البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد .. الحلقة [ 68 ] : الباب السادس : جيش الجهاد الإسلامي "واجباته وآدابه ودستوره" الفصل الخامس : الدستور الأخلاقي للحرب في الإسلام (3 من 3( • ( 5) تحريم قطع الشجر وهدم الأبينة :

الرابط المختصر :

 

ومن أخلاقيات الحرب والقتال في الإسلام: تحريم الإفساد في الأرض، بقطع أسباب الحياة فيها، وتخريب ما يحتاج إليه الناس، مما لا ضرورة في الحرب إليه. وذلك مثل: قطع الشجر، وتحريق المزارع، وهدم المنازل، وتخريب العامر، وتلويث مياه الشرب، ونحو ذلك مما تفعله بعض الجيوش، نكاية بأعدائها، وانتقاما منهم، وإن لم تكن بها حاجة إليها.

• النهي عن الفساد في الأرض :

والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]، وقال تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60[

وقال سبحانه في معرض الذمِّ يصف بعض الأشرار: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205[

وقال على لسان ملكة سبأ عن طبيعة الملوك الفاتحين: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34[

وذمَّ اليهود بقوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64[

• وصية الصديق لقادة جيوشه :

ومن هنا أوصى الخليفة الأول أبو بكر الصديق قادة جيوشه: ألا يقطعوا شجرا، ولا يهدموا بناء[1]. وقد تقدَّم.

وقد أُمرنا أن نتَّبع سنَّة الخفاء الراشدين، ونعَضَّ عليها بالنواجذ، وأبو بكر أولهم؛ لأن سنَّتهم مقتبسة من سنَّة رسولهم صلى الله عليه وسلم، فهم أفقه الناس لكتاب الله وسنة رسوله، وفَهم رُوح الإسلام.

• الحديثان اللذان أوردهما البخاري في حرق الدور والنخيل :

وأما ما رواه البخاري في (باب حرق الدور والنخيل)، وأورد فيه حديثين: الأول: حديث جرير بن عبد الله البَجلي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تريحني من ذي الخَلَصَة؟". وكان بيتا في خَثعَم، يسمَّى: كعبة اليمانية، قال: فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أَحمَسَ، وكانوا أصحاب خيل، قال: وكنت لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري، حتى رأيتُ أثر أصابعه في صدري، وقال: "اللهم ثبِّته، واجعله هاديا مهديًّا!". فانطلق إليها، فكسرها وحرقها، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فقال رسول جرير: والذي بعثك بالحقِّ، ما جئتُك حتى تركتُها كأنها جمل أجوف أو أجرب! قال: فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات[2] . أي دعا لهم بالبركة.

والثاني: حديث ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير[3] . أورده هنا مختصرا، وساقه بتمامه في (المغازي)[4[

• الجواب عن قصة كسر ذي الخَلضَة وتحريقها :

أما قصة كسر ذي الخَلَصَة وتحريقها، فهي لا تدخل في باب إتلاف الزرع والضرع، أو تهديم المنازل ونحوها، بل هي تدخل في باب (تحطيم الأصنام) فقد كان ذو الخَلَصَة معبودا لقبيلة خَثعَم، مثل مَنَاة والعُزَّى لقريش، واللاَّت لأهل الطائف. وكان على الرسول الكريم بعد أن مكن الله له في أرض العرب: أن يزيل منها آثار الشرك والوثنية، التي أضلَّت الناس، وكانت وكرا للأباطيل والضلالات قرونا من الزمن.

• الجواب عن تحريق نخل بني النضير :

وأما تحريق نخل بني النضير، فلم يكن مقصودا لذاته، ولا لجأ إليه الرسول أول الأمر، ولكنه اضطُّر لاستخدامه من باب الضرورات الحربية، ليسوق بني النضير إلى التسليم، وقد عرَف اليهود أن هذا ليس من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من اتجاهاته الأساسية في الحرب، ولهذا قالوا: يا محمد، كنت تنهى عن الفساد وتعيبه، فما بال تحريق النخيل؟

والحقُّ أن هذا أمر أذن الله فيه لرسوله، لهذه الضرورة، مع علمه تعالى أن اليهود سيجلون عن المدينة، ويرث المسلمون هذا النخيل، فكلُّ ما يحرق منها ليس لمصلحتهم في عاقبة الأمر. قال تعالى يخاطب الرسول والمؤمنين: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5[

قال في (الفتح): (وقد ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو.

وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور. واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه: ألا يفعلوا شيئا من ذلك. (وقد أوردنا وصيته بنصِّها فيما سبق)[5[

وأجاب الطبري بأن النهي (أي عن التحريق والإتلاف): محمول على القصد لذلك، بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في خلال القتال، كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو ما أجاب به في النهي عن قتل النساء والصبيان. وبهذا قال أكثر أهل العلم. ونحو ذلك القتل بالتغريق) [6] انتهى.

قال ابن قدامة: (أما عقر دوابهم في غير حال الحرب لمغايظتهم والإفساد عليهم، سواء خفنا أخذهم لها، أو لم نخَف، فلا يجوز. وبهذا قال أبو ثور والأوزاعي والليث والشافعي. أما في حال الحرب فإن لم يكن هناك مصلحة فلا يجوز أيضا، قاله الأوزاعي والليث وأبو ثور.

• النهي عن تغريق النحل وتحريقه :

وقال أيضا: وإن تغريق النحل وتحريقه لا يجوز في قول عامة أهل العلم، منهم: الأوزاعي والليث والشافعي، لما روي عن سيدنا أبي بكر، وهو يوصي قائده يزيد بن أبي سفيان: لا تحرقنَّ نحلا ولا تغرقنه)[7] . والمراد: خلايا النحل التي يجدها المقاتلون في الجبال أو البيوت أو غيرها، وهو يعتبر ثروة مهمة امتنَّ الله تعالى بها في القرآن، فلا يجوز تحريقه وتغريقه بغير ضرورة.

• ( 6 ) النهي عن النُّهبة والغلول:

ومن أخلاقيات الإسلام في الحرب: تربية جنوده على تحرِّي الحلال، والعفَّة عن الحرام في مآكلهم ومشاربهم، فلا يدخلوا في بطونهم لقمة من سُحت، اتِّكالا على أن الجهاد يكفِّر عنهم سيئاتهم. ومن ذلك تشديده عليه الصلاة والسلام في النهي عن (النُّهبة) و(الغلول). يقول الإمام ابن القيم في بيان هديه صلى الله عليه وسلم، في الغزو:

(وكان ينهى في مغازيه عن النهُّبة والمُثلة وقال: "مَن انتهب نُهبة فليس منا"[8] ، وأمر بالقدور التي طُبخت من النُّهبَى فأكفئت[9[

وذكر أبو داود، عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصاب الناس حاجة شديدة وجَهد، وأصابوا غنما، فانتهبوها، وإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى على قوسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمِّل اللحم بالتراب، ثم قال: "إن النُّهبة ليست بأحلَّ من الميتة"، أو "إن الميتة ليست بأحلَّ من النُّهبة"[10[

وكان ينهى أن يركب الرجل دابة من الفيء حتى إذا أعجفها، ردَّها فيه، وأن يلبس الرجل ثوبا من الفيء حتى إذا أخلقه، ردَّه فيه[11] ، ولم يمنع من الانتفاع به حال الحرب.

وكان يشدِّد في الغُلول جدا، ويقول: "هو عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة"[12] .

ولما أصيب غلامه مِدعَم قالو: هنيئا له الجنة. قال: "كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم، لم تُصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا". فجاء رجل بشراك أو شراكين لما سمع ذلك، فقال: "شراك أو شراكان من النار"[13[

وقال أبو هريرة: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغُلول وعظَّمه، وعظَّم أمره، فقال: "لا ألفينَّ أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، وعلى رقبته فرس له حَمحَمة، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتُك. وعلى رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتُك. أو على رقبته رِقاع تَخفِق، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتُك"[14[

وقال لمَن كان على ثَقَله وقد مات: "هو في النار". فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلَّها[15[

وقالوا في بعض غزواتهم: فلان شهيد، وفلان شهيد حتى مرُّوا على رجل، فقالوا: وفلان شهيد. فقال: "كلا، إني رأيتُه في النار في بُردة غلَّها أو عباءة". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا ابن الخطاب، اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون"[16[

وتوفي رجل يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صلوا على صاحبكم". فتغيَّرت وجوه الناس لذلك، فقال: "إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله شيئا". ففتشوا متاعه، فوجدوا خَرَزا من خَرَز يهود لا يساوي درهمين"[17[

وكان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا، فنادى في الناس، فيجيؤون بغنائمهم، فيخمسه، ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر، فقال رسول الله: "سمعتَ بلالا نادى ثلاثا؟". قال: نعم، قال: "فما منعك أن تجيء به؟". فاعتذر، فقال: "إني لن أقبله حتى تكون أنت الذي توافيني به يوم القيامة"[18] ) [19]انتهى .

وإنما شدَّد عليه هذا التشديد ليرتدع هو وأمثاله عن الطمع في المال العام، وليحرص كلُّ واحد منهم على أن يؤدِّي هذا المال في وقته ليوزَّع على أهله قبل أن يتفرَّقوا.

• مقارنات بين الحروب الإسلامية وحروب العصر :

لا يعرف قيمة هذه المبادئ الأخلاقية التي جاء بها الإسلام في الحرب إلا من عقد مقارنة سريعة بين ما جرى ويجري في حروب عصرنا، من تحكيم القوة في الحقِّ، والتسليم للأقوياء في الاستبداد بالضعفاء، فالقوة هي التي تفرض القوانين، وهي التي تُحِقُّ الباطل، وتبطل الحقَّ.

إن أمريكا ضربت هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية، وقتلت عشرات الألوف، وشوَّهت مئات الألوف، بدون حاجة إلى ذلك، فقد استسلمت اليابان قبل ذلك.

وأمريكا هي التي ضربت الناس في أفغانستان، من المدنيين الذين لا شأن لهم بالحرب، واعتذرت بأن ذلك كان خطأ، وعوَّضت كل قتيل منهم بثلاثمائة دولار كأنما تعوِّض خرافا ذُبحت، في حين طلبت أمريكا تعويضا عن كلِّ فرد منها ممَّن أصيبوا في 11 سبتمبر 2001م بمئات الملايين!! وطالبت ليبيا في قضية (لوكربي) عن ضحاياها من ركاب الطائرة المتفجرة بآلاف الملايين[20[

وهي تقتل الناس في العراق، وتدمِّر المنشآت المدنية والبُنى التحتية بكلِّ جبروت، ولا تبالي بمَن دُمِّرت عليه من الأحياء.

وتتآمر مع اللصوص العالميين والمحليين لنهب المتاحف والمكتبات، وتخريب التراث العلمي العراقي واستباحته كما استباحه هولاكو من قبل.

لقد وقف العالم كلُّه مشرقه ومغربه ضدَّ الحرب على العراق، وقالوا لأمريكا: لا للحرب العدوانية، ولم يمنحها مجلس الأمن الحقَّ في استخدام القوة، ووقف أحبار الدين في الإسلام والمسيحية ضدَّها، ولكنها ضربت عُرض الحائط بذلك كلِّه، وغلبت حقَّ القوة على قوة الحقِّ، فكانت عدوانية قبل الحرب، عدوانية في أثناء الحرب، عدوانية بعد الحرب!

هذه هي حروب القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين في العالم المتقدم، فأين هي مما جاء به الإسلام من دستور للأخلاق، يلتزمه المسلمون، لأنه شرع الله ودينه الذي يتعبَّد به عباده، ويتقرَّبون إليه باحترامه وتنفيذه؟

• هل يجوز الكذب في الحرب؟

ومع التزام المسلمين بالقِيَم الأخلاقية في الحرب، أجاز الإسلام للضرورة الكذب في الحرب، وإن كان الصدق هو الأصل في التعامل في السلم والحرب.

ولكن للحرب ضروراتها، التي تقتضي أحيانا استعمال المعاريض. والمراد بها، كما قال الزبيدي: ذكر لفظ محتمل يفهم منه السامع خلاف ما يريد المتكلم [21]، وقد نُقل عن السلف: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب[22] . قال عمر: أما إن في المعاريض ما يكفى المسلم عن الكذب[23] . وروى ذلك عن ابن عباس وغيره كما قال الغزالي في الأحياء، وإنما أرادوا بذلك إذا اضطُّر الإنسان إلى الكذب. فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة، فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعًا، ولكن التعريض أهون.

وضرب لذلك أمثلة من سيرة السلف منها: ما كان يصنعه إبراهيم النخعي - رحمه الله - إذا طلبه مَن يكره أن يخرج إليه - وهو في الدار - قال للجارية: قولي له: اطلبه في المسجد، ولا تقولي له: ليس ههنا كي لا يكون كذبًا.

وكان الشعبي إذا طلبه - مَن يكره لقاءه - خطَّ (دائرة) وقال للجارية: ضعي إصبعك فيها وقولي: ليس ههنا!

قال الغزالي: وهذا كلُّه في موضع الحاجة. فأما في غير موضع فلا؛ لأن هذا تفهيم للكذب، وإن لم يكن اللفظ كذبا، فهو مكروه على الجملة[24[

ولا ريب أن الحرب هي من مواضع الحاجة - بل ربما الضرورة - إلى ذلك، لحماية أسرار الدولة، وصيانة عوراتها العسكرية، وشئونها السرِّية من أعين أعدائها وأيديهم.

فإذا أمكنه الخروج من المأزق بالمعاريض، فبها ونعمت، واكتفى بالتعريض عن التصريح، وإلا احتمى بالكذب، أو قُل: حَمَى أسرار الدولة والأمة بالكذب.

• استعماله صلى الله عليه وسلم المعاريض في غزوة بدر :

وفي سيرة ابن هشام في قصة غزوة بدر، روي عن ابن اسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم، ركب هو ورجل من أصحابه - هو أبو بكر - حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم! فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممَّن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "إذا أخبرتنا أخبرناك". قال: أو ذاك بذاك؟ قال: "نعم". فأخبرهما الشيخ بما يعلمه وما يستنتجه. فلما فرغ من خبره قال: ممَّن أنتما؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن من ماء!". ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ ما من ماء؟! أمن ماء العراق[25] .

كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر: من أين أنتم؟ فقال: "من ماء" . ففهم السائل: أنه جاء من ناحية الماء والأنهار، وإنما أراد الرسول: أنه مخلوق من ماء، كما قال تعالى عن الإنسان {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6].

• جواز الكذب الصريح في ثلاث :

وقد يقتضي أحيانا الكذب الصريح، كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة، قالت: ولم أسمعه (أي الرسول صلى الله عليه وسلم) يُرخِّص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحربُ، والإصلاح بين الناس، وحديثُ الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها"[26[

وقال البخاري في صحيحه: باب الكذب في الحرب، وذكر فيه حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟!". قال محمد بن مَسلَمَة: أتحبُّ أن أقتله يا رسول الله؟ قال: "نعم". وفي رواية: إنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ائذن لي أن أقول. (أي أتصرف في القول) قال: "قل" - أو قال: "قد فعلتُ" - قال: فأتاه، فقال: إن هذا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - قد عنَّانا وسألنا الصدقة! قال: وأيضا والله لَتَمَلُّنَّه، قال: فإنا قد اتبعناه، فنكره أن نَدَعَه حتى ننظر إلى ما يصير أمره. قال: فلم يزل يكلِّمه حتى استمكن منه، فقتله [27[

• جواز قتل الحربي سرا :

وقد ذكر البخاري الحديث مرة أخرى في باب (الفتك بأهل الحرب)، ليبيِّن أن الحربي يجوز قتله سرًّا، كما يجوز قتله علانية، قال العلماء: وإنما فتك بابن الأشرف، لأنه نقض العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأعان على حربه، وهجاه. ولم يقع من ابن مَسلَمَة ولا من صحبه تأمين له بالتصريح، وإنما أوهموه بذلك وآنسوه حتى تمكَّنوا من قتله[28[

قال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى، جائز بالنصِّ، رفقا بالمسلمين، لحاجتهم إليه، وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا. انتهى.

قال الحافظ: ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان، من حديث أنس في قصة الحجَّاج بن عِلاَط - الذي أخرجه النسائي وصحَّحه الحاكم - في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم: أن يقول عنه ما شاء، لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة، وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، وإخباره لأهل مكة: أن أهل خيبر قد هزموا المسلمين[29] ، وغير ذلك، مما هو مشهور فيه)[30[

قال الحافظ: (ولا يعارض ما أخرجه النسائي من طريق مصعب بن سعد عن أبيه في قصة عبد الله بن أبي السَّرح، وقول الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم، لما كفَّ عن بيعته: هلاَّ أومأتَ إلينا بعينك؟ قال: "ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين!"[31]. لأن طريق الجمع بينهما: أن المأذون فيه بالخداع والكذب في الحرب حالة الحرب خاصة. وأما حال المبايعة فليست بحال حرب. كذا قال: وفيه نظر لأن قصة الحجَّاج بن عِلاَط أيضا لم تكن في حالة حرب. والجواب المستقيم أن نقول: المنع مطلقا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتعاطى شيئا من ذلك، وإن كان مباحا لغيره(.

وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن ابن بطَّال عن بعض شيوخه: أن الكذب الحقيقي لا يجوز ولو في حال الحرب، وإنما المراد به المعاريض.

وخالفه النووي، فقال: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة (التي ذكرت في حديث أم كلثوم) لكن التعريض أولى [32] انتهى.

• وجوب الكذب في الحرب في بعض الأحيان :

بل أقول: إن الكذب في الحرب أحيانا يكون واجبا، لا مجرَّد جائز، مثل أن يؤسر مسلم أو يعتقله عدوه، فيسأله عن بعض الأمور التي تُعتبَر من (الأسرار الحربية) التي يضرُّ كشفها بالمسلمين ويؤذيهم، مثل مخابئ الأسلحة، ومواضع الصواريخ، ونحوه مما يسبب انكشافها للعدو خطرا على الجماعة، فهنا لا يَسَع المسلم إلا الكذب والتمويه وإن أُوذي المسلم في سبيل ذلك، فأذاه وبلواه في سبيل الله.

وقد قال العلماء: إن الكذب واجب، فيما إذا طلب المسلمَ البريءَ ظالمٌ متجبِّرٌ ليقتله، وسئل عنه، وهو يعرف مكانه، فلا يجوز له أن يخبره به، ويمكنه أن يقول غير الحقيقة تضليلا له، حتى لا يؤدِّي إلى قتله بغير حقٍّ، فيكون معينا على هذا القتل، وهو من التعاون على الإثم والعدوان، فإذا كان الكذب واجبا لإنقاذ فرد بريء، فكيف بالكذب لإنقاذ وطن أو أمة؟!

• الحرب خدعة:

ومثل الكذب في الحرب: استخدام الكيد والمكر مع الأعداء. ففي حديث أبي هريرة في الصحيحين: سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة"[33[

وفيهما عن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة"[34] . و(خَدْعة) بفتح الخاء - وهي أفصح - وبضمها، مع إسكان الدال: (خُدْعة)، وبضم الخاء مع فتح الدال: (خُدَعة) مثل هُمَزَة ولُمَزَة[35[

(وأصل الخدع: إظهار أمر، وإضمار خلافه. وفيه التحريض على الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفار، وأن مَن لم يستيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه.

قال النووي: اتفقوا على جواز الخداع في الحرب كيفما أمكن، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان، فلا يجوز.

قال ابن العربي: الخداع في الحرب يكون بالتعريض، وبالكمين ونحو ذلك.

وفي الحديث إشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة. كما قال أبو الطيب:

الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول، وهي في المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان

ولربَّما طعن الفتى أقرانـه ... بالرأي قبل تطاعـن الأقـرانِ

وفي الحديث ما يشير إلى ذلك بقوله: "الحرب خدعة"، كأنه يقول: الحرب هي الرأي والكيد، وليست مجرَّد العدد والعدَّة، وهو كقوله: "الحج عرفة"[36[

قال ابن المنير: معنى "الحرب خدعة": أي الحرب الجيِّدة لصاحبها، الكاملة في مقصودها، إنما هي المخادعة لا المواجهة، وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر [37] اهـ.

وعندما أسلم نُعيم بن مسعود، والمسلمون محاصَرون في غزوة الخندق، وقد غدر بهم بنو قريظة، قال له الرسول الكريم: "إنما أنت رجل واحد، فخذِّل عنا ما استطعت"[38]. فقام الرجل بدور جيِّد في تخذيل المشركين واليهود، وضرب بعضهما ببعض.


: الأوسمة



التالي
حملة على تويتر تطالب بإنقاذ الداعية سلمان العودة من الإعدام
السابق
الحلقة 6 العلماء والمجتمع..

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع