2[.

وبهذا يكون كلُّ مَن يعمل لإلغاء هذا الاختلاف الديني، وإجبار الناس على دين واحد: عاملا ضدَّ مشيئة الله تعالى الكونية، ومثل هذا لا بد أن يخفق، إذ لا بد لمشيئة الله تعالى أن تنفذ، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

• ثانيا : هدف قسر الناس - أو بعضهم - على الإسلام مرفوض:

أم هل الهدف من القتال في الإسلام: قسر الناس والشعوب - أو على الأقل: بعضهم - على الدخول في دين الإسلام؟

ربما يتصوَّر ذلك بعض الناس أيضا، وخصوصا مع مقولة أن سبب القتال للكفار هو كفرهم، وليس عدوانهم على حرمات المسلمين، أو على دعاتهم، أو الوقوف في وجه دعوتهم بالقوة.

ولكن الذي يقرأ النصوص الإسلامية الواضحة والمُحكمة من القرآن والسنة: يجد أنها كلَّها ترفض اعتماد الإيمان واعتباره وتصحيحه، ما لم يتمَّ عن اختيار كامل من صاحبه، بعد اقتناع تام بأحقِّيَّته، وأن أي شائبة تشوب هذا الاختيار أو تشوِّش عليه: تسقط اعتبار الإيمان وقَبوله عند الله.

فالقرآن يرفض مبدأ الإكراه في الدين، وقد قال تعالى في القرآن المكي لرسوله محمد: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، وهذا استفهام إنكاري معناه النفي القاطع لفكرة الإكراه، وأن هذا ليس في قدرة الرسول؛ لأنه ضدَّ المشيئة الإلهية.

وفي القرآن المكي أيضا نجد قوله تعالى على لسان نبيه نوح شيخ المرسلين: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28]، وهو استفهام استنكاري أيضا، فدلَّ على أن هذا أمر تشترك في إنكاره رسالات الأنبياء جميعا.

وفي القرآن المدني نجد قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256[.

ومن الناس مَن زعم: أن هذه الآية إنما نزلت والإسلام ضعيف في مكة، لا حول له ولا طَول، فلما صلُب عوده، واشتدَّت قوته، وكثر أنصاره، غيَّر هذا المبدأ. هكذا قال بابا الفاتيكان (بينديكيت السادس عشر) في محاضرته التي ألقاها في جامعة غوتسبورغ في جنوب ألمانيا، وهو يتحدَّث عن كتاب نسبه للإمبراطور البيزنطي أمانويل الثاني.

قال البابا: من المؤكد: أن الامبراطور كان على علم بأن الآية (256) من السورة الثانية بالقرآن (سورة البقرة) تقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. أنها من أوائل السور، كما يقول العارفون (!) وتعود للحقبة التي لم يكن لمحمد فيها سلطة، ويخضع للتهديدات [1]!!

وهذا قول لم يقُله أحد قط. فالثابت بيقين: أن سورة البقرة كلَّها لم تنزل إلا في المدينة، وهذا أمر مجمع عليه لم يخالف فيه أحد من العلماء قديما أو حديثا.

وهذه الآية إنما نزلت بعد واقعة بني النضير من اليهود. قال الحافظ ابن كثير: (ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وأن حكمها عامٌّ. فروى ابن جرير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مِقلاَتا - أي لا يعيش لها ولد - فتجعل على نفسها: إن عاش لها ولد أن تهوِّده! فلما أُجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا - أي أرادوا أن يخرجوهم من اليهودية الدخيلة عليهم، ويكرهونهم على الإسلام، دين قومهم - فأنزل الله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]. وقد رواه أبو داود والنسائي بنحوه [2[.

ودعوى أن هذه الآية منسوخة - كما قال بعض المفسرين - دعوى غير مسلَّمة، ولا دليل عليها، ولا تترك أوامر الله ونواهيه وأحكامه في كتابه العزيز بمجرَّد الدعاوي أو بالظنون والأوهام، فإن الظنَّ لا يغني من الحقِّ شيئا.

والأصل المتَّفق عليه: أن كلَّ ما أنزل الله في كتابه يجب العمل به والانقياد إليه، كما قال تعالى لرسوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105]، وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49[.

ثم أين الآية أو الآيات الناسخة لهذه الآية {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}؟

حتى ما زعموه (آية السيف) لا تقتضي الإكراه في الدين، وشرط ثبوت النسخ: أن يكون هناك تعارض قطعي بين الآيتين، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحال، وأن يكون الناسخ متأخِّرا في زمن النزول عن المنسوخ.

وهنا لا نجد تعارضا قطعيا بين آية نفي الإكراه في الدين وآية السيف، سواء كانت هي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، فهذه لا تنافي قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، فإن قتال المشركين لا يستلزم إكراههم في الدين. أو كانت آية السيف قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فهذه لا تنافي آية نفي الإكراه في الدين، لأن المقاتل يستطيع أن ينجو من الإكراه بدفع الجزية، ولا سيما أنها مبلغ زهيد، يُعفى من أدائه الفقير.

ثم إن آية نفي الإكراه في الدين معلَّلة بعِلَّة لا تقبل النسخ، فقد قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]. وإذا تبيِّن الرشد من الغيِّ، والهدى من الضلال، وتميَّز الحقُّ من الباطل، فلا حاجة إلى الإكراه، ولا مبرِّر له.

بل وجدنا القرآن يرفض إيمان مَن آمن إذا شابت اختياره أي شائبة إكراه، مثل إيمان فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، فكان الردُّ الإلهي عليه: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91،90]، فلم يقبل منه إيمانه وهو في هذه الحال إذ لم يعُد مختارا في حقيقة الأمر.

ومثل ذلك قوله تعالى في الأمم المشركة والمكذِّبة برسل الله حين ينزل بها بأس الله وعقابه القدري السماوي: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85،84]. بهذا الحسم رفض الله تعالى إيمانهم بعد أن رأوا عقوبة الله بأعينهم، إذ لم يعُد لهم خيار في ذلك، فلم يكُ ينفعهم الإيمان لما رأوا بأس الله، فالإيمان المقبول هو ما كان عن إرادة حرَّة، واختيار كامل.

• الإسلام دعوة وبلاغ عالمي:

ومَن تدبَّر القرآن الكريم في سوره المكية والمدنية: تبيَّن له بجلاء أنه دين دعوة وبلاغ للناس، وليس دين قهر وإكراه، يقول تعالى مخاطبا خاتم رسله محمدا في سورة يوسف وهي مكية: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108[.

هذه طريق محمد عليه الصلاة والسلام، كما رسمها له ربه: الدعوة إلى الله على بصيرة، وليس ذلك طريقه وحده، ولكنها طريقه وطريق مَن اتبعه من المؤمنين.

ويقول تعالى في سورة النحل، وهي مكية: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125[

وهذا خطاب للرسول ولسائر الأمة من بعده، وهذه الآية تبيِّن منهج الدعوة، وهي تستخدم الحكمة التي تقنع العقول، والموعظة الحسنة التي تستميل العواطف، وهذا يكون في العادة مع الموافقين، أما المخالفون فطريقة الدعوة معهم هي الحوار بالحسنى، أو الجدال بالتي هي أحسن، كما عبَّر القرآن الكريم.

ويقول تعالى في سورة المائدة، وهي مدنية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67[.

وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، سواء فسرنا (من) في قوله تعالى: {مِنْكُم} بأنها للبيان أو للتبعيض، فالآية تقصر الفلاح على القائمين بالدعوة، إما بأن تقوم بها الأمة كلُّها، أو تقوم بإعداد جماعة متخصِّصة في الدعوة إلى الإسلام، وهي مسؤولية الأمة جمعاء.

وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فهذه الأمة المفضَّلة على الأمم أمة أخرجت، أي أخرجها مخرج، وزرعها زارع، ولم تُخرج نفسها، كما لم تَخرج لنفسها، ولكنها أُخرجت للناس كلِّ الناس، لهداية الناس، ونفع الناس، وإسعاد الناس، وتحقيق الخير للناس.

وقد أكَّد القرآن منذ العهد المكي عالمية الدعوة الإسلامية، فليست هي دعوة لجنس معيَّن من الناس كالعرب، ولا لإقليم معيَّن من الأرض كالجزيرة العربية أو الشرق الأوسط، ولا لأبناء لون خاص، أو لغة خاصة من البشر، ولا لطبقة معيَّنة من طبقات المجتمع، بل هي رسالة عامة لشعوب الأرض كلِّها، من أي عرق كانوا، وفي أي إقليم وجدوا، وبأي لغة نطقوا، وإن كانت لغة الوحي هي العربية.

يقول تعالى لرسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال عزَّ وجلَّ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]، وقال تعالى عن القرآن: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88،87]، وقد تكرَّرت آية {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} في أكثر من سورة [يوسف:107، ص:87، التكوير:27[.

وقال تعالى لنبيِّه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158[.

ومَن قرأ الكتب المنسوبة إلى السماء: مثل التوراة والإنجيل، لم يجد فيها هذا الإعلان بالعالمية، بل موسى كان رسولا إلى قومه، والمسيح عيسى ذكر في إنجيله لتلاميذه: (إنما بعث إلى خراف بني إسرائيل الضالة) [3[.

ورسول الإسلام عليه الصلاة والسلام يؤكِّد هذا بقوله في بيان خصائصه: "وكان كلُّ رسول يبعث إلى قومه، وبُعثتُ إلى الناس كافَّة" [4[.

• ما العمل إذا أعرض الناس عن الدعوة؟

ولكن ما موقف الإسلام إذا لم يستجب المدعوُّون لدعوته وبلاغه العام، وبعبارة القرآن: إذا {تَوَلَّوْا عَنْهُ}؟

هل يكتفي بإبلاغهم الدعوة، وإقامة الحُجَّة عليهم، أو يقاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يدفعوا الجزية؟

إن معرفة موقف الإسلام هنا لا تتحدَّد بأهوائنا وعواطفنا، ولا بمجرَّد آرائنا وأفكارنا، ولا بمجرَّد النقل عن فلان وفلان من العلماء.

إنما يُعرف موقف الإسلام - ولا سيما في هذه القضايا الخطيرة - من النصوص المُحكمة من القرآن الكريم، وما يبيِّنه من صحيح السنة النبوية.

وهذا الأمر واضح تمام الوضوح في كتاب الله تعالى في المكي والمدني منه.

نقرأ قوله تعالى في سورة الأنبياء، وهي مكية: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء:106-109[.

وفي سورة الشورى - وهي مكية - نقرأ: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48،47[

وفي سورة النحل، وهي مكية: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:82،81[

وهذا المعنى يتكرَّر في القرآن: أن القوم إذا تولَّوا وأعرضوا، فليس على الرسول هدايتهم، فإنه لا يهدي مَن أحبَّ، ولكن الله يهدي من يشاء، وإنما عليه البلاغ، فهذه وظيفته الدائمة.

وفي سورة البقرة - وهي مدنية - نقرأ قول الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137،136[.

وفي سورة آل عمران المدنية: نقرأ عددا من النصوص في ذلك، منها قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20]، وفي نفس السورة: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32[.

وفيها قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64[.

وفي الآية السابقة لها: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران:63[.

وتكرَّر هذا في السورة كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ...} [آل عمران:81] الآية. ثم قال: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:82[.

وفي سورة النساء وهي مدنية تقرأ قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء:80[.

وفي سورة المائدة - وهي من أواخر ما نزل من القرآن - يقول تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92[.

وفي آخر سورة التوبة المدنية التي ذكروا أنها تشتمل على آية السيف، وإن اختلفوا في تعيينها، نجد السورة ختمت بقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129،128[.

وفي سورة النور وهي مدنية كذلك، نقرأ قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54[.

 


: الأوسمة



التالي
العلامات الفارقة بين الحكم الراشد والحكم الفاسد
السابق
النفاق

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع