البحث

التفاصيل

توزيع الإدارات والوظائف في دولة نور الدين "حكامة إدارية رصينة"

توزيع الإدارات والوظائف في دولة نور الدين "حكامة إدارية رصينة"

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

كانت دولة نور الدين مقسَّمة إلى عدة أقاليم: حلب شمال بلاد الشام ، وإقليم دمشق وسط بلاد الشام ، وإقليم الموصل في منطقة الموصل والجزيرة الفراتية ، وإقليم مصر ، وإقليم اليمن ، وإقليم الحجاز، وكان لكل إقليم إدارته المحلية ، التي تتألف من عدة موظفين يعينهم نور الدين ، وكانت جميع هذه الأقاليم تتبع السلطة المركزية للدولة في دمشق ، التي يشرف عليها نور الدين وجهازه الإداري المركزي. أما الوظائف التي تتألف منها الإدارة المركزية؛ فهي:

1 ـ النائب: هو الذي ينوب عن نور الدين في الإقليم ، ويكون مسؤولاً عن الشؤون العسكرية والإدارية فيه ، ومن صلاحياته توقيع المراسيم والمنشورات ، وترشيح أسماء نوابه في المدن الأخرى التابعة للإقليم ، والإشراف على تنفيذ قوانين ضمن منطقة مسؤوليته ، ويرأس اجتماعات ديوان الجيش في الإقليم ، وقيادة الفرق العسكرية الموجودة في الإقليم. وكان مجد الدين بن الداية ، من أشهر نواب نور الدين ، فقد ظل خمسة عشر عاماً نائباً لنور الدين في حلب.

2 ـ الوزير: هو رئيس الجهاز الإداري المركزي ، ويكون مسؤولاً أمام نور الدين عن جميع الدواوين ، والسجلات المتعلقة بالجند ، والبريد ، والخزينة، ويقدم النصح والرأي في الأمور السياسية ، والإدارية ، والعسكرية ، وكانت وظيفة الوزير أهم وظائف الدولة قبل استحداث وظيفة النائب ، فقد كان الوزير في بداية عصر السلاجقة ، هو المدبِّر الوحيد ، والحقيقي لجميع شؤون الدولة ، ولكنَّ صلاحياته تقلَّصت بعد استحداث وظيفة النائب ، الذي كان يتمتع بجميع صلاحيات السلطان ، ضمن منطقة مسؤوليته ، ويرتبط بالسلطان مباشرة ، وقد حصل تداخل في الواجبات والصلاحيات بين وظيفة الوزير ، ووظيفة الناظر (ناظر الديوان) ، الذي كان يعتبر مسؤولاً عن الدواوين.

وكان عمل الوزير يقتصر ـ في بعض الأحيان ـ على تقديم المشورة في الأمور الهامة ، وبسبب التداخل المذكور ، لم يكن هناك وصف دقيق للوظائف وصلاحياتها ، فكان الأمر في الحقيقة يعتمد على كفاءة من يتولى المنصب وشخصيته ، كما حدث مع كمال الدين الشهرزوري ، فقد كان قاضي القضاة في كل مملكة نور الدين ، وكان يكلِّفه بكثير من المهام الأخرى غير القضاء ، ويستشيره في الأمور الهامة ، حتى وصفه العماد الأصفهاني بأنه أصبح في دمشق: (الحاكم المطلق ، وأنه ارتقى إلى درجة الوزارة ، فكان له الحل ، والعقد في أمور الشام) ، ومثال ذلك أيضاً ثقة نور الدين في العماد الأصفهاني كما مرَّ معنا.

3 ـ المستوفي: هو المسؤول عن موازنة الدولة جميعها من حيث تقدير الأموال المستحقة ، وجمعها من مصادرها ، وحفظها ، وتخصيص الأموال اللازمة للجند ، وغيرهم من أجهزة الدولة ، ومؤسساتها ، ويكون له نوَّاب في الأقاليم ، يقومون بالواجبات نفسها ، ويعملون بإمرته ، وكذلك يكون له عدد من الكتبة المساعدين في الإدارة المركزية ، يعملون معاً تحت إمرته في ديوان يسمَّى ديوان الاستيفاء.

ووظيفة المستوفي أهم الوظائف في الإدارة المركزية بعد وظيفة الوزير ، ويتبع المستوفي موظف اخر ، هو المشرف الذي يرأس ديوان الإشراف ، ويعتبر عمله مكمِّلاً لعمل المستوفي ، ومهمته تدقيق الحسابات ، والموازنة بين الصادرات والواردات لخزينة الدولة ، ويشبه عمله إلى حد ما عمل المفتش في هذه الأيام.

4 ـ الأمير الحاجب: هو المسؤول عن ديوان الجيش من حيث حفظ السجلات؛ التي تحتوي أسماءهم ، ووظائفهم ، ورواتبهم ، وإقطاعاتهم ، ويقوم بحلّ مشاكلهم ، وتقديم صورة واضحة عن أحوالهم إلى السلطان ، أو النائب ، كما يقوم بالإشراف على سلاح الجند ، وخيولهم ، ويساعده في ذلك عدد من الكتبة ، والموظفين ، يشكلون معه ديوان الجند الذي يتولى ـ كما ذكرت ـ كلَّ ما يتعلق بشؤون الجند ، من خيل ، وسلاح ، ورواتب ، وإقطاعات ، وسجلات.

كان محمد العمادي صاحب نور الدين ، وأمير حاجبه ، وأحد كبار نوابه في حلب وصاحب بعلبك ، وتدمر.

أما الحاجب ، فهو الذي يتولى تنظيم مقابلات السلطان ، والدخول عليه في مجلسه ، ومع أن بعض المراجع تذكر: أن وظيفة الحاجب اختلفت عمّا كانت عليه ، قبل عصر السلاجقة ، وأصبحت مهمة الحاجب: إبلاغ السلطان حالة الشعب ، وكشف مظالمهم أمامه ، وإطلاعه على الأمور الرئيسية للدولة ، ومطاردة الظلم وفق توجيهات المسؤول الأعلى ، فالحاجب ـ إذاً ـ يشبه وزير الداخلية حالياً ، إلا أنه ورد في مراجع أخرى كثيرة: أن نور الدين كان يأمر بإزالة الحاجب ، والبواب ، عندما يجلس في دار العدل للقضاء ، ليسهل دخول الضعفاء من الناس عليه، مما يدل على أن وظيفة الحاجب ظلَّت حتى عصر نور الدين تشمل واجب تنظيم الدخول على السلطان ومقابلته.

5 ـ الوالي: تغير مفهوم وظيفة الوالي عما كان قبل دولة السلاجقة ، فقد كان الوالي يمثِّل الخليفة ، أو السلطان في ولايته ، ويعتبر مسؤولاً عن جميع الشؤون الإدارية ، والعسكرية فيها. أما في عهد السلاجقة ، والدولة الزنكية؛ فقد أصبح النائب هو الذي يتولى الصلاحيات المذكورة، بينما يكون الوالي مسؤولاً عن مدينة، أو بلدة، أو قلعة في الولاية، أو الإقليم الذي يحكمه النائب باسم السلطان ، أي: أنَّ النائب في عهد السلاجقة ، وعهد الدولة الزنكية حلَّ محل الوالي في مركزه وصلاحياته.

أما واجبات الوالي في المدينة؛ فهي واجبات إدارية ، تشمل تنفيذ الأحكام ، ومراقبة الأسواق ، ومحاسبة المخالفين للقانون ، وتفقّد أبواب المدينة وأسوارها ، وإطلاع النائب أو السلطان على الأوضاع العامة في المدينة ، بينما تختلف واجبات والي القلعة ، فهو يعتبر قائد الحامية ، ويكون مسؤولاً عن أبواب القلعة ، وصيانتها ، وإدارة حاميتها، فهو قائد عسكري ، وله واجبات إدارية ضمن القلعة نفسها.

6 ـ الشحنة: الشحنة ، أو الشحنكية كلمة تركية ، تعني: قائد الحامية ، أو الحاكم الإداري للمدينة ، المسؤول عن الأمن ، والنظام فيها ، يعيّن من قِبل السلطان ، ويعمل بإمرته رجال الشرطة ، أو الحامية ، ويقوم بملاحقة اللصوص ، والخارجين عن القانون ، ويلاحظ: أن هناك تداخلاً بين واجبات الوالي ، والشحنة في المدينة.

ولا تذكر المصادر والمراجع حدوداً فاصلة بين واجبات مختلف الوظائف الإدارية في تلك العصور، ويظهر: أن واجبات كل وظيفة، كانت تتحدد في ضوء قوة شخصية من يشغلها ، فإذا كانت شخصيته قوية؛ زادت صلاحياته ، واتسعت لتشمل واجبات لوظائف أخرى، كما حصل مع كمال الدين الشهرزوري ، الذي كان قاضياً في دمشق، ثم صار قاضياً للقضاة في مملكة نور الدين كلها ، وكان نور الدين يكلِّفُه بأعمال كثيرة ، غير القضاء ، حتى وصفه العماد الأصفهاني بأنه كان في مقام الوزير ، وتشير بعض المراجع إلى تعيين السلطان السلجوقي محمود المير اق سنقر البرسقي شحنة في بغداد عام 516هـ / 1122م ، كذلك تشير المراجع نفسها إلى تعيين السلطان نفسه لعماد الدين زنكي شحنة في بغداد عام 520هـ /1126م ، والمعروف: أنَّ آق سنقر البرسقي كان يقود الجيش وهو في الوظيفة المذكورة ، ويدافع عن بغداد ، ويتصرف كنائب للسلطان ، وكذلك كان من بعده عماد الدين زنكي في هذه الوظيفة، وتشير المراجع ذاتها إلى تعيين نور الدين محمود توران شاه بن نجم الدين أيوب شحنة في دمشق ، ومن بعده أخوه صلاح الدين يوسف في الوظيفة نفسها ، وكانت واجبات الأخوين في هذه الوظيفة لا تتعدى الأمور الإدارية، مما يعني: أنَّ مفهوم وظيفة الشحنة كان يتغيَّر من ظرف إلى اخر ، ومن مكان إلى مكان.

7 ـ القاضي: حظي القضاء برعاية نور الدين واهتمامه أكثر من أية وظيفة أخرى ، ويرجع السبب في ذلك إلى تركيزه على إقرار العدل ، وإشاعته في دولته ، فقد كان يختار لهذه الوظيفة أشهر العلماء ، والفقهاء المعروفين بالتقوى والاستقامة ، ويعطيهم كامل الصلاحيات في تنفيذ أعمالهم وأحكامهم ، فكان القضاء يتمتع باستقلال تام ، وكان هو أوَّل من أنشأ محكمة عليا سمَّاها دار العدل ـ كما مرَّ معنا ـ للنظر في القضايا المتعلقة بكبار رجال الدولة ، عندما لاحظ تهيُّب القاضي طلب بعضهم للمحاكمة ، فكان يجلس فيها للقضاء ، ومعه الفقهاء ، والعلماء ، والقاضي ، ليستشيرهم فيما يعرض عليه من قضايا ، ثم جعل من نفسه قدوة لرجال دولته ، عندما ذهب إلى مجلس القضاء ، وطلب من القاضي أن يساوي بينه وبين خصمه في المحاكمة، فلم يجرؤ أحد بعد ذلك من الأمراء ، والقادة ، وكبار موظفي الدولة على مخالفة الشريعة ، أو ظلم أحد من الرعية؛ لأنه علم: أن العقاب لابدَّ أن يقع عليه.

وكان كمال الدين الشهرزوري أشهر القضاة في دولة نور الدين ، الذي كان يجلُّه ويقدره ، فجعـله قاضياً للقضـاة في الدولة كلها ، بحيث يكون القضاة في الأقاليم نوّاباً عنه ، وكلَّفه بأعمال مهمة غير القضاء ، كالإشراف على دار الضرب ، وأوقاف الدولة، وبناء أسوار دمشـق ، ومدارسها ، ومارستانها ، حتى وصفه العماد الأصفهاني بأنـه كان الحاكم المطلق في دمشق ، وأنـه: (ارتقى إلى درجة الوزارة ، فكان له الحل والعقد في أحكام الشام. ومن القضاة الآخرين؛ الذين اشتهروا في دولة نور الدين: شرف الدين بن أبي عصرون ، الذي وصف بأنه من أفقه أهل عصره.

 

مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 233-236

ابو شامة شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ،سوريا،(1 / 364).

عماد الدين خليل، نور الدين محمود، الرجل التجربة، دار القلم 1400 هـ  1980 م. ص 82 ، 83.

عبد القادر أبو صيني، دور نور الدين في نهضة الأمة ومقاونة غزو الفرنجة، الجامعة الأردنية،1996، ص 176





التالي
هل النبي صلى الله عليه وسلم أول خلق الله؟
السابق
بنغلاديش: سبعة قتلى بإطلاق نار على مدرسة إسلامية داخل مخيم للروهينغيا

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع