البحث

التفاصيل

نبي الله يحيى (عليه السلام) وصفاتُه في القرآن الكريم

نبي الله يحيى (عليه السلام) وصفاتُه في القرآن الكريم

بقلم: د. علي الصلابي (عضو الاتحاد)

 

قدم زكريا عليه السلام بقومه الآية الأولى، وبعد انقضاء الثلاثة أيام، أخبرهم أن الله هو الذي حبس لسانه عن الكلام أمامهم، وأنه كان يطلق لسانه بذكر الله وتسبيحه عندما يغيب عنهم، وأنه جعل هذا آية له، تمهيداً لآية أخرى أكبر وهو الولد الذي سيمنحه له.

وسمع أتباعه المؤمنون منه أخبار المعجزة القادمة، فازداد إيمانهم بالله وقدرته على خرق العادات والمألوفات، وحقق الله لزكريا عليه السلام معجزته، وحملت منه امرأته العاقر، وانقضت شهور الحمل التسعة، وأنجبت مولودها، وسماه أبوه (يحيى) منفّذاً أمر الله بتسميته.

وقد أخبر الله عن بعض صفات يحيى عليه السلام بقوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 39].

ـ معنى اسم (يحيى): سمّي يحيى؛ لأن الله أحياه بالإيمان والنبوة، وقال بعض العلماء: سمّي بذلك؛ لأن الله أحيا به الناس بالهدى، وقيل: سمّي بذلك لأن الله أحيا به رحم أمه.

ـ معنى : بمعنى مسمَّى: فهو اسم مفعول: أي لم نجعل شخصاً قبل يحيى مسمّى بهذا ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا *﴾، ولم تلد النساء العواقر ولداً مثله، ولم يُسمَّ باسمه أحدٌ قبله.

وجاء في تفسير قوله تعالى في ذكر صفات يحيى عليه السلام:

أ ـ (مصدقاً بكلمة من الله):

والمراد بكلمة الله التي يصدقها يحيى قولان للمفسرين:

الأول: كلمة تأتيه من عند الله، لأنه نبيّ، والله يعطي أنبياءه ما يشاء من كلماته وكتبه، فلعل هذه الكلمة كتاب من الله أنزله إليه فآمن وصدَّق به، ولعلها أحكام من الله أمره بها، فآمن وصدَّق بها والتزمها.

والثاني: كلمة الله هي عيسى ابن مريم عليه السلام فقد صرّح القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام كلمة من الله.

قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: 45]. وكان عيسى معاصراً ليحيى، وكلاهما كان نبياً عليهما السلام، ولما بعث الله عيسى نبياً، كان يحيى هو أول من آمن بعيسى وصدَّقه وصدَّق به، وشهد أنه عبد الله ورسوله، وأن الله بعثه نبياً رسولاً، ولا تعارض في الحقيقة بين القولين، بل هما يتكاملان، فيحيى نبي كريم عليه السلام، واتاه الله كلمات منه، وكان هو أول من صدَّقها وصدَّق بها واتبعها.

ب ـ (سيداً):

جعله الله سيداً شريفاً في قومه، سادهم بالنبوة والعلم والعبادة والحلم، وفسرها الصحابة والتابعون بهذا المعنى.

وقال العلماء في تفسير معنى السيد أقوالاً منها:

  • السيد هو الحليم التقيّ.
  • سيداً في العلم والعبادة.
  • هو الكريم على الله.
  • هو الذي لا يغلبه الغضب.
  • السيد هو الفقيه العالم.
  • السيد هو الشريف.

وهذه الأقوال ليست متعارضة، فكلُّها مرادة وينطبق عليها كلها معنى السيد، وكلها تحققت في يحيى عليه السلام، ولقد جعل الله يحيى عليه السلام سيداً شريفاً، سيداً في الحلم والتقوى، وسيداً في العلم والعبادة، وسيداً في الفقه والكرم.

ت ـ (حصوراً):

الحصور: هو الذي لا يأتي النساء، إما من العنَّة، وإما من العفة والاجتهاد في إزالة الشهوة، والثاني هو المراد في الآية، لأنه بذلك يستحقُّ المحمدة.

فيحيى عليه السلام منع نفسه عن النساء برغبته وإرادته وجاهد نفسه في عدم الرغبة فيهنّ، ولم يكن فيه عنَّة تمنعه من معاشرة النساء، فإن هذا نقص ينزَّه عنه الأنبياء.

والمقصود أن مدح يحيى عليه السلام أنه كان حصوراً ليس معناه أنه لا يأتي النساء، بل معناه أنه حصور من الفواحش والقاذورات، وتسامى بغريزته وشهوته، فلم يفكر في النساء ولم يتزوج النساء مع قدرته على ذلك لو أراد.

ث ـ (نبياً صالحاً):

ومن صفات يحيى عليه السلام أنه نبي صالح، وهذه الآية نصّت على نبوة يحيى عليه السلام حيث سيجعله الله نبياً ويجعله من الصالحين ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ *﴾

وهذه بشارة ثانية لزكريا عليه السلام، فقد بشره الله قبلها بأنه سيرزقه بيحيى وبشَّره فيها بأنه سيجعله نبياً من الصالحين، وهي أعظم من البشارة الأولى.

ولما كانت امرأة زكريا حاملاً بابنها يحيى، كان زكريا يوقن أن ما بطنها ولداً، وأنه سيكون نبياً من الصالحين بناءً على هذه البشارة.

هذه صفات يحيى الأربعة الواردة في سورة آل عمران.

ـ وفي موقع آخر من كتاب الله عز وجل يخبرنا الله بصفات يحيى عليه السلام، وهو شاب، ففي سورة مريم أخبرنا الله عز وجل عن يحيى عليه السلام بعدما صار شاباً كبيراً، وبعدما بعثه الله نبياً قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ  وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ۝ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً  وَكَانَ تَقِيًّا ۝ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ۝ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 12-15].

ويعدُّ هذا أول موقف ليحيى عليه السلام في انتدابه ليحمل الأمانة الكبرى.

ج ـ ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾:

والكتاب هو التوراة الذي أنزله الله على موسى عليه السلام، فقد أبقاه الله كتاباً لأنبياء بني إسرائيل من بعده، وأمر الله يحيى عليه السلام أن يأخذ كتاب الله

الذي معه بقوة، وأن يتدبَّره بقوة، وأن يطبق وينفذ ما فيه بقوة، وأن يدعو إليه بقوة، وليس المراد بالقوة هنا القوة الجسمية البدنية، وإنما المراد بها القوة المعنوية، قوة الفهم والعلم، وقوة الالتزام والانضباط، وقوة الأداء والعمل، وقوة الدعوة والبيان.

ح ـ ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾:

وليس المراد بالحكم هنا القيادة والزعامة والرئاسة، فلم ينقل لنا أن يحيى عليه السلام كان حاكماً على بني إسرائيل، وإنما المراد بالحكم الفهم والعلم والجدّ والعزم والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه وهو صغير، والصبي هو ما كان قبل البلوغ.

خ ـ ﴿وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا﴾:

وقد منَّ الله على يحيى عليه السلام بأنه اتاه الحنان من عنده، وهذه استجابة منه لدعوة زكريا عليه السلام، فلما طلب زكريا عليه السلام الغلام سأل ربه أن يجعله رضياً ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا *﴾ فاستجاب الله دعوته ومنح يحيى الحنان ﴿وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا﴾، والحنان هو رقة القلب ورحمته بالآخرين وإشفاقه عليهم، وهذه نعمة عظيمة أنعم الله بها على يحيى عليه السلام فجعله حنوناً صاحب حنان يحبُّ الاخرين ويرفق بهم ويشفق عليهم.

د ـ ﴿وَزَكَاةً﴾ :

الزكاة هنا هي الطهارة من الذنوب والمعاصي، وتطهير النفس وتزكيتها ومجاهدتها، والإقبال على الطاعة والعبادة.

والمقصود أن الله اتى يحيى عليه السلام الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع، كي يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس، فيطهرها ويزكيها.

ذ ـ ﴿وَكَانَ تَقِيًّا﴾:

كان يحيى عليه السلام تقياً عابداً لله خائفاً منه مؤدياً لفرائضه، مجتنباً محارمه، متسارعاً في طاعته. وقوله ﴿وَكَانَ تَقِيًّا *﴾، هو نتيجة للصفات السابقة التي وصف الله بها يحيى عليه السلام، وثمرة لما اتاه الله منذ أن كان صبياً اتاه الله الحكم والفهم والعلم، واتاه الحنان والرحمة والإشفاق، واتاه الزكاة، والتزكية والطهارة، ونتيجة لكل ذلك صار يحيى عليه السلام تقياً عابداً خاشعاً، موصولاً بالله، مراقباً له، يخشاه ويرجوه في سرّه وجهره، وليله ونهاره.

ر ـ ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ﴾:

كان يحيى عليه السلام برّاً بوالديه، وذكر برِّه بوالديه مقصود هنا؛ لأن والديه كبيران عجوزان، وهما بحاجة إلى برِّ ابنهما بهما؛ لتقدمهما في العمر وحاجتهما إلى المساعدة وحسن المعاملة، لا سيما أنهما رزقا بابنهما على كبر.

وهذه من النعم العظيمة التي ينعم الله بها على الوالدين الكبيرين، عندما يوفّق أبناؤهما إلى البرِّ بهما؛ لأنهما في عمرهما المتقدِّم يحتاجان إلى ذلك البرِّ والإحسان.

ز ـ ﴿وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾:

وبعدما وصف الله يحيى عليه السلام بوصفين إيجابيين، نفى عنه وصفين سلبيين ونزهه عن نقيصتين فقال: ﴿وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [مريم: 14]

(جبَّاراً): صيغة مبالغة من التجبُّر وهو التكبُّر والاستعلاء والتعالي والانتفاش على الناس وظلم الاخرين، واحتقارهم واضطهادهم.

(عصيَّا): بمعنى صاحب المعصية.

وعندما ننظر في هذه الآية الكريمة التي أخبرت عن يحيى عليه السلام، فسوف نرى التناسب والتناسق والتقابل في الصفات المذكورة له ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ  وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ۝ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً  وَكَانَ تَقِيًّا ۝ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [مريم: 12-14].

اتى الله يحيى عليه السلام أمرين، وأنعم الله عليه بنعمتين وهما: الحنان والزكاة، ووصفه بوصفين إيجابيين، هما ثمرة الحنان والزكاة، وهما: كان تقياً لله، وكان برَّاً بوالديه. ونفى عن أمرين قبيحين، يتناقضان مع ما سبق، فلم يكن جباراً ولا عصياً، وهذه كلها ثمرة للحكم الذي اتاه الله إياه وهو صبياً ﴿وآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا *﴾، وهذا كلّه تطبيق وتنفيذ لأمر الله له ﴿يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ .

س ـ ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾:

وهذا خبر من الله سبحانه عن السلام الذي أضفاه على يحيى عليه السلام، و(سلام): نكرة، والتنكير للتكثير والتفخيم والتعظيم، أي أن الله جعله مغموراً بالسلام المبارك في حياته كلّها.

وأبرزت الآية السلام الذي تغشاه في مواطن ثلاثة، هي بحاجة إلى السلام من الله، أكثر من غيرها من المواطن؛ : أضفى الله عليه السلام يوم ﴿يَوْمَ وُلِدَ﴾، ولذلك لم يمسَّه الشيطان بسوء،: أضفى الله عليه السلام والأمان يوم موته فجعله منعَّماً في ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾، وعصمه من فتنة القبر، وأجاره من عذاب القبر، : أضفى الله عليه السلام والأمان يوم القيامة، فأمّنه من الفزع في ذلك اليوم الذي يفزع فيه الآخرون، وأجاره من عذابه.

وأوحش ما يكون الإنسان في أماكن ثلاثة: يوم يولد، فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه، ويوم يموت، فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم، فأكرم الله يحيى عليه السلام وخصَّه بالسلام عليه في هذه المواطن ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 15].

وقد أشار الرسول (ﷺ) إلى فضل ومنزلة يحيى وزكريا ابنَي الخالة عليهما السلام، روى الترمذي عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ):«الحسنُ والحُسَينُ سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّةِ؛ إلا ابنَي الخالةِ عيسى ابنَ مريمَ ويحيى بنَ زكريا، وفاطمةُ سيدةُ نساءِ أهلِ الجنَّةِ؛ إلا ما كان من مريمَ بنتِ عِمرانَ».

واعتبر رسول الله (ﷺ) يحيى وعيسى عليهما السلام سيدي شباب أهل الجنة، وإذا كان عيسى عليه السلام قد رُفع إلى السماء في سنِّ الشباب كما سيمرُّ معنا، فيبدو أن يحيى عليه السلام قد توفي وهو في سن الشباب أيضاً، مما جعلهما سيدَي شباب أهل الجنة، وقد أخبرنا رسول الله (ﷺ) أنه لما عُرج به إلى السماء ليلة المعراج شاهد ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام في استقباله في السماء الثانية.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث الإسراء والمعراج الطويل: «... ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيْ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ...».

وهكذا كان زكريا ويحيى عليهما السلام من اخر أنبياء بني إسرائيل، ولم يأت نبيٌّ بعدهما لبني إسرائيل إلا عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.

 

المصادر والمراجع:

  • د. صلاح الدين الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، ط1، 1419هـ، 1998م.4/143. 129، 131 ، 341.
  • د. علي الصلابي، المسيح عيسى بن مريم، ص 87- 94.
  • الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، ط1، 1412هـ، 1992م. ص 238 ـ 239.
 


: الأوسمة



التالي
المقرئ الشيخ حسن بن محمد الفارسي في ذمة الله
السابق
اليقين بالله إذا انقطعت الأسباب

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع