البحث

التفاصيل

الأساليب والوسائل والطرق المستعملة حسب المقامات الإيمانبة والتعبدية:

 

       الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبيّ الهُدى والرحمة المهداة، سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.

سلسلة إضاءات إيمانية: الحلقة الحادية عشْرة

عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين     

4)الأساليب والوسائل والطرق المستعملة حسب المقامات الإيمانبة والتعبدية: 

إن الخطاب التربوي في القرآن الكريم خطاب متّسق ومحكم في بنياته التركيبية والدلالية والمعجمية، وفي أغراضه العقدية والتعبدية والأخلاقية. كما يظهر هذا الاتساق المحكم في الأساليب والوسائل التربوية التي يوظفها القرآن الكريم لتبليغ دعوته إلى الناس، وإحداث أنساق تواصلية فعالة بين المربي الداعية والجمهور المتلقي لهذه الدعوة، ويمكن تحديد هذه الأساليب في ثلاثة أنواع كبرى هي:

       1) أسلوب الحوار.

       2) أسلوب المثَل.

       3) أسلوب القصة.

غير أن هناك أساليب أخرى في القرآن الكريم، رأينا أنها تندرج ضمن الأساليب الثلاثة المشار إليها فوق، مثل الموعظة والترغيب والترهيب، والجدال بالحُسْنى والسؤال والمساءلة إلخ ...

1. أسلوب الحـــــوار:

يشكل أسلوب الحوار في القرآن الكريم خاصية أساسية من خاصيات الخطاب التربوي المتضمّن في السور والآيات البيّنات، وهو بشكل عام دعامة أساسية لبناء علاقة تواصل سويّة ومثمرة بين المرسِل للخطاب والمتلقي له، سواء كان هذا المتلقي فردا أو مجموعة صغيرة من الأفراد، أو كان مجموعة كبيرة كالقوم والعشيرة والمجتمع والأمة بأسرها، وكافة الناس على اختلافهم طبعا وخلُقا وسلوكا وعقيدة وتصوّرا.

ولئن كان أسلوب الحوار في القرآن الكريم بهذه المواصفات السابقة فلأنّه يهدف إلى إرشاد الإنسان إلى طريق الهدى وإنقاذه من الوقوع في طريق الضلالة، وتعريفه بخالقه عز وجل لامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فيما يعود عليه بالخير العميم في كلا الدارين.

إن أسلوب الحوار في القرآن الكريم تحكمه ضوابط وقواعد ذهبية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

1) القاعدة التعبدية الخالصة:

انطلاقا من قوله تعالى: ﴿ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات: 56. فالله تبارك وتعالى أمر العباد بعبادته مخلصين في ذلك، يقول تعالى: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مُخْلِصينَ لهُ الدّين حُنفاء ويُقِيمُوا الصَلَو'ةويُوتوا الزَّكَـ'ـوةوذ'لِكَ دينُ القيِّمَة﴾ البينة: 5. وكل من لا يمتثل هذا الأمر الرباني، ويتحقق به فهو خارج هذه القاعدة التعبدية. يقول عز وجل: ﴿الله خَـ'ـلِقُ كل شيءٍ وهو علَى' كل شيءٍ وكيل. لّه مقاليد السمـ'ـوات والأرْض والذين كفروا بئايَـ'ـت اللهِ أولئك هُمُ الخَـ"ـسِرون. قل اَفَغَيْرَ اللهِ تامُرُوني أعْبد أيُّها الجَـ'ـهلونَ﴾ الزمر: 59ـ62. يقول ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات "إن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم ويعبدوا معه إلهه، فنزلت: ﴿قل أفغير الله تامروني أعبد أيّها الجـ'ـهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركتَ ليحبطَنّ عملكَ ولتكوننّ من الخـ'ـسرين﴾ وهذه كقوله تعالى: ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾. وقوله عز وجل: ﴿بل الله فاعبد وكن من الشّـ'ـكرين) أي اخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتّبعَك وصدقك" 

2) القاعدة التبليغيّة:

انطلاقا من قوله تعالى: ﴿هَذَا بلاغ للناس وَلِيُنْذِروا به وَلِيَعْلَموا أنما هُوَ إله واحدٌ ولِيَذّكّرَ أولوا الألبـ'ـب﴾ إبراهيم: 54. وقوله عز وجل: ﴿يـ'ـأيّها الرّسول بَلِّغْ ما أنْزِلَ إليْك من رَبِّكَ وإن لم تَفْعَلْ فَمَا بَلَغْتَ رسَالاتِه والله يعْصِمُك مِنَ النّاسِ إنّ الله لا يَهْدي القَوْمَ الكـ'ـفِرين﴾ المائدة: 69. وكذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وأطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ واحْذَرُوا فإن تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَموا أنَّما عَلَى' رَسُولِنا البلاغ المبين﴾ المائدة: 94.

إن هذه الآيات البينات وآيات أخرى كثيرة توضح الطبيعة التبليغية للقرآن الكريم في حواره مع الأنبياء والرسل، وعلى رأسهم نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومع الناس أجمعين. ذلك أن الله تعالى يُعلمنا من خلال هذه القاعدة أن من أولويات الدعوة إلى الله تعالى، تبليغ رسالته إلى الناس كافة دون الاهتمام بالمآلات التي ستؤول إليها النتائج في الدنيا والآخرة. وهذا هو عين مضمون قوله تعالى مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿وإن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْض الذي نعِدُهُم أوْ نَتَوَفّيَنّكَ فإنّما عَلَيْكَ البَلاغ وعَلَيْنا الحِساب﴾ الرعد: 41. وكذلك حال المؤمن الداعية إلى الله ينبغي أن يتحقق بهذا المعنى العميق، مقتفيا في ذلك أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتبعا منهجه السديد في دعوة الناس إلى ما يأمر به الله تعالى وينهى عنه في كتابه الكريم.

3) قاعدة "لا إكراه في الدين":

انطلاقا من قوله تعالى: ﴿لا إكْراهَ في الدِّين قَدْ تَبَيّن الرُّشْدُ من الغي فَمَنْ يَكفر بالطّاغوتِ ويومن بالله فقدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا واللهُ سَميعٌ عَليمٌ﴾ البقرة: 255. وكذلك قوله عز وجل: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أفأنت تُكْرَهُ النّاسَ حتَّى يَكونوا مؤمنين﴾ يونس: 99.

إن تبليغ رسالة رب العالمين يتأسس على هذه القاعدة الذهبية التي تتضمن معنى الرفق، والدعوة إلى الله تعالى بالتي هي أحسن. يقول تعالى:ادْعُ إلى سَبيل رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنة وَجَادِلْهُمْ بالتي هيَ أحْسَن النحل:125. يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَادِلهم بالتي هي أحسن﴾، "أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن، برفق ولين وحسن خطاب". ويتحتّم في هذه القاعدة الذهبية من قواعد الحوار التربوي في القرآن الكريم، أن يتحلّى المربي الداعية إلى الله تعالى بالصدق والإخلاص في خطابه التربوي، بحيث يتساوى في ذلك ظاهره مع باطنه، وأن يركز في محاوراته وحواراته على نقاط الالتقاء والاتفاق بينه وبين مخاطبيه، ممّن يعارضونه أو يكنّون له العداوة. وهو أسلوب قرآني بديع ومقنع يقدم لنا نموذجا فريدا في حوار كافة أصناف الناس، على اختلاف طبقاتهم وعقائدهم ومذاهبهم. ويسوق لنا الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي مثالا حيا في هذا الخصوص، انطلاقا من قوله تعالى: ﴿قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا وإيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نُسال عما تعملون قل يجمعُ بيننا ربّنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم﴾ سبأ: 24ـ26. يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآيات: "هذا إرشاد من الله لرسوله إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها، وذلك لأن أحد المتناظرين إذا قال للآخر: هذا الذي تقوله خطأ، وأنت فيه مخطئ يغضبه، وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر. وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض، وأما إذا قال له بأن أحدنا لا يشكّ في أنه مخطئ والتمادي في الباطل قبيح، والرجوع إلى الحق أحسن الأخلاق، فنجتهد ونبصر أينا على الخطأ ليحترز، فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر، ويترك التعصّب، وذلك لا يوجب نقصا في المنزلة، لأنه أوْهَمَ بأنه في قوله شاك. ويدل عليه قول الله تعالى لنبيه: ﴿وإنّا وإيّاكم مع أنه لا يشك في أنه هو الهادي وهو المهتدي، وهم الضالون والمضلّون..." .

4) قاعدة "الدين النصيحة":

إنها قاعدة عريضة في الإسلام لأنها تشكل عماد الدين وأساسه المتين، بل إن كل أوامر القرآن الكريم ونواهيه تدور في فلك هذه القاعدة الذهبية. ويعدّ النصح من صفات الرسل والأنبياء كلهم عليهم السلام، يقول تعالى: ﴿أُبلِّغُكم رِسَـالاتِ ربّي وأنْصَحُ لكُم وأعْلم مِنَ الله ما لا تَعْلَمون﴾ الأعراف: 61. يقول ابن كثير في تفسيره: "وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا فصيحا ناصحا عالما بالله لا يُدْرِكُهُم أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله قال لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: "أيّها الناس إنكم مسؤولون عنّي فما أنتم قائلون؟" قالوا نشهد أنك قد بلّغت وأدّيتَ ونصحتَ، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد اللهم اشهد". وعلى لسان هود عليه السلام يقول تعالى: ﴿أبَلِّغْكم رِسَالاتِ رَبِّي وأنَا لَكم نَاصِحْ آمين﴾ الأعراف: 67. تتضمن هذه الآية الكريمة صفات البلاغ والنصح والأمانة، وهي الصفات التي يتصف بها الرسل عليهم السلام". ولئن كانت النصيحة أسّ الدين وعماده فإنها تشكل ركيزة أساسية في الحوار التربوي المتضمن في خطاب الدعوة إلى الله تعالى، إذ النصح عموما، كما يقول الراغب الأصفهاني يتضمن معنى "تحرّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه". ودلالة ذلك كله أن الداعية إلى الله تعالى في حواره مع الناس عموما ينبغي أن يتمثل هذا المعنى، ويتحقق به في خطابه التربوي، عملا بكتاب الله تعالى وبسنة نبيّه . فعن أبي رقية تميم بن أوس الدّاري رضي الله عنه أن النبي قال: "الدّين النصيحة، قلنا: لمَن؟ قال: لله، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم . فالنصيحة الواردة في متن الحديث النبوي الشريف "كلمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة، تفسيرها إخلاص الرأي وإرادة الخير للمنصوح له". ولذلك كان لابد للداعية الناصح أن يمتلك فقه النّصح الذي يتأسس على المبادئ التالية :

1. النصح بالحكمة والموعظة الحسنة.

2. النصح بالحِلم والرفق بالجهّال الذين يتّبعون الشهوات البهيمية، ويرون في النصيحة معاكسة لرغباتهم ونزواتهم الحيوانية. لذلك عليه أن يصبر ويتجلّد عسى الله تعالى أن يهديهم فيستفيقوا من غفلتهم وإعراضهم.

3. النصح بالمقام المناسب للنصيحة، وتخيّر الأسلوب الملائم والعبارة اللائقة التي تؤدي المقصود، وتحقق الهدف المنشود.

لابد للداعية المربي إذن من استعمال أسلوب جديد في النصح والإرشاد، بعدما لم يعد أسلوب النصح بالأقوال يجدي وينفع في زمن التكالب على الدنيا وشهواتها إلى حد الجنون. فالداعية المربي اليوم مطالب أن يزاوج في خطابه بين أسلوب النصح بالأقوال وأسلوب النصح بالأفعال والسلوك والمخالطة الإيجابية. ولعل مما يجعل تربية الناس بهذه القاعدة الذهبية التي هي النصيحة من تحصيل الحاصل، هو انفصال الأقوال عن الأفعال وانفصام الظاهر عن الباطن في شخصية المربي الناصح، "بحيث يقف الرجل أمام الملأ فيحلل ويحرّم، ويعظ ويوجه، ويبشّر ويحذّر، فتذرف من أقواله الدموع، وتتسربل القلوب بالخشوع. ثم تراه إذا فارق مجلسه فارق مبادئه، وأقواله وخالفها بفعل الحرام وإتيان الموبقات والعياذ بالله، قال تعالى: ﴿أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون﴾ البقرة: 43. ولله درّ الشاعر حين قال:

ألا أيها الرجل المعلم غيره
فابدأ بنفسك فانهها عن غيّها
تصف الدواء لذي السّقام وذي الضّنـا

 

هلاّ لنفســـك كــان ذا التعليم
فإذا انتهت عنـه فأنت حكيـم
كيْما يصـحّ بِـــه وأنت سقيم"

 

ما أحوجنا اليوم إلى استلهام هذه المعاني الدقيقة من كتاب الله الكريم، وترجمتها إلى أفعال وأحوال ومقامات، ندعّم بها خطاباتنا التربوية، ونقوّي بها حواراتنا مع إخواننا من أبناء أمتنا الإسلامية بمختلف أصنافهم وفئاتهم ومشاربهم وأجناسهم وألوانهم وثقافاتهم، ومع كافة الناس من أبناء الملل الأخرى، حتى نتحقق بقول الله عز وجل ﴿كنتم خير أمّة أخْرِجَتْ للنّاسِ تَامُرُونَ بِالمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُومِنُونَ باللّهِ﴾ آل عمران: 110. وصلى الله وسلّم على نبينا المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. 

                                                           يتبــــــــــــــــع

 

([1]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 7/84.

([2]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 4/430.

([3]) الصحوة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، ص. 249.

([4])  القرآن الكريم، ابن كثير، 3/310 ـ 311.

([5])  القرآن العظيم، نفسه، 3/312.

([6]) مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص. 625.

([7]) الأربعين حديثا النووية، النووي، ص. 28، أنظر أيضا : سنن الترمذي، باب : ما جاء في النصيحة، رقم الحديث 1926، ص. 440.

([8]) نفس المصدر السابق، ص. 28.

([9]) إيضاح المعاني الخفية في الأربعين النووية، محمد تاتاي، ص. 65.

([10])إيضاح المعاني الخفية في الأربعين النووية، نفسه، ص. 66.





التالي
الشيخ القره داغي يوجه كلمة للأمة والعالم لدعم فلسطين والمقدسات والفلسطينيين
السابق
هل النبي صلى الله عليه وسلم أول خلق الله؟

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع