البحث

التفاصيل

أسباب عودة المسلمين إلى مكَّة بعد هجرتهم الأولى

الرابط المختصر :

من كتاب السِّيرة النَّبويّة للدكتور علي محمّد محمّد الصّلابيّ

الحلقة الثانية والأربعون

أسباب عودة المسلمين إلى مكَّة بعد هجرتهم الأولى

يعزو بعض المؤرِّخين والمفسِّرين عودة المسلمين من الحبشة بعد الهجرة إلى مكَّة لأسطورة راجت كثيراً، واحتلَّت مساحاتٍ واسعةً من كتب المستشرقين، قاصدين بذلك ترويجها، وجعلها حقيقةً واقعةً في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة.

إنَّ الَّذين تعرضوا لذكر تلك الأسطورة ينهجون حيالها مناهج شتَّى؛ فمنهم مَنْ يذكرها، ويسكت عنها، لا ينفيها، ولا يثبتها، ومنهم مَنْ يحاول إثباتها، ومنهم مَنْ يورد الأدلَّة على بطلانها.

  1. قصَّة الغرانيق:

تلك الأسطورة تتلخَّص في أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوماً عند الكعبة، وقرأ سورة النَّجم، حتَّى بلغ قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى﴾ [النجم: 19 20]. قرأ بعدها: «تلك الغرانيق العُلا، وإنَّ شفاعتهنَّ لترجى»، فقال المشركون: ما ذكر الهتنا بخيرٍ قبل اليوم، وقد علمنا أنَّ الله يرزق، ويحيي، ويميت، ولكنَّ الهتنا تشفع عنده، فلـمَّا بلغ السَّجدة سجد، وسجد معه المسلمون، والمشركون كلُّهم، إلا شيخاً من قريش، رفع إلى جبهته كفّاً من حصى، فسجد عليه.

وصَافَى المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفُّوا عن أذى المسلمين، وشاع ذلك حتَّى بلغ مَنْ في الحبشة، فاطمأنُّوا إلى حسن إقامتهم في مكَّة، وممارستهم عباداتهم امنين، فعادوا إلى مكَّة.

تلك خلاصة الأسطورة، والَّذين ذكروا القصَّة - مع اختلاف مواقفهم منها - يقولون: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمَّا قالت قريش: «إمَّا جعلت لالهتنا نصيباً، فنحن معك» كبر عليه ذلك، وجلس في بيته حتَّى أمسى، ثمَّ أتاه جبريل، فقرأ عليه سورة النَّجم، فقال جبريل: أوجئتك بهاتين الكلمتين؟ يقصد «تلك الغرانيق العلا، وإنَّ شفاعتهنَّ لترجى» فحزن الرَّسول صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، وخاف من ربِّه، فأنزل الله عليه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحج: 52]، وحينئذٍ عاد الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلى عيب الهتهم، وتسفيه عقولهم، وعادوا هم كذلك إلى إيذاء المسلمين.

  1. تفنيد القصة الباطلة:

أنكر هذه القصَّة الكثير من علماء الإسلام السَّابقين، والمُحْدَثين، نقلاً، وعقلاً؛ وذلك لأنَّها تتنافى مع عصمة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ؛ بل وتطعن في نبوَّته صلى الله عليه وسلم، كما أنَّها تتهاوى أمام البحث العلميِّ، ومن الأدلة النقليَّة على بطلانها:

أ - أنَّ القرآن الكريم بيَّن بوضوح: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يتقوَّل على الله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة: 44 - 46].

ب - أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قد أخبر أنَّه يحفظ القرآن من أن يُدخل عليه ما ليس منه، أو يُنقص منه شيءٌ، أو يُحرَّف عن مواضعه. قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]. ولو صحَّ: أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم نطق في أثناء قراءته بالكلمتين المذكورتين، لدخل في القرآن ما ليس منه، فلا يكون هناك حفظٌ، وهو مخالفٌ للنَّصِّ.

ج - قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: 99]، وهل هناك بشرٌ أصدق إيماناً، وأشدُّ توكُّلاً على الله من الأنبياء، ولا سيَّما خاتمهم صلى الله عليه وسلم ؟! وقد أقرَّ رئيس الشَّياطين بأنَّه لا سلطان له على عباد الله المخلصين، قال تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82 - 83].

وَمَنْ أحقُّ من الأنبياء بالاصطفاء؟! ومن أشدُّ إخلاصاً منهم لله؟! ونبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم على رأس المصطفين الأخيار، وفي الذِّروة منهم إخلاصاً لله.

وقد ذكر القاضي عياض: أنَّ مَنْ ذكرها من المفسرين، وغيرهم لم يسندها أحدٌ منهم، ولا رفعها إلى صاحبٍ، إلا رواية البزَّار، وقد بيَّن البزَّار: أنَّه لا يعرف من طريقٍ يجوز ذكره سوى ما ذكره، وفيه ما فيه.

ورأى ابن حجر: وما قيل من أنَّ ذلك - السُّجود من المشركين - بسبب إلقاء الشَّيطان في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحَّة له عقلاً، ولا نقلاً.

ورأى ابن كثير: أنه قد ذكر كثيرٌ من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثيرٍ من المهاجرين إلى أرض الحبشة، ظنَّاً منهم: أنَّ مشركي قريش قد أسلموا، ولكنَّها من طرقٍ كلِّها مرسلةٌ، ولم أرها مسندةً من وجهٍ صحيح. والله أعلم.

- وأمَّا بطلان القصَّة من جهة العقل: فقد قام الدَّليل العقليُّ، وأجمعت الأمَّة، على عصمته صلى الله عليه وسلم من مثل هذا؛ إذ لو جاز هذا من الرَّسول صلى الله عليه وسلم لجاز عليه الكذب، والكذب على الرَّسول صلى الله عليه وسلم محالٌ؛ إذ صدور مثل هذه القصَّة عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم محالٌ، ولو قاله عمداً، أو سهواً لم يكن هناك عصمةٌ، وهو مردودٌ، كما أنَّ القصَّة تخالف عقيدة التَّوحيد الَّتي من أجلها بَعَثَ اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم.

- وأمَّا بطلان القصَّة لغويّاً: فلأنَّه لم يرد قطُّ عن العرب أنَّهم وصفوا الهتهم بـ (الغرانيق)، في الشِّعر، ولا في النَّثر، والَّذي تعرفه اللغة أنَّ (الغُرْنُوق) اسم لطائرٍ مائيٍّ أسود، أو أبيض، ومن معانيه: الشَّابُّ الأبيض الجميل، ولا شيء من معانيه اللُّغويَّـة يلائم معنى الالهة والأصنام حتَّى يطلق عليهما في فصيح الكلام؛ الَّذي يُعرَض على أمراء الفصاحة والبيان، فكيف يفرح به المشركون، ويعتبرونه ذكراً لالهتهم بالخير؟!.

إنَّ قصَّة الغرانيق لا تثبت من جهة النَّقل، وهي مخالفةٌ للقرآن الكريم، ولما قام عليه الدَّليل العقلي، كما أنكرتها اللُّغة، وهذا ممَّا يدلُّنا على أنَّ حديث الغرانيق مكذوبٌ، اختلقته الزَّنادقة، الَّذين يسعون لإفساد العقيدة والدِّين، والطَّعن في سيِّد الأنبياء، وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم .

  1. الأسباب الحقيقية لعودة المسلمين:

عاش المسلمون ثلاثة أشهر من بدء الهجرة، وحدث تغيُّر كبيرٌ على حياة المسلمين في مكَّة، ونشأت ظروفٌ لم تكن موجودةً من قبل، بعثت في المسلمين الأمل في إمكان نشر الدَّعوة في مكَّة؛ حيث أسلم في تلك الفترة حمزة بن عبد المطلب، عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ عصبيَّةً لابن أخيه، ثمَّ شرح الله صدره للإسلام؛ فثبت عليه، وكان حمزةُ أعزَّ فتيان قريش، وأشدَّهم شكيمةً، فلـمَّا دخل في الإسلام؛ عرفت قريش: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزَّ، وامتنع، وأنَّ عمه سيمنعه، ويحميه، فكفُّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

وبعد إسلام حمزة رضي الله عنه أسلم عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، وكان عمر ذا شكيمةٍ لا يرام، فلـمَّا أسلم؛ امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبحمزة؛ حتَّى عازُّوا قريشاً، لقد كان إسلام الرَّجلين العظيمين بعد خروج المسلمين إلى الحبشة، فكان إسلامهما عزَّةً للمسلمين، وقهراً للمشركين، وتشجيعاً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجاهرة بعقيدتهم.

قال ابن مسعودٍ: «إنَّ إسلام عمرَ كان فتحاً، وإنَّ هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمةً، ولقد كنَّا ما نصلي عند الكعبة حتَّى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً؛ حتَّى صلَّى عند الكعبة، وصلَّينا معه».

وعن ابن عمر قال: لـمَّا أسلم عمر؛ قال: أيُّ قريش أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن مَعْمر الجُمَحي، قال: فغدا عليه، قال عبد الله : وغدوت معه أتبع أثره، وأنظر ماذا يفعل، حتَّى جاءه، فقال له: أعلمت يا جميل! أنِّي أسلمت، ودخلت في دين محمَّد؟ قال: فوالله ما راجعه حتَّى قام يجرُّ رداءه، وتبعه عمر، واتَّبعتُ أبي؛ حتَّى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! - وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن ابن الخطَّاب قد صبأ. قال: يقول عمر مِنْ خلفه: كذب! ولكنِّي أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّداً عبده، ورسوله. وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم، ويقاتلونه، حتَّى قامت الشَّمس على رؤوسهم، وَطَلِحَ (أي: أعيا) فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمئةٍ، لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا.

«لقد أصبح المسلمون إذاً في وضعٍ غير الَّذي كانوا فيه قبل الهجرة إلى الحبشة، فقد امتنعوا بحمزة، وعمر رضي الله عنهما، واستطاعوا أن يصلُّوا عند الكعبة بعد أن كانوا لا يقدرون على ذلك، وخرجوا من بيت الأرقم بن أبي الأرقم مجاهرين، حتَّى دخلوا المسجد، وَكَفَّت قريش عن إيذاءهم بالصُّورة الوحشيَّة الَّتي كانت تعذِّبهم بها قبل ذلك، فالوضع قد تغيَّر بالنسبة للمسلمين، والظُّروف الَّتي كانوا يعيشون فيها قبل الهجرة قد تحوَّلت إلى أحسن، فهل ترى هذا يخفى على أحد؟! وهل تظنُّ: أنَّ هذه التَّغييرات الَّتي جرت على حياة المسلمين في مكَّة لم تصل إلى أرض الحبشة، ولو عن طريق البحَّارة الَّذين كانوا يمرُّون بجدَّة؟!

لا بدَّ: أنَّ كلَّ ذلك قد وصلهم، ولا شكَّ: أنَّ هؤلاء الغرباء قد فرحوا بذلك كثيراً، ولا يستغرب أحدٌ بعد ذلك أن يكون الحنين إلى الوطن - وهو فطرةٌ فطر الله عليها جميع المخلوقات - قد عاودهم، ورغبت نفوسهم في العودة إلى حيث الوطن العزيز، مكَّة أمُّ القرى، وإلى حيث يوجد الأهل، والعشيرة، فعادوا إلى مكَّة في ظلِّ الظُّروف الجديدة، والمشجِّعة، وتحت إلحاح النَّفس، وحنينها إلى حرم الله، وبيته العتيق».

لقد رجع المهاجرون إلى مكَّة بسبب ما علموا من إسلام حمزة، وعمر، واعتقادهم: أنَّ إسلام هذين الصَّحابيَّيْن الجليلين، سيعتزُّ به المسلمون، وتقوى به شوكتُهم.

ولكنَّ قريشاً واجهت إسلام حمزة، وعمر رضي الله عنهما، بتدبيراتٍ جديدة، يتجلَّى فيها المكر والدَّهاء من ناحيةٍ، والقسوة، والعنف من ناحيةٍ أخرى، فزادت في أسلحة الإرهاب الَّتي تستعملها ضدَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه رضي الله عنهم، سلاحاً قاطعاً، وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية - وقد تحدَّثت عنه - وكان من جرَّاء ذلك الموقف العنيف، أن رجع المسلمون إلى الحبشة مرَّةً ثانيةً، وانضمَّ إليهم عددٌ كبير ممَّن لم يهاجروا قبل ذلك.


: الأوسمة



التالي
معتقلي الرأي "العودة في العزل الانفرادي رهن الاعتقال التعسفي ويواجه تُهم زائفة فضفاضة"
السابق
خواطر حول الحج

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع