البحث

التفاصيل

بعض وصايا أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه)

بعض وصايا أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه)

الحلقة الرابعة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ يناير 2020م

حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن صفات خيار العباد ، وعن تطوع النبي ﷺ ، ووصف الصحابة الكرام.
1- صفات خيار العباد:
سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن خيار العباد ، فقال: الذين إذا أحسنوا استبشروا ، وإذا أساؤوا استغفروا ، وإذا ابتلوا صبروا ، وإذا غضبوا غفروا.
وقال: ألا وإن لله عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين ، وأهل النار في النار معذبين.. شرورهم مأمونة ، وقلوبهم محزونة ، أنفسهم عفيفة ، وحوائجهم خفيفة ، صبروا أياماً قليلة لعقبى راحة طويلة ، إذا رأيتهم في الليل ، رأيتهم صافِّين أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم ، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم ، وأما نهارهم فعلماء حلماء بررة أتقياء ، كأنهم القداح ، ينظر إليهم الناظر فيقول ، مرض وما بهم من مرض ، وخولطوا ، ولقد خالط القوم أمر عظيم.
وقال: ينبغي للمؤمن أن يكون نظره عبرة ، وسكوته فكرة ، وكلامه حكمة.
وقال: طوبى لكل عبـد نومـه، عرف الناس ، ولم يعرفـه الناس ، عرف الله برضوان ، أولئك مصابيح الهدى ، يكشف الله عنهم كل فتنة مظلمة ، سيدخلهم الله في رحمة منه ليسوا بالمذاييع، البذر، ولا الجفاة المرائين، وكلام أمير المؤمنين علي فيه تأثر واضح بقول رسول الله ﷺ : «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي».
2- إجابته لمن سأل عن تطوع النبي ﷺ:
عن عاصم بن ضمرة قال: سألنا علياً عن تطوع النبي ﷺ بالنهار ، فقال: إنكم لا تطيقونه. قال: قلنا: ما أطقنا. قال: كان النبي ﷺ إذا صلى الفجر أمهل ، حتى إذا كانت الشمس من هاهنا - يعني: من قبل المشرق - مقدارها من صلاة العصر من هاهنا من قبل المغرب؛ قام فصلى ركعتين ، ثم يمهل حتى إذا كانت الشمس من هاهنا - يعني: من قبل المشرق - مقدارها من صلاة الظهر من هاهنا - يعني: من قبل المغرب - قام فصلى أربعاً ، وأربعاً قبل الظهر إذا زالت الشمس، وركعتين بعدها ، وأربعاً قبل العصر ، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ، والنبيين ، ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين. قال: قال علي: تلك ست عشرة ركعة تطوع النبي ﷺ بالنهار ، وقل من يداوم عليها.
وقد بيَّن أمير المؤمنين في موضع اخر هدي رسول الله ﷺ في الوتر ، فقال: أوتر رسول الله ﷺ من أول الليل واخره وأوسطه ، فانتهى وتره إلى السحر.
وفي بيان هدي النبي ﷺ بعد صلاته ، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: كان النبي ﷺ إذا سلم من الصلاة قال: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت».
3- وصف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للصحابة الكرام:
لما أحس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أصحابه شيئاً من الغفلة وقلة النشاط في الطاعة؛ ذكرهم بشيء من سيرة أسلافهم أصحاب رسول الله ﷺ ، فيما رواه أبو أراكة بقوله: صليت مع علي صلاة الفجر ، فلما انفلت عن يمينه مكث كأن عليه كأبة ، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين ، ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد ﷺ فما أرى اليوم شيئاً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون صفراً شعثاً غبراً ، بين أعينهم أمثال ركب المعزى ، قد باتوا لله سجداً وقياماً ، يتلون كتاب الله ، يتراوحون بين جباههم وأقدامهم ، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح.
وهملت أعينهم حتى تنبل ثيابهم ، والله لكأن القوم باتوا غافلين ، ثم نهض فما رؤي بعد ذلك مفتراً يضحك حتى قتله ابن ملجم عدو الله الفاسق.
4- تنبيه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أصحابه على فضائل الأعمال:
مما ورد له في خطبه قوله: أوصيكم بتقوى الله؛ فإن أفضل ما توسل به العبد الإيمان والجهاد في سبيله ، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة ، وإقام الصلاة فإنها الملة ، وإيتاء الزكاة فإنها فريضة ، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من عذابه ، وحج البيت فإنه منفاة مدحضة للذنب ، وصلة الرحم فإنها منسأة في الأجل ، ومحبة في الأهل ، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة ، وتطفئ غضب الرب ، وصنع المعروف فإنه يدفع ميتة السوء ويقي مصارع الهول ، أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر.
5- معايدة المريض:
عن ثوير بن أبي فاختة عن أبيه قال: أخذ علي بيدي ، قال: انطلق بنا إلى أبي الحسن نعوده ، فوجدنا عنده أبا موسى فقال علي (رضي الله عنه): أعائداً جئت يا أبا موسى أم زائراً ؟ قال: لا بل عائداً ، فقال علي: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك ، حتى يمسي ، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح.

6- تشجيعه لابنه الحسن على الخطابة:
قال أمير المؤمنين علي لابنه الحسن يوماً: يا بني ألا تخطب حتى أسمعك؟ فقال: إني أستحيي أن أخطب وأنا أراك ، فذهب علي حيث لا يراه الحسن ثم قام الحسن في الناس خطيباً ، وعلي يسمع ، فأدى خطبة بليغة فصيحة ، فلما انصرف جعل علي يقول: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.
7- إني لست كما تقول:
قال عمرو بن مُرَّة: عن أبي البختري قال: جاء رجل إلى علي ، فأثنى عليه ، وكان قد بلغه عنه أمر ، فقال: إنِّي لست كما تقول ، وأنا فوق ما في نفسك.
8- التحذير من الانقياد للشهوات:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: إياكم وتحكيم الشهوات على أنفسكم ، فإن عاجلها ذميم ، واجلها وخيم ، فإن لم ترها تنقاد بالتحذير والإرهاب ، فسوّفها بالتأميل والإرغاب ، فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعا على النفس ذلت لهما وانقادت.
9- إدخال السرور على المسلم:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن من موجبات المغفرة إدخال السرور على أخيك المسلم.
10- أشد الأعمال ثلاثة:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أشد الأعمال ثلاثة: إعطاء الحق من نفسك، وذكر الله على كل حال ، ومواساة الأخ في المال.
سادساً: التحذير من الأمراض الخطيرة التي حذر منها أمير المؤمنين:
1- جزاء المعصية:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: جزاء المعصية: الوهن في العبادة ، والضيق في المعيشة ، والنقص في اللذة. قيل: وما النقص في اللذة ؟ قال: لا ينال شهوة حلال إلا جاءها ما ينغصه إياها. ومع هذا الترهيب والتخويف من المعصية فإن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لا يغفل عن الترغيب في تركها ، حيث قال: من كان يريد العزَّ بلا عشيرة ، والنسل بلا كثرة ، والغنا بلا مال ، فليتحول من ذل المعصية إلى عز الطاعة.
وقال: إذا رغبت في المكارم ، فاجتنب المحارم.
2- طول الأمل واتباع الهوى:
خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منبر الكوفة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال: أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم طول الأمل واتبـاع الهوى ، فأما طـول الأمل فينسي الاخرة ، وأما اتبـاع الهوى فيصـد عن الحق ، ألا إن الدنيا قد ولت مدبرة والاخرة مقبلة ، ولكل واحد منهما بنون ، فكونوا من أبناء الاخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل.
فقد أشار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في هذه الخطبة إلى أمرين خطيرين لهما تأثير كبير في حياة الناس؛ وهما: طول الأمل بالبقاء على قيد الحياة ، فإنه يخدع الإنسان فيشغله بمشاريعه وطموحاته الدنيوية ، ويمنّيه بتأجيل الأعمال الصالحة ، وينسيه الحياة الاخرة ، فيتضخم عمله للدنيا ، ويتضاءل عمله للأخرة، ولو أن كل إنسان وضع في مخيلته أنه معرض للموت في كل ساعة لأصبح العمل للدنيا قليلاً بقدر الضرورة ، ولأصبح العمل للأخرة كثيراً لأنه هو الذي سيبقى ، بعد الموت.
وأما اتباع الهوى فإنه يغير اتجاه صاحبه ، ويجعل الهدف الأعلى في فكره هو تحقيق هوى نفسه ، وهوى من يعمل تحت إدارتهم ، وينسى الهدف الإسلامي الأعلى الذي هو ابتغاء رضوان الله تعالى وفضله في الجنة ، وبناء على تغير ، الأهداف فإن مناهج العمل تتغير ، فتصبح مناهج دنيوية يُراد بها تحقيق أهداف لا تتجاوز الحياة الدنيا ، كما تتغير العلاقات والروابط ، فتصبح الأخوة قائمـة على المصالح الدنيويـة بـدلاً من الإيمان والتقوى ، إلى غير ذلك مما يترتب على تغير الأهداف.
3- الريـاء:
قال أميـر المؤمنين علي رضي الله عنـه: لا تعمل شيئـاً من الخير ريـاءً ، ولا تتركه حياء.
وقال رضي الله عنه: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده ، وينشط إذا كان في الناس ، ويزيد في العمل إذا أثني عليه ، وينقص إذا ذم به.
وقد جاءت نصوص الشرع بتسمية الرياء شركاً أصغرَ، فقد قال رسول الله ﷺ: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» ، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء؛ يقول الله تعالى يوم القيامة ، إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء».
وعن شداد بن أوس ، قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله ﷺ الشرك الأصغر.
إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حذر من مرض القلب الخطير المتعلق بإرادة الإنسان وقصده ، وحث الناس على إفراد الله سبحانه وتعالى بالقصد والطاعة ، والالتزام بالسير على هدي السنة النبوية ، فقد ثبت عنه أنه قال: لا ينفع قول إلا بعمل ، ولا عمل إلا بنية ، ولا نية إلا بموافقة السنة.
وروي عن الفضيل بن عياض: أنه تلا قوله تعالى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الملك: 2] ، فقال: أخلصه وأصوبه ، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً ، لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً ، والخالص إذا كان لله عز وجل ، والصواب إذا كان على السنة.
إن صور الرياء متعددة؛ منها: ما يكون بالأعمال ، كمن يصلي فيطيل القيام ويطيل الركوع والسجود ويظهر الخشوع عند رؤية الناس له. ومنها: ما يكون من جهة القول ، كالرياء بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والاثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم ، وتحريك الشفتين في محضر الناس ، ويتغافل عنه في منزله. أو يكون الرياء من جهة الزي، كإبقاء أثر السجود على جبهته ، ولبس الغليظ من الثياب وخشنها مع تشميرها كثيراً ليقال: عابد زاهد. أو ارتداء نوع معين من الزي ترتديه طائفة يعدهم الناس علماء ليقال: عالم. أو يكون الرياء بالأصحاب والزائرين ، كالذي يتكلف أن يستزير عالماً أو عابداً ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً. ودعوة الناس لزيارته كي يقال: إن أهل الخير يترددون عليه. وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ ليقال: لقي فلان شيوخاً كثيرين واستفاد منهم؛ ليباهي بذلك.
أو يكون الرياء لأهل الدنيا ، كمن يتبختر ويختال في مشيته ، أو يصعِّر خده أو يلفّ عباءته ، أو يحرك سيارته حركة خاصة. أو يكون الرياء من جهة البدن ، كأن يرائي بإظهار النحول والصفار ليوهم الناس أنه جادٌّ في العبادة ، كثير الخوف والحزن، وغير ذلك من الصور التي يرائي بها المراؤون ، يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد.
وبالجملة: فإن المحافظة على أعمال الخير والإكثار من ذكر الله وعبادته وخشيته وحده ، وعدم خشية الناس في ذات الله ومحبة الصالحين وغيرها كل هذا من الأعمال الصالحة الحسنة المطلوبة ، ولكن لا بد أن تكون كلها لله؛ لأن الرياء هو عمل العمل الصالح لغير الله ، فيجب على المؤمن تصحيح نيته لله لا أن يترك العمل الصالح خوفاً من الرياء ، فليحذر تلك الأصناف من خطورة مرض الرياء ، وليتذكروا قول رسول الله ﷺ : «من طلب العلم ليماري به الفقهاء ، أو يجاري به العلماء ، أو يصرف به وجوه الناس إليه؛ أدخله الله النار».
إن أمير المؤمنين علي حذّر من الرياء ، وبيَّن أن الأعمال لا تقبل إلا إذا كانت خالصة لله وعلى سنة رسول الله ﷺ ، وقد حثَّ رضي الله عنه على التمسك بالسنة في مناسبات عديدة ، فقد قال: واقتدوا بهدي نبيكم ﷺ ، فإنه أفضل الهدي ، واستنوا بسنته فإنها أفضل السنن.
4- العجب:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: الإعجاب افة الألباب. إن العجب من الآفات التي تفسد الأعمال ، وتهلك العباد ، والعجب أحد العوارض التي تعرض للعاملين أثناء سيرهم إلى الله تعالى ، والعجب داء ينافي الإخلاص ويضادّه ، ويجافي الذلّ والافتقار لله تعالى ، فهو سوء أدب مع الله جل جلاله ، كما أن العجب يجانب محاسبة النفس ، ويُعمي عن معرفة أدواء النفس وعيوبها، ومع كل ذلك فالحديث عن تلك الافة قليل مع شدة خطرها ، وعظيم ضررها ، وكثرة انتشارها.
قال عبدالله بن المبارك: العجب أن ترى عندك شيئاً ليس عند غيرك. وفرق ابن تيمية بين الرياء والعجب فقال: والعجب قرين الرياء ، لكن الرياء من باب الإشراك بالخلق ، والعجب من باب الإشراك بالنفس ، فالمرائي لا يحقق قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ، والمعجب لا يحقق قوله: ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ، فمن حقق قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ خرج من الرياء ، ومن حقق قوله: ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ خرج عن الإعجاب.
وقال الغزالي: أعلم أن افات العجب كثيرة ، فإن العجب يدعو إلى الكبر ، فيتولد عن العجب الكبر ، ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى ، والعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها ، وأما العبادات فإنه يستعظمها ويتبجَّح بها ، ويمنُّ على الله بفعلها ، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين منها ، والمعجب يغترُّ بنفسه وبرأيه ، ويأمن مكر الله وعذابه ، ويظن أنه عند الله بمكان.. ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكِّيها.
وقال القرافي: وسر تحريم العجب أنه سوء أدب مع الله تعالى؛ فإن العبد لا ينبغي له أن يستعظم ما يتقرب بـه إلى سيده ، بل يستصغره بالنسبة إلى عظمـة سيده ، لا سيما عظمة الله تعالى ، ولذلك قال الله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الزمر: 67] ، أي: ما عظَّموه حق تعظيمه ، فمن أعجب بنفسه وعبادته فقد هلك مع ربه ، وهو مطلع عليه ، وعرض نفسه لمقت الله تعالى وسخطه.
ويمكن القول ابتداء: إن سبب العجب أمران:
(أ) الجهل بحق الله تعالى ، وعدم تقدير الله تعالى حق قدره ، وقلة العلم بأسماء الله وصفاته ، وضعف التعبد بهذه الأسماء والصفات.
(ب) الغفلة عن حقيقة النفس ، وقلة العلم بطبيعتها ، والجهل بعيوبها وأدوائها ، وإهمال محاسبة النفس ومراقبتها.
ومن ثم فإن العلاج هو: التعرف على الله تعالى ، وتحقيق تعظيمه ، وتقديره حق قدره ، والقيام بالعبودية له من خلال العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، وتعبد المولى عز وجل بها ، فالخير كله بيديه ، ورحمته تعالى وسعت كل شيء ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].
قال الإمام الشافعي: إذا خفت على عملك العُجْب ، فاذكر رضا من تطلب ، وفي أي نعيم ترغب ، ومن أي عقاب ترهب ، فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله.
وقال النووي: وطريقه في نفي الإعجاب: أن يعلم أن العلم فضل من الله تعالى ، ومنّة عارية ، فإن لله تعالى ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فينبغي أن لا يعجب بشيء لم يخترعه ، وليس مالكاً له ، ولا على يقين من دوامه.
قال ابن القيم: اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله ، مطالعاً فيه منة الله عليه به ، وتوفيقه له فيه ، وأنه بالله لا بنفسه ، ولا بمعرفته وفكره وحوله وقوته ، بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن ، والذي منّ عليه بالقول والفعل ، فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته ونظر قلبه؛ لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه ، وغيبته عن شهود منة ربه وتوفيقه.
وأما العلاج الاخر للعجب فهو معرفة النفس ومحاسبتها ، قال ابن الجوزي: من تلمح خصال نفسه وذنوبها ، علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير ، وهو من حال غيره ، في شك ، فالذي يُحذر منه الإعجاب بالنفس ، ورؤية التقدم في أعمال الاخرة ، والمؤمن لا يزال يحتقر نفسه. وقد قيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن مت ندفنك في حجرة رسول الله ﷺ ، فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إلي من أن أرى نفسي أهلاً لذلك
وقال ابن حزم: من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه ، فإن أعجب بفضائله ، فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة ، فإن خفيت عليه جملة حتى لا يظن أنه لا عيب فيه ، فليعلم أن مصيبته إلى الأبد ، وأنه أتمّ الناس نقصاً ، وأعظمهم عيوباً، وأضعفهم تمييزاً ، وأول ذلك أنه ضعيف العقل ، جاهل ، ولا عيب أشد من هذين، لأن العاقل هو من ميّز عيوب نفسه فغالبها وسعى في قمعها ، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه ، وإن أعجبت بأرائك ، فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنسها ، وفي كلّ رأي قدّرته صواباً فخرج بخلاف تقديرك ، وأصاب غيرك وأخطأت أنت ، وإن أعجبت بعملك ، فاعلم أنه لا حصة لك فيه ، وأنه موهبة من الله مجردة ، وهبك إياها ربك تعالى ، فلا تقابلها بما يسخطه ، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها ، تولّد عليك نسيان ما علمت وحفظت ، وإن أعجبت بمدح إخوانك لك ، ففكر في ذمّ أعدائك إياك ، فحينئذ ينجلي عنك العجب ، فإن لم يكن لك عدو ، فلا خير فيك ، ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدوَّ له ، فليست إلا منزلة من ليس لله تعالى عنده نعمة يحسد عليها - عافانا الله - ، فإن استحقرت عيوبك ، ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس ، وتمثل اطلاعهم عليها ، فحينئذ تخجل وتعرف نقصك.
ويقول ابن القيم أثناء حديثه عن الحكم والأسرار في قضاء السيئات وتقدير المعاصي: ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد بعبده خيراً أنساه رؤية طاعاته ، ورفعها من قلبه ولسانه ، فإذا ابتلي بذنب جعله نصب عينيه ، ونسي طاعته وجعل همه كله بذنبه ، فلا يزال ذنبه أمامه ، إن قام أو قعد ، أو غدا أو راح ، فيكون هذا عين الرحمة في حقه ، كما قال بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة ، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار ، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه ، كلما ذكرها بكى وندم وتاب واستغفر وتضرّع وأناب إلى الله ، وذلّ له وانكسر وعمل لها أعمالاً فتكون سبب الرحمة في حقّه ، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يمنّ بها ، ويراها ، ويعتدّ بها على ربه وعلى الخلق ، ويتكبر بها ويتعجب من الناس؛ كيف لا يعظمونه ويكرمونه ويجلونه عليها ؟! فلا تزال هذه الأمور به حتى تقوى عليه اثارها فتدخله النار.
هـذا شرح موجز وسريع لقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنـه: الإعجاب آفـة الألباب.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره


: الأوسمة



السابق
"وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع