البحث

التفاصيل

الفهم المغلوط لعبارة: "دمُ المسلم أعظم حرمةً من الكعبة والمسجد الأقصى" (مقال)

الفهم المغلوط لعبارة: "دمُ المسلم أعظم حرمةً من الكعبة والمسجد الأقصى" (مقال)

بقلم: محمد خير موسى – عضو الاتحاد

 

 

لا يفتأ كثيرون يردّدون حديث ابن عمر الذي أخرجه ابن ماجه بسندٍ صحيح “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول: ما أطيبَك، وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمّد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمةً منك، ماله، ودمه”.

والحديث الذي أخرجه البيهقي عن ابن عباس: “لمّا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: مرحبًا بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك! وللمؤمن أعظم عند الله حرمة منك”.

فهذان الحديثان ذهب جماعةٌ من علماء الحديث إلى تصحيحهما، بخلاف العبارة التي تتردّد على ألسنة الكثير وهي “لَهَدْمُ الكعبة حجرًا حجرًا أهون من قتل المسلم” فهي ليست حديثًا نبويًّا وإن كان معناها قد ورد في أحاديث أخرى.

ولستُ هنا معنيًّا بتفصيل التّحقيق والتّخريج الحديثيّ أكثر من هذا القدر؛ فالمهمّ هو أن نقف مع المنهجيّة الخاطئة المغلوطة التي يتمّ التعامل بها مع هذه الأحاديث.

 

التّهوين لا التّعظيم.. فهمٌ مقلوبٌ

كثيرون يستشهدون بهذه الأحاديث اليوم للتّهوين ممّا يجري في المسجد الأقصى المبارك، من خلال مقارنته بما يجري في العديد من بقاع البلاد الإسلاميّة، ولسان مقال بعضهم تصريحًا ولسان حال كثيرين منهم تضمينًا: لا تصدعوا رؤوسنا بالحديث عن المسجد الأقصى؛ فإنّ دم طفل صغير في أيّ بلد من بلاد المسلمين أعظم من كل المسجد الأقصى، وإنّ هدم المسجد الأقصى لا يساوي حياة شاب قتله الطّغاة في بلداننا المكلومة.

وهذا المنطقُ التّفكيريّ والتّعبيريّ يسوق مع الوقت إلى القول: إنّ الأقصى مجرّد أحجار والإنسان أقدس منه فلا يجوز أن نضحي لأجله، وأن نزجّ الشّباب ليريقوا دماءهم دفاعًا عنه، ولقد سمعتُها -مع الأسف- من بعض من يُحسبون على التّنظير الفكريّ.

إنّ السّياق الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلّم هو سياق تعظيم شأن الدّماء، وتعظيم قيمة الإنسان، وتعظيم مكانة الرّوح الإنسانيّة، ولا يمكن أن يفهَم من به بقيّة من تذوّق للغة العرب أن الأحاديث سيقت للتّهوين من شأن الكعبة أو من شأن المقدّسات.

بل إنّ مقتضى مقارنة دم المسلم بالكعبة في سياق التّعظيم يعني جزمًا تعظيمَ شأن الكعبة لا التّهوين منها، فلك أن تتخيّل لو أنّ شخصًا قال لآخر: أنت أغلى عليّ من أبي وأمّي، فهل يفهم عاقلٌ من هذه العبارة أنّها تحمل معنى التّهوين من أبيه وأمّه؟ أمّ أن القائل بحثَ فوجد أغلى ما عنده أباه وأمّه، فقال لمحبوبه أنت أغلى عليّ من أغلى شيءٍ عندي!

فتعظيم دم المسلم من خلالِ إقرانه بعظمة الكعبة ومثلها من المقدّسات ينطوي على معنى تعظيمها وبيان أنّها من العظمة والمكانة بحيثُ غدت مضرب المثل بالمكانة العظيمة، ولا يفهم منها معنى التّهوين إلّا من فقد لسانُه أبسط قواعد العربيّة وفقدت ذائقته أيسر معاني التّعبير البلاغيّ.

 

الفهم المغلوط في النّظر لحقيقة الكعبة والمسجد الأقصى المبارك

ممّا يتسبّب في هذا التّهوين أيضًا المنطلقات التي ينطلق منها النّاظر إلى المسجد الأقصى المبارك ومثله الكعبة المشرفة.

فمن ينطلق في رؤيته للكعبة المشرّفة والمسجد والأقصى المبارك من كونهما محض أحجار، وليسا أكثر من بنيان لا يختلف عن غيره من الأبنية فمن الطبيعيّ أن يستشعر هذا المعنى التّهوينيّ، لكن من ينظر إلى المسجد الأقصى المبارك معجونًا بالرمزيّة التي رسّخها البيان الإلهيّ، وأضفاها الوحيّ عليه من أنّه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأوّل قبلة للمسلمين وثاني بيتٍ لله وضع في الأرض وثالث المساجد التي اختصّها الوحي بشدّ الرّحال فعندئذ لا يمكن النّظر إلى الأقصى المبارك إلّا على أنّه هويّة للمسلم وبنيانٌ لفكرةٍ تخالج نفس كلّ موحّد في الأرض.

هل سمعتَ أحدًا في الدّنيا يقول: إنّ علم بلاده مجرّد خرقة قماشيّة تساوي بضع دراهم فلا تستحق الغضبة من أجلها ولا الذّود عنها؟ أم أنّ الدّول تتعامل مع أعلامها على أنّها تمثّل هويّة البلاد وكرامتها وعنوان استقلالها وأيّ عدوان عليها لا يمكن تسخيفه بجعله محض اعتداءٍ على قطعةٍ قماشيّة زهيدة الثّمن.

وفي غزوة أحد هل سمعنا النبيّ صلى الله عليه وسلّم ينكرُ على مصعب بن عمير عندما استهدفت يده اليمنى التي يحمل بها الرّاية بالبتر فحملها باليسرى؟ وهل سمعنا النبيّ صلى الله عليه وسلّم أو أحد أصحابه يدعوه إلى إلقاء الرّاية لأنّها محض قطعة قماش ودمه أغلى منها، أم أنّهم رأوه يحتضنها بيديه المبتورتين دونما أيّ نكير عليه، وعندما قتل دفاعًا عن الرّاية سارع الصّحب إلى حملها قبل أن تسقط أرضًا. أليست الرّاية محض قماش؟ فعلامَ يريقون دماءهم لبقائها مرفوعة؟

كذلك هو العدوان على الأقصى المبارك ليس عدوانًا على أحجار وجدران وقبّة مطليّة بالذّهب، بل هو عدوان على دين وعقيدة ملياري مسلم في هذه الأرض، وهو اعتداءٌ على هويّة وكرامة المسلمين جميعًا باستهداف أحد أهم رموزهم المقدّسة التي تتجاوز معانيها الأحجار إلى الفكرة والهوية والعقيدة والرمزيّة المتعلقة بالكرامة والوجود.

لو أنّ طوفانًا أو نازلةً سماويّة داهمت الكعبة لقلنا بوجوب إخلائها لأنّ دم المسلم أغلى منها عند الله تعالى، ولو أنّ زلزالًا طبيعيًّا أصاب المسجد الأقصى المبارك لقلنا بوجوب إفراغه من المعتكفين فيه والابتعاد عنه مسافةً لا يتأذّى منها أحدٌ من النّاس لأنّ دم الإنسان أغلى منه عند الله تعالى حينها، ولكن إن أجلَبت خيول الباطل، وحشدت قوى العدوان، وتكاتفت حشود الصهاينة للعدوان على الأقصى واقتحامه فعندها نقول بوجوب الزّحف إليه والاحتشاد فيه، والرّباط في باحاته والدّفاع عنه بالأرواح والأنفس والأموال؛ لأنّه يمثّل حينها ديننا وعقيدتنا وهويّتنا وكرامتنا بل يمثّل معنى وجودنا فتهون الرّوح فداءً لذلك كلّه.





السابق
بذريعة تشكيل خطر على أمن الدولة.. الاحتلال يمنع خطيب الأقصى الشيخ عكرمة صبري من السفر 4 أشهر

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع