البحث

التفاصيل

أثر الصيام في إصلاح الجانب الخُلقي:

الرابط المختصر :

أثر الصيام في إصلاح الجانب الخُلقي:
الصيام من أهم العبادات التي توصِّل المسلم أو المسلمة إلى مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، وتُباعد بينه وبين سفاسفها ويبدو ذلك مما يلي:
1- الصيام هو إمساك المكلَّف بنية عن المطعم والمشرب والجماع والاستمناء والاستقاء من الفجر إلى المغرب، وهذه تجمع الشهوات الغالبة، التي تهوي بالنفس إلى مستنقع الرذيلة، ولذا يقول ابن القيم: المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تركِّز به ما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكِّر بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتُحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يفيدها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها، وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين.. وهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها؛ إيثارًا لمحبة الله ومرضاته.. وله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها من التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها... (6).
2- الصيام يقيم سياجًا قويًّا بين المسلم أو المسلمة، وما حرَّم الله تعالى، فإذا كان قد غلب نفسه، وحرمها من الحلال الطيب في الأصل في وقت معين بنية وعزيمة واستعانة بالله تعالى، فهو لا شك أقدر على الامتناع عن الحرام في كل وقت وحين، وذلك لأن الإنسان بلغ في الحرام نتيجة هوًى مستحكم، ونفس حائرة، وشهوة غالبة، وهذه كلها يهذبها الصوم بهذا الامتناع المتلاحق شهرًا، ثم في التنفُّل به طوال العام.
3- من أجل هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه" (7)، ويدلنا النبي صلى الله عليه وسلم على أثر الصوم في تقويم أخلاق المسلم أو المسلمة في حديث ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإن جهل عليه أحد، فليقل إني امرؤ صائم".
هذا يعني أنني لكوني صائمًا لا يليق بي أن يطيش صوابي ويهرف لساني، ويعلو صوتي، ويقبح كلامي، بل إن الصيام يحبس النفس البشرية عن الاسترسال مع الجهالة، والانطلاق مع شهوات الفرج والبطن، وهذا من أعظم وسائل تهذيب النفس.
4- الصيام يُحرر الإنسان من أسر العادة، فمن اعتاد على الطعام في ساعات مبكرة، أو متأخرة من النهار، واعتاد على الغذاء بعد الظهر بقليل أو كثير، واعتاد أن يشرب المنبهات من الشاي أو القهوة أو غيرهما، حتى إنه ليظن أنه لا يستطيع الاستغناء عن هذه العادات، يأتي صيام رمضان أو النوافل؛ ليقطع هذا الاعتياد تحريرًا للإنسان من أسره، وتكريمًا له، أنه ليس بذاك الذي يهفو إلى مطعم أو مشرب يستولى على ملكاته، ويُخيم على مشاعره، بل يُغيِّر موعد الإفطار؛ ليكون سحورًا قبيل الفجر، ويغيِّر من نهمه على المطعومات والمشروبات طوال اليوم؛ ليكون ذلك بعد المغرب، فيخرج المسلم من ذلك متحررًا من العبودية لأي شيء، إلا لرب العزة سبحانه وتعالى.
5- شفافية الروح في الصيام ذات أثر مباشر في نقاء الأخلاق؛ حيث يكون المسلم أو المسلمة أشبه شيء بملائكة الله تعالى، فيصدر في أموره كلها عن معالي الأمور، يريد أن يتخلَّق بأخلاق ربِّ العزة سبحانه، ويتصف بصفات الملائكة البررة.
6- الصيام يُحرر المسلم أو المسلمة من داء الشحِّ وهو مرض عضال يُهلك أي إنسان، يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (التغابن: من الآية 16)، وفيه يروي مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, واتقوا الشحَّ فإن الشحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"(8)، وروى أحمد بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شر ما في الرجل شحّ هالع، وجبن خالع"(9)، وروى أحمد والترمذي بسندهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة خبٌّ وبخيل، ولا منَّان"(10)، وروى الطبراني بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله جنة عدن بيده ودلى فيها ثمارها، وشقَّ فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل"(11)، روى الترمذي بسند مرسل عن أبي هريرة رضي الله عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السخي قريب من الله قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد عن النار والبخيل بعيد عن الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل"(12)، والصيام يُعالج هذا المرض العضال بوسائل كثيرة، منها ما يلي:
أ- حث المسلم على إفطار الصائمين لحديث سلمان: "من فطَّر صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتقًا لرقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء"، قالوا: يا رسول الله. ليس كلنا يجد ما يفطِّر به الصائم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعطى هذا الثواب من فطَّر صائمًا على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن"(13).
هذا الثوب الجزيل بهذا العطاء القليل يحرِّك في المسلم داعية البذل والجود والسخاء، فإذا كانت نفسه لا تجود بالكثير فبالقليل رويدًا، حتى يجود بالكثير، ولعل شفافية الروح تكون سببًا قويًّا في التخلق بالجود.
ب- في هذا الشهر تصفد أبواب النيران، وتفتح أبواب الجنان، وتغلُّ مردة الشياطين، ويُنادى يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر، ما يساعد المسلم أن يغالب داء الشحِّ والبخل، فينفق ماله وهو في عافية للجود والسخاء.
ج- حبُّ التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يروي البخاري وغيره بسندهم عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل... فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة"(14).
د- صدقة الفطر في رمضان حتى قبيل صلاة العيد من أهم العبادات في رمضان، التي تُعالج داء الشحِّ؛ لأنها فُرضت على الغني والفقير، والكبير والصغير، الرجل والمرأة، الحرِّ والعبد، حتى الوليد يُولد قبل صلاة العيد، فتجب على وليه صدقة الفطر، هذا يشيع عند الجميع روح البذل والعطاء، ولذا روى ابن ماجه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، فمن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات(15).
وروى الإمام أحمد بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الفطر: "صاع من برٍّ أو قمح على كل امرئ صغير أو كبير، حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى، غني أو فقير، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى"(16)، أيُّ سموٍّ أعظم من هذا؟! أن يعطي الغني الفقير، وأن يعطي الفقيرُ الفقيرَ، وأن تتعلق فريضة الزكاة هنا بكل امرئ صغير، أو كبير في الأمة الإسلامية، هذا أعظم أبواب السخاء.
7- الصيام يُعوِّد المسلم على خلق العفة والطهارة، ويحجب عنه هواجس النفس وثورات الشهوات، ولهذا كان الصيام مستحبًّا؛ لكسر الشهوة كما سبق، حتى لا تستعبده شهوة الفرج، وبريق ماء وجهه في السعي وراء المحرمات، وتنتهك عرض العفيفات، فينقلهن إلى دائرة الفحش والرذيلة، أو ينحاز إلى نفسه، ويغرق في بحر الاستمناء، ما يضعف مقاومته لشهوته، ويضاعف آلامه النفسية، ويحرمه من الثقة في نفسه، ولذا ذكر ابن حجر في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء". قال ابن حجر: الأصل في الصوم كسر الشهوة؛ لأن كثرة الطعام والشراب تستدعي طغيان الشهوة، فكان الصوم وجاءً؛ أي قامعًا لشهوة النكاح، ويستدل بهذا الحديث على تحريم الاستمناء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد عند العجز عن الزواج إلى الصوم، الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحًا لكان الإرشاد إليه أسهل(17).
وإذا كان الاستمناء من مفسدات الصوم- لو تعمده رجل أو امرأة أثم- لم يكفه صيام الدهر، وإن صامه قضاء، أمَّا المتزوج فيهذب الإسلام نهمه على شهوة الجماع؛ ليحرر الرجل أو المرأة من أسر شهوة الفرج، فيحول بينهما في طول النهار، ويحرِّم على المعتكف جماع زوجته، ومن جامع في نهار رمضان فهذا لا كفارة له إلا بمضاعفة حرمانه من زوجته شهرين متتابعين في نهار صومه، وإن لم يستطع يطعم ستين مسكينًا كفارة لهذا التعدِّي على حرمة هذا الشهر الكريم، وتغريمًا له على أنه لم يستطع أن يحبس شهوته أو يملك زمام نفسه، وهذا من الوسائل الفعَّالة في ردع ومنع من لم يخش عذاب الله تعالى.
8- إذا كانت عفة المرء الباطنة في فرجه، فإن طهارة اللسان أيضًا من أمارات عفته الظاهرة، ويُعالج الصيام آفات اللسان عند الإنسان، حتى إذا حصَّن فرجه وعفَّ لسانه كان النبي صلي الله عليه وسلم ضامنًا له الجنة، لحديث الإمام البخاري بسنده عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم، أضمن لكم الجنة.."(18)، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يلفت أنظارنا إلى أن من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فالصيام في الحقيقة صيام الجوارح كلها مما يغضب الله تعالى، وكذا يسن في الاعتكاف في رمضان أن يقل الإنسان من الكلام المباح، وهذا أعظم تهذيب لآفات اللسان التي تكبُّ الناس على مناخيرهم في جهنم، فإذا صام الإنسان، ثم أطلق لسانه في أعراض الناس، أو الكذب أو المِراء والجدال المذموم، أو الحلف بالأيمان الباطلة، وغيرها فإن صيامه يكون هباءً منثورًا، وذلك لما رواه أبو داود بسنده عن أنس بن مالك قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بصوم يوم، وقال: "لا يفطرنَّ أحدكم حتى آذن له": فصام الناس حتى إذا أمسوا، فجعل الرجل يجيء، فيقول: يا رسول! الله ظللت صائمًا، فأذن لي فأفطر: فيأذن له الرجل والرجل، حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله، فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين، وإنهما تستحيان أن تأتياك، فآذن لهما فليفطرا، فأعرض عنه ثم عاوده فأعرض عنه، ثم عاوده، فأعرض عنه، ثم عاوده فأعرض عنه، فقال: "إنهما لم تصوما، وكيف من ظل هذا اليوم يأكل لحوم الناس، اذهب فمرهما: إن كانتا صائمتين فليستقيئا"، فرجع إليهما فأخبرهما، فاستقاءتا فقاءت كل واحدة علقة من دم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: "والذي نفسي بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار"(19).
وقد جاء في رواية للإمام أحمد أن إحداهما قاءت دمًا وصديدًا ولحمًا، حتى ملأت نصف القدح، وأن الأخرى قاءت قيئًا ودمًا وصديدًا ولحمًا عبيطًا حتى ملأت القدح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هاتان صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكل من لحوم الناس" (20).
وقد شبَّه صاحب المستخلص في تزكية الأنفس من يصوم عن الحلال، ويرتكب الحرام، كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، ومن يمتنع عن تناول الدواء، ثم يعب من السم القاتل (21).
9- الصيام ينمِّي في المسلم أو المسلمة أعظم أخلاق الإسلام، وهو الحياء، وذلك لما رواه مالك في الموطأ، وابن ماجه في سننه بسندهما عن زيد بن طلحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء" (22)، والصيام من العبادات الخاصة التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى، فبوسع أي إنسان أن يخلو إلى نفسه، فيفعل ما يشاء من طعام وشراب وخلافه، ولكن المسلم يستحي من الله في خلوته أن يفعل ذلك، ولا يزال يستحي من الله حتى يُحقق أمر النبي صلى الله عليه وسلم "استحيوا من الله حق الحياء...." (رواه الترمذي)، فإذا ما صار الحياء له خلقًا، فلن يأتي إلا بكل خير، وهو من أعمدة الإيمان حتى يصير بالإيمان والحياء من أهل الجنة، لما رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار"(23).
10- يعوّد الصيام المسلم على احترام قيمة الوقت، ويربطه دائمًا بطاعة الله تعالى، فلو ظلَّ يأكل لقمة واحدة، أو يسيغ شربةً واحدةً بعد وقت أذان الفجر كان مفطرًا وآثمًا إن تعمَّده، وإن أفطر قبيل المغرب بلحظات أفطر، وصار آثمًا إن تعمَّده، هذا يجعل المسلم يراعي مواعيده بدقة بالغة، لا يستعجل شيئًا قبل أوانه، ولا يؤخِّر شيئًا عن وقته، فالموظف أو العامل لا يتأخر في عمله، بل يتَّقي الله فيه، والطالب لا يؤخِّر مذاكرته حتى تضطرب أعصابه، وينوء بعبء نفسي من كثرة ما تراكم عليه، ولو راعينا الله في أوقاتنا كلها كما نراعيه في العبادات كلها مثل الصلاة لوقتها والزكاة لحولان الحول، وصدقة الفطر حتى قبل صلاة العيد، والصيام من الفجر الصادق إلى مغرب الشمس، والحج أشهر معلومات؛ لكانت الأمة شيئًا آخر غير ما هي عليه اليوم.


: الأوسمة



التالي
الشيخ محمد الغزالي
السابق
أستطيع أن أقول - بمنطق المفكر المسلم الأصيل- :

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع