البحث

التفاصيل

الشيخ عبد الله الأنصاري

الشيخ عبد الله الأنصاري

العالم الغيور

شعلة الدعوة والحركة والنشاط

(1333- 1410هـ = 1914 - 1989م)

 

بداية لقائي بالشيخ

لازلت أذكر ذلك اليوم وتلك الساعة, وكأنها كانت بالأمس, كان ذلك اليوم هو الرابع من شهر ربيع الآخر سنة 1381هـ, الذي يوافق الخامس عشر من شهر أيلول (سبتمبر) سنة 1961م, وهو أول يوم أتسلم فيه عملي فور خروجي من مصر, في حكومة قطر, وفي وزارة المعارف مديرًا للمعهد الديني الثانوي.

كان المعهد يحتل مبنى صغيرًا بقينا فيه سنة واحدة, وقد دخل مكانه في مبنى رئاسة المحاكم الشرعية الذي تركته, وأصبح الآن مبنى (صندوق الزكاة), ولم أكد أجلس على مقعدي ويمضي علي أقل من ساعة, حتى دخل علي شيخ بشوش الوجه, باسم الثغر, تبدو عليه الهمة والنشاط, ذو لحية سوداء وعمامة بيضاء, وهي عمامة متميزة, ليست كعمامة علماء مصر ولا مشايخ الشام, وقد سلم علي, وصافحني بحرارة وقال: مرحبًا بك في بلدك الثاني, لقد عرفتك قبل أن تحضر, وسمعنا بك قبل أن نراك, والشاعر يقول:

... ... ... والأذن تعشق قبل العين أحيانًا

أخوك عبد الله بن إبراهيم الأنصاري, أحد طلبة العلم هنا, ومدير مدرسة صلاح الدين الأيوبي.

قلت له رادًا التحية بمثلها أو بأحسن منها: أهلًا بك يا أخي ومرحبًا, لقد سعدت بزيارتك, وأنت أول زائر لي في مكتبي, وأنعم بك من زائر, أما سماعك بي قبل أن تراني فأخشى أن ينطبق المثل العربي الشهير: ((تسمع بالمعيدي خير من أن تراه))!.

قال الشيخ باسمًا: بل صدّق الخُبر الخَبر, وما مثلنا إلا كما قال الشاعر قديمًا:

كانت محادثة الركبان تخبرنا عن جعفر بن رباح أطيب الخبر

حتى التقينا فما والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري

وكانت جلسة علمية وأدبية لطيفة, تبادلنا فيها الأحاديث وتناشدنا الأشعار, وقال الشيخ قبل أن يودعني: أرجو أن تعتبر هذا البلد بلدك, وأن تعتبرنا لك أهلًا وإخوانًا, وأن تعتبر بيوتنا بيوتًا لك, ولا تترد في طلب شيء تحتاج إليه, فصدورنا ودورنا لك مفتوحة, وأرجو أن تشرف بيتكم الصغير في أول فرصة فشكرت له هذا الموقف الكريم, ووعدته بالزيارة بمجرد أن أستقر وتترتب الأمور, شعرت بعد هذه الزيارة أن هذا الرجل الذي ألقاه لأول مرة من أهل الخير, ومن حملة العلم, ودعاة الدين, الذين لا يتاجرون به وتوسمت فيه الصدق, وقد صدقت الأيام ظني فيه ولله الحمد.

وقديمًا قال الشاعر:

لا تسأل المرء عن خلائقه في وجهه شاهد من الخبر

كان الشيخ الأنصاري هو الرجل الثاني الذي أتعرف عليه من علماء قطر, بعد أن تعرفت على الشيخ عبد الله بن تركي, الذي تعرفت عليه في القاهرة, ومن أكثر من سنة, حين جاء إلى مصر للتعاقد مع علماء الأزهر للتدريس العلوم الشرعية في قطر, وكان هو مفتش العلوم الشرعية, وكان أول من سعى لجلب العلماء من مصر, وكان يفخر بذلك ويتعز به.

أول زيارة للشيخ في مجلسه

وما هي إلا أيام قليلة حتى زرت الشيخ عبد الله في بيته بين المغرب والعشاء, أعنى بيته القديم, الذين كان قريبًا من مسجد الشيخ غانم, وكان مجلسه مجلسًا عربيًا نجلس فيه على الأرض المفروشة, متكئين على الوسائد, وكان مجلس الشيخ يتميز بأنه مجلس ومكتبة في الوقت ذاته, ففي جدرانه الأربعة حفرت مكتبات في أصل البناية هيئت تهيئة حسنة, وملئت رفوفها بالكتب المصنفة, على العلوم الشعرية واللغوية والأدبية, من التفاسير, وعلوم القرآن, والحديث وعلومه, والفقه على مختلف مذاهبه, وأصول الفقه, والعقيدة, والتاريخ, والنحو, والصرف, والأدب, والبلاغة.

ومن حسن الطالع: أني حين زرت الشيخ وجدته يقرأ مع بعض جلسائه في بعض كتب الحديث, وطلب مني الشيخ أن أعلق على الحديث الذي قرئ, ففتح الله علي وقلت كلامًا مرتجلًا, بغير إعداد ولا ترتيب, وكان الشيخ يهتز طربًا, كلما سمعني أشرح وأفصل, فدلني هذا على إخلاص الرجل وتجرده, فإن بعض ذوي النفوس المريضة, لا يسره أن يظهر عالم غيره بل ينغص ذلك عليه, ويسوْءُه. وجاءت صلاة العشاء فأبى الشيخ إلا أن يقدمني للإمامة فزاده ذلك عندي رفعةً وعلوًا.

توثق العلاقات مع الشيخ

وتوثقت العلاقات بيني وبين الشيخ, وتعددت الزيارات, واللقاءات والجلسات العلمية, والندوات القرآنية, التي كان الشيخ يعقدها مساء كل خميس في المسجد المجاورة لمنزله, وكان يحرص أن أختمها بدرس أو خواطر قرآنية كلما حضرت, وكلما أقام ندوة أو احتفالًا بمناسبة من المناسبات, حرص علي أن أكون في مقدمة المتحدثين.

سلفي سمح على منهاج النبوة

كان الشيخ الأنصاري شعلة من النشاط والحركة, والغيرة الدينية, وكان رضيًا محببًا, إلى كل من عرفه من الناس, كان سر ذلك يرجع إلى سماحة نفسه, وسعة صدره, وحسن خلقه, ورقة طبعه, فهو رجل سهل سمح موطأ الأكناف, كريم النفس, مبسوط اليد, يألف ويؤلف, يُحِب ويُحَب, يرحم الصغير, ويوقر الكبير, ويقري الضيف, ويبذل للمحتاجين, ويعين على نوائب الدهر,  تقوم حياته على المياسرة لا المعاسرة, والتسهيل لا التعقيد, والتسامح لا التعصب, والمرونة لا الجمود, ظهر هذا في علمه وفقهه, كما ظهر في تعامله وسلوكه, فهو يقتبس من المنهج النبوي: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" متفق عليه عن أنس. كما اقتبس من الخلق النبوي: "أنه ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما, ما لم يكن إثما".

ومن خلق السماحة لدي الشيخ أن كان قريبًا جدًا للذين يعملون معه, ما كانوا يشعرون أنهم مع رئيس يستعلي عليهم, بل مع أب يحنو عليهم, ولا غرو إن استمر الذين عملوا مع سنين بل عقودًا, لم يتغير عليهم, ولم يتغيروا عليه, مثل الأستاذ محمد الشافعي, الذي عمل مساعدًا له في إدارة شؤون القرى, ثم انتقل إلى إدارة الشؤون الدينية, فإحياء التراث الإسلامي.

وكذلك الأخ فوزي سلامة والإخوة آل عبّارة, كل هؤلاء ظلوا مع الشيخ, وظل هو وفيًا لهم مدافعًا عنهم, في بعض الأحيان, أمام بعض الأقاويل التي تظهر بين حين وآخر, عن فلان أو علان, من الناس.

دلائل السماحة والسهولة عند الشيخ

عرفت الشيخ شافعي المذهب, ولكنه لم يكن متعصبًا لمذهبه, ولا يكاد يعرف أحد له مذهبًا, فهو يحب الأئمة جميعًا, ويقدرهم جميعًا, ويحترم المذاهب كلها, ويأخذ منها ما ترجح دليله لديه, ولا يمنع العامة من تقليد أي مذهب رضوه منها, ولا يطعن في أحد من العلماء الأموات, أو الأحياء, بل كان عف اللسان, ولا يحب أن يذكر أحد بسوء, وطريقته أن يضيء الشموع ولا يلعن الظلام.

وعرفت الشيخ ذا وجدان روحي عميق, وحسن إيماني رقيق, تغلب الدموع عينيه, وترفرف العبرات على وجنتيه, عندما يعظ أو يخطب, فيأخذه الوجد أو يغلي به الحماس, ولكنه لم يكن من الخرافيين, الذين يتبعون ترهات الطرق الصوفية, أو الذين يتقبلون البدع ويحاولون تبريرها, أو الذين يروجون الشكليات في العقيدة, بصورة من الصور.

كان مسئولا في فترة طويلة في وزارة التربية والتعليم – في عهد الشيخ قاسم ابن حمد رحمه الله- عن إدارة شؤون القرى, وهي إدارة لها مشكلاتها وعقدها وطبيعتها الخاصة, وكنت إذا زرته في مكتبه أجده مزدحمًا بأصحاب المطالب والحاجات من أهل القرى والبوادي, وكنت أعجب من صبره عليهم, مع سهولة وطلاقة وجه لا يُلقاها إلا الذين صبروا ولا يُلقاها إذا ذو حظ عظيم.

ووكل إلى الشيخ إدارة الشؤون الدينية بالوزارة, بوصفها إحدى الإدارات الأربع في عهد إدارة الدكتور كمال ناجي, وكنت بحكم إدارتي للمعهد الديني أتردد عليه, وحدي حينًا, ومع فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار أحيانًا, وكان هو يتردد على المعهد, ولا أذكر أني اصطدمت به أو اصطدم بي  يومًا من الأيام, وما ذلك إلا لخلقه السمح, وصدره الرحب, والحب الكبير المتبادل بيننا, والثقة التي يوليها كل منا لأخيه.

الرفيق الكريم في السفر

ولقد عرفت الشيخ معرفة أعمق عن طريق الأسفار التي جمعتنا أكثر من مرة, لقد قيل: إنما سمي السفر سفرًا, لأنه يسفر عن أخلاق الرجال, ويكشف عن معادنهم, فقد سافرنا معًا في رحلة طويلة, إلى الشرق الأقصى بأمر من أمير البلاد, الشيخ خليفة بن حمد – حفظه الله - وذلك سنة 1974م وكان يرافقنا الأستاذ سيد أبو يوسف, المسؤول عن العلاقات الثقافية, بوزارة التربية والتعليم, لمعرفته الجيدة باللغة الإنكليزية – التي لا يتقنها الشيخ ولا أنا – وهو رجل على دين وخلق, كان نعم الرفيق والمعين لنا, وكانت رحلة ممتعة على طولها ومشقتها, فقد زرنا فيها ماليزيا, وأندونيسية, وسنغافورة, وهونج كونج, والفلبين, وكورية, واليابان, وقد اهتمت حكومة الفلبين بزيارتنا ووضعت تحت أيدينا طائرة خاصة, نقلتنا إلى جنوب الفلبين, وكانت أيامنا في الفلبين ثرية وخصبة, وخصوصًا في مدينة (مراوي), وقد زرنا جامعة (ماندناو), الرسمية بها ومعهد الملك فيصل للدراسات الإسلامية, والجامعة الإسلامية الأهلية, التي أسسها المجاهد المعروف الدكتور (أحمد الونتو) – رحمه الله - مؤسس  جمعية أنصار الإسلام, وجمعية إقامة الإسلام التي أسسها الشيخ أحمد بشير – رحمه الله - ومعهدها العربي الإسلامي, وعدد من المدارس العربية الكثيرة المنتشرة في تلك البقعة, وتضم البنين والبنات وتعلمهم اللغة العربية والإسلام, والتي كانت زيارتنا لكل منها (عرسًا) للمدرسة, ومدرسيها, وطلابها, وطالباتها.

وكان الشيخ الأنصاري يحمل معه مبالغ من الدولارات, بعضها من الأمير – حفظه الله -, وبعضها من أهل الخير, من رجال البلاد, وبعضها من ماله الخاص,ذ

 فكان يعطي لهذه المدارس والمؤسسات والجمعيات ما يساعدها على القيام برسالتها, وشق طريقها وسط الصعاب والعقبات, وقد حاولنا أن يضم تلك المدارس الكثيرة اتحاد أو رابطة يجمع شتاتها, ويطور مضمونها وشكلها, ويأخذ هو المعونات ويتولى توزيعها بالقسطاس المستقيم, وكانت من التوصيات التي أكدناها قبل أن نغادرهم.

وسافرت معه بعد ذلك إلى الرياض, وإلى باكستان, والهند وإلى القاهرة, وإلى الكويت وإلى البحرين, وإلى مكة المكرمة في الحج إلى بيت الله الحرام, وكان هو رئيسًا لبعثة الحج, فكان هو دائمًا النبع الثري, والمعين السخي, والمعدن الأصيل, الذي لا يضيق برفيق, ولا يتبرم بصديق, ولا تشعر معه بضيق, وإن طال به الطريق.

السفر معه روح وريحان, والجلوس معه حب وإيمان, وذكر وقرآن.

جهود الشيخ في المؤتمر العالمي الثالث للسنة والسيرة

وعندما تبنت دولة قطر المؤتمر العالمي الثالث للسير النبوية, وجعلته مقدمة لاحتفال الأمة الإسلامية بالقرن الجديد, القرن الخامس عشر الهجري, تعاونا معًا في اللجنة التحضيرية – التي رأسها الشيخ – والتي أعدت العدة لاستضافة هذا المؤتمر الكبير, واستجاب الشيخ لما اقترحناه: أن نجعله مؤتمرًا للسنة والسيرة معًا, كما استجاب لكل من اقترحناه عليه من أسماء للاستعانة بها في إنضاج الموضوع, وفي ترشيح الأسماء سواء بالكتابة إليهم أم باستحضارهم, إذا ساعدتهم ظروفهم مثل: الشيخ أبي الحسن الندوي, والدكتور عبد العزيز كامل – رحمهما الله-, والدكتور عز الدين إبراهيم حفظه الله, وبذل الشيخ جهودًا مضنية تذكر فتشكر, في الإعداد والترتيب وتذليل الصعاب, وجاء المؤتمر بحمد الله رافعًا للرأس لائقًا بموضوعه, وبالمناسبة التي عقد فيها, وتوج ذلك بإجماع الحاضرين, من أقطار العالم الإسلامي ومن الجاليات الإسلامية خارجه, على اخيتار الشيخ الأنصاري رئيسًا للمؤتمر, الذي أصدر توصيات طيبة, نشرت في كتيب خاص, وصدرت بحوثه في سبعة مجلدات بإشراف الشيخ.

إحياء التراث

وتولى الشيخ (إدارة الإحياء التراث الإسلامي), فاستطاع أن ينشر من خلالها عددًا غير قليل من كتب التراث النافعة, كثير منها يطبع لأول مرة, بعضها في التفسير, وبعضها في الحديث, وبعضها في الفقه, وبعضها في العقيدة, وبعضها في السلوك, وبعضها في التاريخ, وبعضها في الأدب واللغة, وبعضها في معارف متنوعة.

أكثرها على نفقة الدولة, وكثير منها على نفقة أمير البلاد.

وقد وصلت هذه الكتب إلى بلاد إسلامية شتى, وانتفع بها الكثيرون من أهل العلم وطلابه, وكثيرًا ما كتب لها المقدمات بقلمه, مختارًا لنفسه هذا اللقب (خادم العلم), وما أجله من مخدوم, وما أرفعها من مهنة! وبهذا واصل الشيخ ما بدأته دولة قطر, واشتهرت به من نشر العلم ومصادر التراث, منذ عهد الشيخ (علي بن عبد الله) –رحمه الله - إلى عهد الشيخ خليفة ابن حمد حفظه الله.

ولقد اعترض بعض الناس على بعض ما نشر من كتب, وربما كنت من هؤلاء, ولكن طبيعة الشيخ السهلة السمحة هي التي أتاحت نشر هذه الكتب, وجعلته لا يدقق فيها كما ينبغي, ويقبلها ممن عرضها عليه ثقة منه بهم وبحسن اختيارهم, وهو على كل حال بشر غير معصوم لم يدع العصمة لنفسه, ولا ادعاها له أحد من محبيه, وحسبه أن اجتهد ما استطاع, فإن أصاب فله أجران, وإن أخطأ فلن يحرم من أجر واحد, ما أن الغالب نشرته إدارة إحياء التراث هو النافع المفيد, ولله الفضل والمنة, وقد قال علماؤنا : للأكثر حكم الكل.

وعندما دعوت إلى مقاومة الحملة التنصيرية الكبرى التي تهدف إلى تنصير المسلمين في العالم كما قرر مؤتمر (كولورادو) الشهير سنة 1987م, وناديت بإنشاء الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية في الكويت: كان الشيخ من أوائل المستجيبين لهذا النداء والمشجعين له, والساعين في ترويجه, فلا غرو إن اختير من بين الأعضاء المؤسسين, كما اختير عضوًا في مجلس إدارة الهيئة, وظل به إلى أن لقي ربه, وكان أحد أعضاء اللجنة التي كلفت لقاء أمراء الخليج والحديث إليهم عن الهيئة وقد لقينا معًا, وبصحبة الأخوين الكريمين: الشيخ يوسف الحجي والشيخ عبد الله المطوع: أمراء الكويت وقطر والبحرين.

وكثيرًا ما كان الشيخ يجمعنا في بيته وفي مكتبته الجديدة الأنيقة الحافلة, التي حدثها وطورها شكلًا ومبنًى, ومضمونًا ومعنًى, فجعل لها مبنى مستقلًا من طابقين, وزودها بالكتب المتنوعة في شتى العلوم الدينية والأدبية والإنسانية لنتدارس القضايا الإسلامية الحية وموقفنا منها, وكان يجمع الأعضاء المؤسسين للهيئة الخيرية في قطر: فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار, والأستاذ عبد العزيز عبد الله تركي, والأستاذ عبد الرحمن عبد الله آل محمود, والدكتور حسن المعايرجي, والأستاذ خليل حمد, والفقير إليه تعالى, وذلك للبحث في تنشيط عمل الهيئة, وجمع التبرعات لها, وكثيرًا ما ذهبنا معًا لزيارة بعض الوجهاء من أهل الخير لهذا الهدف, أمثال الشيخ خالد بن حمد آل ثاني, والشيخ جاسم بن علي آل ثاني, في أم قرن, وشيوخ الوكير من آل عبد الرحمن آل ثاني, والزعيم محمد العطية, والشيخ قاسم درويش فخرو, والسيد عبد الله عبد الغني, وإخوانه, وغيرهم من المعنيين في كل مشروع خيري, وما أكثرهم في قطر.

وكان الشيخ عضوًا في أكثر من هيئة ومؤسسة خيرية واجتماعية, فقد كان عضوًا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي, وكان على صلة بكثير من الجمعيات والمؤسسات والجامعات الإسلامية في الهند وباكستان والفلبين وغيرها من بلدان آسية وإفريقية, ولا عجب أن تجد لديه إذا زرته في مكتبه بإحياء التراث أو في مجلسه في داره العامرة: زوارًا من أنحاء العالم الإسلامي وفدوا إليه ينشدون نجدته ويطلبون معاونته في نصرة قضاياهم وفي حل مشكلاتهم, وتنشد إذا رأيتهم قول الشاعر:

يزدحم القصاد في دارة والمنهل العذب كثير الزحام

لقد كان من خصائص الشيخ الأنصاري: أنه رجل جلد نشيط قوي البنية, مفتول الذراعين, نفعته في ذلك نشأته في مهنة الغوص, وفي رحاب البحر, وقد كان ماهرًا في السباحة والغوص, ورأى أصحابه من ذلك ما يبهر الأبصار ويدهش العقول, حتى غطس مرة أمام عدد من إخوانه من رجال التربية تحت الماء لعدة دقائق, وأشهد لقد حضرت مرة معه ليلة عيد الأضحى في موسم الحج, بعد أن مررنا بمزدلفة, وصلينا بها المغرب والعشاء, وبقينا حتى منتصف الليل, ثم ذهبنا إلى منى, ورمينا جمرة العقبة, ثم نزلنا إلى مكة لنطوف بالبيت طواف الإفاضة, ثم نسعى بين الصفا والمروة, والشيخ يتقدمنا جميعًا, ويسبقنا وأنا أصغر منه سنا, بل فيها بعض الشباب الذين لم يكونوا ليلحقوه في نشاطه وسرعته.

ومن خصائص الأنصاري: أنه رجل مقدام لا يتهيب العواقب ولا يتخوف النتائج, ولا يحسب الحسابات التي يحسبها بعض الناس, إذا أرادوا أمرًا من الأمور, فهم يقدمون رجلًا ويؤخرون أخرى, وربما أخذ ذلك عليه بعض الناس, ولكن الرجل كان متوكلًا على الله تعالى, ولم يخيب الله تعالى رجاءه, فشرح له صدره ويسر له أمره, وحل له العقد التي يجدها غيره {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].

ومن خصائص الشيخ

أنه رجل محبوب, يألف الناس ويألفه الناس, وما ذلك إلا لما ذكرناه من دماثة خلقه, وسماحة طبعه, وسلاسة معاملته, فهو ممن يشمله الحديث الشريف: "رحم الله امرءًا سمحًا إذا باع, سمحًا إذا اشترى, سمحًا إذا قضى, سمحًا إذا اقتضى"  رواه البخاري عن جابر, وقد كان الشيخ – كما يشهد له عارفوه ومعايشوه – سمحًا في كل شؤون حياته.

ولهذا يصعب عليك أن تختلف معه, وإذ اختلفت معه يومًا في أري أو قضية, يصعب عليك أن تشتد في خلافك معه, لأنك لا تجد هذه الفرصة فهو يجبرك على أن تتسامح معه, كما يتسامح هو معك.

وأحسب أنني لم أختلف معه في قضايا العلم إلا في القليل من الأمور, منها: موقفه من صعود الإنسان إلى القمر, واستبعاده هذا الأمر, وهو موقف غريب من مثله, ولكنه لم يلح على هذا الأمر ولم يركز عليه, وهذا لخلق السهولة عنده.

ومن ذلك: موقفه الشهير في رفضه استكمال شهر رمضان في قطر, موافقة للمملكة العربية السعودية, في إثبات دخول شوال وعيد الفطر, بعد ثمانية وعشرين يومًا من رمضان, وإصرار الشيخ على إعلان الفطر وصلاة العيد في مسجده, مخالفًا ما قضت به السلطة الشرعية في البلاد, وقد خرج الشيخ عن طبيعته في هذه القضية, وتشدد في ذلك واعتبر الصيام محرمًا في ذلك اليوم!.

هذا هو الموقف الوحيد الغريب من مواقف الشيخ, فلم يكن الأمر يستحق هذا التصلب, وكم مرة قبل هذه, خالفت دولة قطر المملكة, وأتمت الشهر ثلاثين, ولم يعترض الشيخ – رحمه الله - فما له يعترض هذه المرة, مع أن رمضان هنا لم يمض منه إلا ثمانية وعشرون يومًا, وقد رفضت مصر وغيرها من الأقطار موافقة السعودية, ومن المقرر في هذا القضايا الخلافية أن حكم الحاكم فيها يرفع الخلاف, ولهذا أرى أننا إذا لم نستطع أن نصل إلى وحدة المسلمين في مثل هذه الشعائر, فلا أقل من أن نحرص على وحدة أهل البلد الواحد, بحيث يصومون معًا ويعيّدون معًا.

ولكن هكذا اجتهد الشيخ في هذه المسألة, وهو مأجور على اجتهاده, إن شاء الله.

ومن اللطيف أن نجل الشيخ الأكبر الأستاذ محمد عبد الله الأنصار كتب في الصحف القطرية مخالفًا والده, بأدب, وهذا من الإنصاف الذي ربى الشيخ عليه أبناءه.

وفي يوم من الأيام لا ينسى, هوى النجم, وترجل الفارس, وأغمد السيف, فقد بلغ الكتاب أجله, ولقي الشيخ الحبيب ربه, مشيعًا بخفقات القلوب المحبة, وزفرات الصدور الحزينة, وعبرات الأعين الباكية, ودعوات الألسن المتضرعة, التي تسأل ربها أن يشملها بمغفرته, ورضوانه, وأن يسكنه أعلى جناته, وصلى عليه الألوف وشيعوه إلى مثواه الأخير, راضيًا مرضيًا إن شاء الله. كان لوفاته صدى في بلاد شتى, فقد كان الرجل محبوبًا بحق ممن عرف من الناس, وعسى أن يكون هذا دليل حب الله تعالى له, فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله تعال عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه, فيحبه جبريل, فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء, ثم يوضع القبول له في الأرض".

أجل لقد ودعنا الشيخ الأنصاري, وترك وراءه أبناء من صلبه, أحسن تربيتهم, وأدبهم فأحسن تأديبهم, وأبناء وإخوانًا محبين في أقطار عالم الإسلام, كما ترك آثارًا علمية عني بنشرها, وترك ذكرّا حسنًا وسيرة طيبة, تعطر المجالس, فهو بهذا حي معنا وإن مات, باق بروحه وإن غاب عنا بجسده.

ورحم الله أحمد شوقي حين قال:

دقـات قـلـب المرء قائلة له    إن الحياة دقـائـق وثوان!

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها   فالذكر للإنسان عمـر ثان!

لقد جاء في الصحيح: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم عن أبي هريرة.

وقد ترك الشيخ هذه الثلاثة من ورائه, فجعل عمله فينا ممتدًا, وأثره باقيًا, وسعيه موصولًا.

رحم الله الشيخ عبد الله الأنصاري رحمة واسعة, وتقبل في عباده الصالحين, وجزاه عن دينه وأمته خير ما يجزي به العلماء العاملين, والدعاة الصادقين.


: الأوسمة



التالي
الإعتكاف

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع