البحث

التفاصيل

الشيخ محمود أفندي.. الصوفيّ الذي جابه في حياته وجنازته

الرابط المختصر :

الشيخ محمود أفندي.. الصوفيّ الذي جابه في حياته وجنازته

بقلم: محمد خير موسى – عضو الاتحاد

 

في عيادة بدائيّة في ثلاثينيات القرن الماضي، في قرية من ضواحي ولاية طرابزون المشهورة بجمالها في تركيا، كان طبيبٌ يستخرج رصاصةً استقرّت في فخذ أحد الأطفال نتيجة إطلاق النار في عرس.

لم تكن في العيادة البدائيّة تجهيزات صالحة لهذه العمليّة التي تمّت دون تخدير، وكان الطبيب يمارس عمله وهو ينظر باستغراب إلى الطفل ذي السنوات الخمس الذي لم يبكِ أو يعبّر عن ألمه، ولم يفعل أكثر من تحريك شفتيه ببعض الأدعية.

انتهى الطبيب من عمله، فالتفتَ مخاطبًا عمّه الذي كان برفقته “هذا الطفل إمّا أنّه سيكون وليًّا كبيرًا أو شقيًّا كبيرًا.

هذا الطفل هو (محمود أوسطى عثمان أوغلو) الذي غدا حين كبر الشيخ محمود أفندي، شيخ الطريقة النقشبنديّة في تركيا المعروفة باسم “جماعة إسماعيل آغا” ثم صارت تُعرف باسم “جماعة محمود أفندي.

بداية المجابهة وقصّة افتتاح مقرّ الجماعة.. جامع إسماعيل آغا

كان الشيخ محمود ابن الخامسة والعشرين عامًا يلحّ على شيخه علي حيدر آخر شيخ للإسلام “المفتي العام” في الدولة العثمانيّة ليقوم بتنظيف جامع اسماعيل آغا في منطقة تشارتشمبا التابعة لحيّ الفاتح في إسطنبول.

هذا المسجد الذي باعته السلطة العلمانيّة لأحد التجّار فحوّله إلى مستودع، وكان يعاني بالغ الإهمال وغياب ملامحه المسجديّة.

رفضَ الشيخ علي حيدر هذا الطلب بتلطّف، مبيّنًا لمريده محمود أفندي أنّ “هذا الفعل يُعدّ جريمةً في القانون المفروض بقوّة السلطة القائمة، وسيدخلنا معها في مجابهة غير محسوبة العواقب.

بعد بضعة أيّام، دعا الشيخ علي حيدر تلميذه الشيخ محمود أفندي، وأبلغه عزمه على شراء المسجد وتنظيفه، وعند سؤاله عن سبب تغيّر موقفه قال: لقد بقيت ثلاث ليالٍ متتالية أسمع في منامي مَن يقرأ عليّ قول الله تعالى {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، وفي اليوم الثّالث جاءني ابني (شريف) فقال لي إنّه رأى الشيخ إسماعيل آغا دفين المسجد يقول له “لماذا لا ترمّمون المسجد؟ ماذا تنتظرون؟” فعلمتُ أنّها إشارةٌ إلهيّةٌ جاءت لتلبية طلبك في شراء وتجهيز جامع إسماعيل آغا.

وفعلًا في عام 1954، ذهب المفتي علي حيدر إلى التاجر واشترى منه المسجد، وقام مع تلميذه الشيخ محمود أفندي بتنظيف الجامع بمساعدة بضعة شبّان، وهكذا أصبح المسجد صالحًا للصلاة فيه ولكن من غير مصلّين.

هنا بدأت مرحلةً من الجهد المتواصل من الشيخ محمود أفندي، فكان يدخل الدكاكين والمحال التجاريّة والبيوت في الحيّ بيتًا بيتًا زائرًا بغاية اللطف، يسأل عن أحوالهم ويقول لهم “جئت أزور جيراني” ثمّ يقول لهم ملاطفًا قبيل مغادرته “جاء دوركم في الزيارة، تفضلوا لزيارتنا في بيت الله” فكان هذا سببًا في إقبال الناس على المسجد، فسارع الشيخ لإنشاء دارٍ لتعليم القرآن الكريم للرجال وأخرى للنساء داخل المسجد.

وكان تطوّر نشاط الشيخ محمود أفندي وتوسّع انتشاره السريع إيذانًا بتصاعد المجابهة بينه وبين السلطات القائمة التي كانت تحارب أيّ مظهرٍ من مظاهر الإسلام مهما كان بسيطًا.

محور المجابهة.. الحفاظ على المظهر الإسلامي في مواجهة التغريب

في الجنازة المليونيّة التي شيّعت الشيخ محمود أفندي، ظهرت عشرات آلاف العمائم من أبناء الجماعة، قد يبدو الأمر مألوفًا اليوم، لكنّه في زمنٍ مضى؛ حين بدأ الشيخ محمود أفندي نشاطه الدعوي، كان هذا المظهر يُعدّ جريمةً كبيرة.

العمامة، الجبّة، اللحية، اللباس الأسود للنساء المسمّى “الشرشف”؛ كلّها قد تبدو اليوم تفاصيل صغيرة، وقد يعدّها البعض قضايا هامشيّة، ولكن عندما تكون هذه القضايا هي أدوات المجابهة مع السلطة التي تريد محو كلّ ما له علاقة بالإسلام من مظهرٍ ومخبر؛ فإنّ هذه التفاصيل تغدو قضايا أساسيّة.

هكذا تعامل الشيخ محمود أفندي مع الأمر، فكان يُخرج بناته في الشارع وهنّ يرتدين الشرشف الأسود الخاص بالجماعة، ويطلب منهن السّير في الطرقات، معلّلًا ذلك بأنّه يريد أن يعتاد الناس على هذا المنظر ولا يرونه غريبًا أو شاذًا في ظلّ ما تمارسه السلطات من إجراءات تغريبيّة.

وكان يأمر أتباعه بإطلاق اللحى في ظلّ مجتمع يخشى فيه الناس من مجرد ظهور الشعر في الوجه خشية الملاحقة.

انتقال المجابهة من التهديد إلى التنفيذ

 

بدأت الجماعة تتوسّع بشكلٍ أفقيّ، لتعمّ الكثير من مدن تركيا وتنتشر خارج البلاد، ممّا أثار حفيظة السلطة، فبدأت مرحلةً جديدةً من المجابهة تمثّلت في الانتقال من التهديدات المستمرّة للشيخ محمود أفندي التي لم ترهبه إلى مرحلة التنفيذ.

بعد الانقلاب العسكريّ عام 1980، صدر قرارٌ بنفي الشيخ محمود أفندي من مدينة إسطنبول إلى مدينة إسكي شهير التي تبعد عن إسطنبول نحو 320 كيلومترًا، وذلك للحدّ من تأثيره وانتشاره، لكن الله تعالى هيّأ له مفتي إسطنبول الشيخ صلاح الدين قايا الذي جابه القرار وعمل بقوّة على منع تنفيذه واستطاع ذلك.

وفي عام 1982، قُتل مفتي منطقة أسكودار في إسطنبول؛ فسعت السلطات إلى اتهام الشيخ محمود أفندي بتدبير مقتله وأودع السجن، لتظهر بعد ذلك براءته وتنكشف المكيدة المرادة به.

تصاعدت المجابهة فامتدّت أيدي الانتقام إلى أحد أقرب تلاميذه وزوج ابنته (خضر علي مراد أوغلو) فاغتيل في جامع إسماعيل آغا عام 1998.

وفي عام 2006، اغتيل أهمّ تلاميذه ومعيد دروسه وصهره الثاني زوج ابنته أيضًا الشيخ (بيرم علي أوزتورك) الذي اغتيل هو الآخر في جامع إسماعيل آغا أثناء إلقائه درسه المعتاد.

ولم يَسلم الشيخ محمود أفندي نفسه من محاولات الاغتيال، فتعرّضت سيّارته لإطلاق الرصاص عام 2007، ولكنّه لم يكن فيها بل كان في المستشفى يتلقّى العلاج، وحين علم المنفذون ذلك ذهبوا إلى المستشفى وأطلقوا النار باتجاه نافذة غرفته التي كان يُمرَّض فيها.

الانتخابات والانقلاب والجنازة المليونيّة.. المجابهة مستمرّة

بعد أن كانت الجماعة بضعة أفراد أصبحت اليوم تُعدّ بالملايين في تركيا، وغدت بذلك رقمًا صعبًا في المعارك السياسيّة الانتخابيّة، وقد كانت الجماعة أحد أهمّ الداعمين للرئيس رجب طيب أردوغان في معاركه الانتخابيّة في البرلمان والرئاسة.

وحين وقعت محاولة الانقلاب في 15 من تموز (يوليو) عام 2016، صدرت الأوامر المباشرة من الشيخ محمود أفندي للجماعة بالنفير ومواجهة الانقلاب، وكانت الجماعة في مقدمة النازلين إلى الشوارع بمنطقة الفاتح في إسطنبول، وخاض المريدون -رجالًا ونساءً- مواجهات شرسة مع الانقلابيّين لا سيما في منطقة الأمنيّات والبلديّة، وكان لهم دور واضح مع عموم الشعب التركيّ في مواجهة الانقلاب وإفشاله.

ولا يمكن فصل الجنازة المليونيّة التي أغلقت منطقة الفاتح بالكامل وتدفقت إليها الأمواج البشريّة عن سياق المجابهة، فالجنازة لم تكن مجرّد تشييع بل كانت استعراض قوّة لإثبات هويّة البلاد من جهة، وحضور التيّار الإسلاميّ المحافظ من جهةٍ أخرى، ولذلك جاءت تعليقات العلمانيّين على الجنازة فيها الكثير من الغيظ والحنق والغضب.

رحل الشيخ محمود أفندي وقد حقّق رسالته في الإحياء، فهو الذي كان يردّد على الدوام على مسامع مريديه “ليست مهمّتنا قتل الناس، ولكن وظيفتنا أن نحيي الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وأن نوصلهم إلى الله تعالى”.





التالي
فوائد الحج
السابق
يستهدف اللاجئين السوريين.. القره داغي يتفق مع مسؤولي الصحة بالأردن على دعم مشروعين لــ "غسيل الكلى وعلاج السرطان"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع