البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد . الحلقة [ 70 ] : الباب السابع : بماذا ينتهي القتال؟ الفصل الثاني : المصالحة والمهادنة (قبل المعركة أو بعدها)

 

• معني الهدنة:

وقد تنتهي المعركة بين المسلمين وأعدائهم بالصلح والمسالمة، إذا جنح العدو إلى ذلك، وطالب المسلمين بالصلح والمهادنة، وكفِّ الأيدي عن القتال.

ومعنى الهدنة كما قال ابن قدامة: أن يعقد (أي الإمام) لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدَّة، بعِوَض أو بغير عِوَض. وتسمَّى: مهادنة وموادعة ومعاهدة. وذلك جائز بدليل قول الله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:61]. وروى مرْوان ومِسْوَر بن مَخْرَمَة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو (ممثِّل قريش) بالحديبية، على وضع القتال عشر سنين [1[

ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف، فيهادنهم حتى يقوى المسلمون، ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين: إما بأن يكون بهم ضعف عن قتالهم، وإما أن يُطمَع في إسلامهم بهدنتهم، أو في أدائهم الجزية، والتزامهم أحكام المِلَّة، أو غير ذلك من المصالح [2]اهـ.

• صلح الحديبية:

وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في (غزوة الحديبية) الشهيرة، بعد أن كادت تنشب حرب خطيرة تهيَّأ لها المسلمون، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، على القتال حتى الموت [3]، وذلك حينما صدَّهم المشركون عن المسجد الحرام لأداء العمرة، وشاع أنهم اعتقلوا مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عثمان بن عفان.

ولكن سرعان ما تغلَّبت العقول على العواطف، والحكمة على الغضب، والتفاهم على التصادم، وبدأت المفاوضات بين الجانبين تأخذ مجراها الصحيح، وهو عقد الصلح، والهدنة لمدَّة عشر سنين، يتكافُّ فيه الطرفان عن سفك الدماء، وكان في هذه الاتفاقية شروط ظاهرها الجور على حقوق المسلمين، حتى أنكرها بعض المسلمين الأشدَّاء مثل عمر بن الخطاب، ولكن الرسول الكريم بحكمته ونور بصيرته، وثاقب فكرته، وبُعد نظرته - وقبل ذلك كلِّه بتأييد الله له - رأى في هذه الاتفاقية خيرا لدعوته ولصحابته. ونزل في ذلك الصلح (سورة الفتح(

• مناقشة رأي بعض الفقهاء بعدم جواز الهدنة لأكثر من عشر سنوات:

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الهدنة لا يجوز أن تزيد على عشر سنوات، اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن من المقرَّر: أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدلُّ بذاته على الوجوب، وإنما يدلُّ على مجرَّد المشروعية، ولا سيما في باب السياسة الشرعية، التي تقوم أول ما تقوم على مبدأ تحقيق المصلحة، ومنع المفسدة. وإذا تعارضت المصالح بعضها مع بعض، أو المفاسد بعضها مع بعض، أو المصالح والمفاسد جميعا بعضها مع بعض: كان الواجب أن نُعمل (فقه الموازنات) بينها. وهو يقوم على جملة معايير تجب رعايتها. مثل: تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وارتكاب أخفِّ الضررين لتفادي أكبرهما، وتحمُّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، واعتبار درء المفسدة مقدَّما على جلب المصلحة، والتضحية بالمصلحة الشكلية من أجل المصلحة الجوهرية، والمصلحة الطارئة لتحصيل المصلحة الدائمة، والمصلحة التي تخصُّ عددا صغيرا من الناس، من أجل المصلحة التي تُهِم الجمهور الأكبر... إلخ [4].

ولهذا رأينا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يضحِّي ببعض المصالح التي لم يَرَها جوهرية، فقبل أن يكتب (باسمك اللهم) بدل (بسم الله الرحمن الرحيم)، وقبل أن يحذف كلمة (رسول الله) ويكتب بدلها (محمد بن عبد الله) [5]. وبهذا علَّم الأمَّة كيف توازن بين المصالح إذا تعارضت.

• المصالحة ببعض ما فيه ضيم علي المسلمين:

بل ذهب الإمام ابن القيم: أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين: جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شرٌّ منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما [6]، وهذا ذكره استنباطا من فقه صلح الحديبية وما فيه من فوائد فقهية.

• جواز الهدنة لأكثر من عشر سنوات وترجيحي لهذا القول:

وإذا كان بعض الفقهاء لا يجيزون المعاهدة لأكثر من عشر سنين، فهناك مَن أجاز الهدنة لما هو أكثر من ذلك، وِفْق مصلحة المسلمين، وهذا ما أرجِّحه.

ومما يؤكِّد ذلك: ما أمر به القرآن من وجوب الاستجابة لدعوة الصلح والسلم، إذا جنح لها الأعداء ومالوا إليها.

وفي هذا يقول الله تعالى في سورة الأنفال بعد أن أمر المسلمين بإعداد ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، ليرهبوا به عدو الله وعدوهم، بعد هذا يقول: {وإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * وإن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالْمُؤْمِنِينَ * وأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:61-63[

فهذا البيان الصريح من الله تبارك وتعالى الذي أمر المسلمين في هذه السورة بقتال المشركين حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلُّه لله، هو نفسه الذي أمر المسلمين أن يجنحوا للسلم إذا جنح لها الذين يقاتلونهم. وفي هذا أوضح دلالة على الرغبة الحقيقية لهذا الدين في السلام مع المخالفين إذا جنحوا هم حقيقة للسلام، وظهرت أمارات هذه الرغبة أو الميل للسلام.

ومن الواضح هنا: أن القرآن يحرِّض على قَبول الصلح من الخصوم، وإن كانوا في حقيقة أمرهم يريدون الخداع، فعلينا أن نعاملهم بالظاهر، ونَدَع إلى الله السرائر، ونفترض حسن النية في خصومنا، مع وجوب اليقظة والحذر منا.

• آية الجنوح للسلم محكمة غير منسوخة:

ولا يفوتني أن أذكر هنا: أن هناك من المفسرين ومن الفقهاء مَن قال: إن هذه الآية أو الآيات التي تحضُّ على قَبول المسالمة والمصالحة إذا جاءت من الأعداء منسوخة، وأن الذي نسخها (آية السيف) كما زعموا.

وأنا أَدَعُ ردَّ هذه الدعوى - دعوى النسخ بآية السيف - للمحقِّقين من أعلام علماء الأمة السابقين، فقولهم أبلغ من قولي، ولن يتَّهموا بأنهم (مهزومون عقليا ونفسيا أمام ضغط الواقع الحاضر، وضغط الاستشراق الماكر(

• رد الحافظ ابن كثير علي دعوي النسخ :

يقول الإمام المفسِّر المحدِّث الفقيه المؤرِّخ ابن كثير الدمشقي في تفسيره لهذه الآيات من سورة الأنفال في كتابه (تفسير القرآن العظيم): (يقول الله تعالى: إذا خِفْت من قوم خيانة، فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمروا على حربك ومنابذتك، فقاتلهم {وإن جَنَحُوا} أي مالوا {لِلسَّلْمِ}: أي المسالمة والمصالحة والمهادنة، {فَاجْنَحْ لَهَا} أي فمِل إليها، واقبل منهم ذلك، ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية: الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسع سنين، أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأُخَر.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المُقَدَّمي، حدثني فُضيل بن سليمان يعني النميري، حدثنا محمد بن أبي يحيى، عن إياس بن عمرو الأسلمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكون اختلاف أمر، فإن استطعت أن يكون السلم، فافعل" [7[

وقال مجاهد: نزلت في بني قريظه، قال ابن كثير: وهذا فيه نظر، لأن السياق كلَّه في وقعة بدر، وذكرها مكتنف لهذا كلِّه.

وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ...} [التوبة:29] الآية. قال ابن كثير: وفيه نظر أيضا، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنته، كما دلَّت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم.

وقوله: {وتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}: أي صالحهم وتوكَّل على الله، فإن الله كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة، ليتقووا ويستعدوا، {فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}: أي كافيك وحده، ثم ذكر نعمته عليه بما أيَّده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالْمُؤْمِنِينَ * وأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63،62]: أي جمعهم على الإيمان بك، وعلى طاعتك ومناصرتك ومؤازرتك، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، بين الأوس والخزرج، وأمور يلزم منها التسلسل في الشرِّ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]) [8]انتهى.

تفسير الفخر الرازي لهذه الآية:

وقال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {وإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا …} [الأنفال:61[:

(واعلم أنه لما بيَّن ما يرهب به العدو من القوة والاستظهار، بيَّن بعده أنهم عند الإرهاب إذا جنحوا أي مالوا إلى الصلح، فالحكم قَبول الصلح. قال النضر: جنح الرجل إلى فلان، وأجنح له: إذا تابعه وخضع له، والمعنى: إن مالوا إلى الصلح، فمِل إليه. وأنَّث الهاء في {لَهَا}، لأنه قصد بها قصد الفعلة والجنحة، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110، 119]، أراد من بعد فعلتهم، قال صاحب الكشاف: السلم تؤنَّث تأنيث نقيضها، وهي الحرب. قال الشاعر:

السلم تأخذ منها ما رضيتَ به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جُرَع [9[

وقرأ أبو بكر عن عاصم للسلم بكسر السين، والباقون بالفتح، وهما لغتان.

وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ...} [التوبة:29[

وقال بعضهم: الآية غير منسوخة. لكنها تضمَّنت الأمر بالصلح إذا كان الصلاح معه ...) [10]. وهذا هو الصواب، فالنسخ لا يثبت بمجرَّد الاحتمال.

• جواز الصلح مع العدو بطلب المسلمين:

وإذا كان بعض الفقهاء يقول بجواز الصلح والمسالمة أو الموادعة والمعاهدة، مع الكفار إذا طلبوا هم الصلح من المسلمين، وجنحوا للسلم، كما قال القرآن، فإن الإمام ابن القيم يذكر في فقه صلح الحديبية وفوائده الشرعية والفقهية: أن منها جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو، إذا رأى أن المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقَّف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم [11] انتهى.

ويجوز أن يكون الصلح - أو العهد المؤقَّت - مع غير المسلمين على مال يدفعونه للمسلمين، يتَّفق عليه الطرفان، كما يجوز أن يكون على غير مال.

وفي صلح الحديبية كان العقد بين المسلمين والمشركين على غير مال من أيٍّ من الطرفين، ولكن على شروط معروفة يجب أن تُرعى.

وفي معاهدات أخرى، مثل اتفاقية أكيدر دومة وغيرها، كان الصلح على مال يبذل للمسلمين [12[

وأحيانا ما يكون عقد المعاهدة بين المسلمين وغيرهم، بدون حرب ولا مقدِّماتها، بل رغبة في التواصل وإقرار السلام، كما رأينا في اتفاقية الرسول والمسلمين مع اليهود، بعد الهجرة إلى المدينة، وهي التي سجَّلتها (الصحيفة) الشهيرة، وحدَّدت الحقوق والواجبات في السلم والحرب، من التناصر، والدفاع المشترك، وخصوصا عند إغارة عدو على المدينة [13[

• وجوب الوفاء بالمعاهدات:

وهذه المعاهدات كلُّها، بمال أو بغير مال، قبل الحرب أو بعد الحرب، مع الكتابيين أو الوثنيين: يجب الوفاء بها وبمقتضياتها. فهذا ما يأمر به الإسلام ويشدِّد فيه، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34]، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل:92،91[

يقول العلاَّمة رشيد رضا في تفسير الآية: والمعنى: لا تكونوا في نقض عهودكم والعود إلى تجديدها كالمرأة الحمقاء التي نقضت غزلها من بعد قوة إبرامه، نقض أنكاث (وهو جمع نكث بالكسر): ما نقض ليُغزَل مرة أخرى، حال كونكم تتَّخذون عهودكم دَخَلا بينكم (والدَّخَل: الفساد والغش الخفي الذي يدخل في الشيء وما هو منه)، لأجل أن تكون أمَّة أربى وأزيد رجالا، وأكثر ربحا ومالا، وأقوى أسنَّة ونصالا من أمَّة أخرى.

قال الشيخ رشيد: والمراد: أن معاهدات الصلح والاتفاق بين الأمم يجب أن يقصد بها الإصلاح والعدل والمساواة، فتبنى على الإخلاص، دون الدَّخَل والدَّغَل، الذي يقصد به أن تكون أمَّة هي أربى نفعا، وأكثر عددا وجمعا من الأمَّة الأخرى. وهو ما عليه هذه الدول (يعني: دول الإفرنج) في جميع معاهداتها [14] انتهى.

حتى إن القرآن ليجعل العهد والميثاق بين المسلمين وغير المسلمين: أقوى من الدين وحده إذا بقي المسلم في دار الحرب، بحيث إذا استنصر المسلم المقيم في دار الحرب المسلمين وجب عليهم نصره في الدين، إلا على الذين عاهدوا الدولة الإسلامية، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الأنفال:72[

وهذا يدلُّ على أن العهد بين المسلمين وغيرهم: عقد لازم لا يجوز نقضه من أحد الطرفين، لأنه نوع من الغدر، الذي هو من صفات المشركين والمنافقين، كما قال تعالى يذمُّ الكفار: {إن شر الدواب الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال:55، 56[

وبيَّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم صفات المنافق، فكان منها: "وإذا عاهد غدر" [15].

• إجازة بعض الفقهاء نبذ الإمام للعهد إذا راي مصلحة في ذلك:

وأجاز بعض الفقهاء لإمام المسلمين أن ينقضه إذا رأى في ذلك مصلحة للمسلمين، على أن ينبذ إليهم على سواء.

وبعضهم أجاز ذلك لإمام المسلمين إذا نصَّ في المعاهدة على ذلك.

• ردُّ ابن قدامة علي هذا القول:

وقال ابن قدامة في المغني: لا يجوز أن يُشترط نقضها (أي الهدنة) لمَن يشاء منهما؛ لأنه يفضي إلى ضدِّ المقصود منها، وإن شرط لنفسه ذلك دونهم: لم يجز أيضا؛ لأنه ينافي مقتضى العقد: فلم يصح ... وقال القاضي والشافعي: يصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل خيبر على أن يقرَّهم ما أقرَّهم الله تعالى ... قال ابن قدامة: ولا يصح هذا، فانه عقد لازم، فلا يجوز اشتراط نقضه، كسائر العقود اللازمة. ولم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل خيبر هدنة، فإنه فتحها عَنوة، وانما ساقاهم وقال لهم ذلك. وهذا يدلُّ على جواز المساقاة، وليس هذا بهدنة اتفاقا ... وقد وافقوا الجماعة في أنه لو شرط في عقد الهدنة: إني أقرُّكم ما أقرَّكم الله: لم يصح. فكيف يصحُّ منهم الاحتجاج به، مع إجماعهم مع غيرهم على أنه لا يجوز اشتراطه [16] انتهى.


: الأوسمة



التالي
السيرة النبوية و الأخذ بالأغلبية
السابق
تطرف خفي

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع