البحث

التفاصيل

حوار مع ملحد

حوار مع ملحد

بقلم: الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله

 

دار بيني وبين أحد الملاحدة جدال طويل، ملكت فيه نفسي وأطلت صبري حتى ألقف آخر ما في جعبته من إفك، وأدمغ بالحجة الساطعة ما يوردون من شبهات..

قال: إذا كان الله قد خلق العالم فمن خلق الله؟

قلت له: كأنك بهذا السؤال أو بهذا الاعتراض تؤكد أنه لا بد لكل شيء من خالق!!

قال: لا تلقني في متاهات، أجب عن سؤالي.

قلت له: لا لف ولا دوران، إنك ترى أن العالم ليس له خالق، أي أن وجوده من ذاته دون حاجة إلى موجد، فلماذا تقبل القول بأن هذا العالم موجود من ذاته أزلاً وتستغرب من أهل الدين أن يقولوا: إن الله الذي خلق العالم ليس لوجوده أول؟ إنها قضية واحدة، فلماذا تصدق نفسك حين تقررها وتكذب غيرك حين يقررها، وإذا كنت ترى أن إلهاً ليس له خالق خرافة، فعالم ليس له خالق خرافة كذلك، وفق المنطق الذى تسير عليه!!..

قال: إننا نعيش في هذا العالم ونحس بوجوده فلا نستطيع أن ننكره!

قلت له: ومن طالبك بإنكار وجود العالم؟

إننا عندما نركب عربة أو باخرة أو طائرة تنطلق بنا في طريق رهيب، فتساؤلنا ليس في وجود العربة، وإنما هو: هل تسير وحدها أم يسيرها قائد بصير!!

ومن ثم فإنني أعود إلى سؤالك الأول لأقول لك: إنه مردود عليك، فأنا وأنت معترفان بوجود قائم، لا مجال لإنكاره، تزعم أنه لا أول له بالنسبة إلى المادة، وأرى أنه لا أول لها بالنسبة إلى خالقها. فإذا أردت أن تسخر من وجود لا أول له، فاسخر من نفسك قبل أن تسخر من المتدينين..

قال: تعنى أن الافتراض العقلي واحد بالنسبة إلى الفريقين؟

قلت: إنني أسترسل معك لأكشف الفراغ والادعاء الذين يعتمد عليهما الإلحاد وحسب، أما الافتراض العقلي فليس سواء بين المؤمنين والكافرين، إنني -أنا وأنت- ننظر إلى قصر قائم، فأرى بعد نظرة خبيرة أن مهندساً أقامه، وترى أنت أن خشبة وحديدة وحجرة وطلاءة قد انتظمت في مواضعها وتهيأت لساكنيها من تلقاء أنفسها، الفارق بين نظرتينا إلى الأمور أنني وجدت قمراً صناعياً يدور في الفضاء، فقلت أنت: “انطلق وحده دونما إشراف أو توجيه” وقلت أنا: بل أطلقه عقل مشرف مدبر..

إن الافتراض العقلي ليس سواء، إنه بالنسبة إليّ الحق الذي لا محيص عنه، وبالنسبة إليك الباطل الذى لا شك فيه، وإن كل كفار عصرنا مهرة في شتمنا نحن المؤمنين ورمينا بكل نقيصة في الوقت الذى يصفون أنفسهم فيه بالذكاء والتقدم والعبقرية، إننا نعيش فوق أرض مفروشة، وتحت سماء مبنية، ونملك عقلاً نستطيع به البحث والحكم، وبهذا العقل ننظر ونستنتج ونناقش ونعتقد، وبهذا العقل نرفض التقليد الغبي كما نرفض الدعاوى الفارغة، وإذا كان الناس يهزؤون بالرجعيين عبيد الماضي ويتندرون بتحجرهم الفكري، فلا عليهم أن يهزؤوا كذلك بمن يميتون العقل باسم العقل، ويدوسون منطق العلم باسم العلم، وهم للأسف جمهرة الملاحدة!!..

لكننا نحن المسلمين نبني إيماننا بالله على اليقظة العقلية والحركة الذهنية، ونستقرئ آيات الوجود الأعلى من جولان الفكر الإنساني في نواحي الكون كله، في صفحة واحدة من سورة واحدة من سور القرآن الكريم وجدت تنويهاً بوظيفة العقل اتخذ ثلاث صور متتابعة في سلم الصعود، هذه السورة هي سورة الزمر، وأول صورة تطالعك هي إعلاء شأن العلم والغض من أقدار الجاهلين: “قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب”، ثم تجيء الصورة الثانية لتبين أن المسلم ليس عبد فكرة ثابتة أو عادة حاكمة بل هو إنسان يزن ما يعرض عليه ويتخير الأوثق والأزكى “فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب” (الزمر: 9)، ثم يطرد ذكر أولي الألباب للمرة الثالثة في ذات السياق على أنهم أهل النظر في ملكوت الله الذين يدرسون قصة الحياة في مجالاتها المختلفة لينتقلوا من المخلوق إلى الخالق “ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن في ذلك لذكرى لأولى الألباب” (الزمر: 21) وظاهر من الصور الثلاث في تلك الصفحة من الوحي الخاتم أن الإيمان المبتوت الصلة بالتقليد الأعمى أو النظر القاصر أو الفكر البليد، إنه يلحظ إبداع الخالق في الزروع والزهور والثمار، وكيف ينفلق الحمأ المسنون عن ألوان زاهية أو شاحبة توزعت على أوراق وأكمام حافلة بالروح والريحان، ثم كيف يحصد ذلك كله ليكون أكسية وأغذية للناس والحيوان، ثم كيف يعود الحطام والقمام مرة أخرى زرعاً جديد الجمال والمذاق تهتز به الحقول والحدائق، من صنع ذلك كله؟

قال صاحبي وكأنه سكران يهذي: الأرض صنعت ذلك!!

قلت: الأرض أمرت السماء أن تهمي والشمس أن تشع وورق الشجر أن يختزن الكربون ويطرد الأوكسجين والحبوب أن تمتلئ بالدهن والسكر والعطر والنشا؟؟

قال: أقصد الطبيعة كلها في الأرض والسماء!

قلت: إن طبق الأرز في غذائك أو عشاءك تعاونت الأرض والسماء وما بينهما على صنع كل حبة فيه، فما دور كل عنصر في هذا الخلق؟ ومن المسؤول عن جعل التفاح حلواً والفلفل حريفاً أهو تراب الأرض أم ماء السماء؟

قال: لا أعرف ولا قيمة لهذه المعرفة!!

قلت: ألا تعرف أن ذلك يحتاج إلى عقل مدبر ومشيئة تصنف؟

فأين ترى العقل الذي أنشأ والإرادة التي نوعت في أكوام السباخ أو في حزم الأشعة؟؟

قال: إن العالم وجد وتطور على سنة النشوء والارتقاء ولا نعرف الأصل ولا التفاصيل!!

قلت له: أشرح لكم ما تقولون! تقولون: إنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان مجموعة من العناصر العمياء، تضطرب في أجواز الفضاء، ثم مع طول المدة وكثرة التلاقي سنحت فرصة فريدة لن تتكرر أبد الدهر، فنشأت الخلية الحية في شكلها البدائي ثم شرعت تتكاثر وتنمو حتى بلغت ما نرى!! هذا هو الجهل الذي أسميتموه علماً ولم تستحوا من مكابرة الدنيا به!! أعمال حسابية معقدة تقولون إنها حلت تلقائياً، وكائنات دقيقة وجليلة تزعمون أنها ظفرت بالحياة في فرصة سنحت ولن تعود!! وذلك كله فراراً من الإيمان بالله الكبير!!

قال وهو ساخط: أفلو كان هناك إله كما تقول كانت الدنيا تحفل بهذه المآسي والآلام، ونرى ثراء يمرح فيه الأغبياء وضيقاً يحتبس فيه الأذكياء، وأطفالاً يمرضون ويموتون، ومشوهين يحيون منغصين..

 

قلت: لقد صدق فيكم ظني، إن إلحادكم يرجع إلى مشكلات نفسية واجتماعية أكثر مما يعود إلى قضايا عقلية مهمة!! ويوجد منذ عهد بعيد من يؤمنون ويكفرون وفق ما يصيبهم من عسر ويسر “ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة” (الحج:11)

قال: لسنا أنانيين كما تصف نغضب لأنفسنا أو نرضى لأنفسنا، إننا نستعرض أحوال البشر كافة ثم نصدر حكمنا الذي ترفضه..

قلت: آفتكم أنكم لا تعرفون طبيعة هذه الحياة الدنيا ووظيفة البشر فيها، إنها معبر مؤقت إلى مستقر دائم، ولكي يجوز الإنسان هذا المعبر إلى إحدى خاتمتيه لا بد أن يبتلى بما يصقل معدنه ويهذب طباعه، وهذا الابتلاء فنون شتى، وعندما ينجح المؤمنون في التغلب على العقبات التي ملأت طريقهم وتبقي صلتهم بالله واضحة مهما ترادفت البأساء والضراء فإنهم يعودون إلى الله بعد تلك الرحلة الشاقة ليقول لهم: “يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون” (الزخرف: 68)

قال: وما ضرورة هذا الابتلاء؟

قلت: إن المرء يسهر الليالي في تحصيل العلم، ويتصبب جبينه عرقاً ليحصل على الراحة، وما يسند منصب كبير إلا لمن تمرس بالتجارب وتعرض للمتاعب، فإن كان ذلك هو القانون السائد في الحياة القصيرة التي نحياها على ظهر الأرض فأي غرابة أن يكون ذلك هو الجهاد الصحيح للخلود المرتقب؟

قال -مستهزئاً-: أهذه فلسفتكم في تسويغ المآسي التي تخالط حياة الخلق وتصبير الجماهير عليها؟ قلت: سأعلمك -بتفصيل أوضح- حقيقة ما تشكو من شرور، إن هذه الآلام قسمان: قسم من قدر الله في هذه الدنيا، لا تقوم الحياة إلا به، ولا تنضج رسالة الإنسان إلا في حره، فالأمر كما يقول الأستاذ العقاد: تكافل بين أجزاء الوجود، فلا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصبر بغير الشدة، ولا معنى لفضيلة من الفضائل بغير نقيصة تقابلها وترجح عليها.. وقد يطرد هذا القول في لذاتنا المحسوسة كما يطرد في فضائلنا النفسية ومطالبنا العقلية، إذ نحن لا نعرف لذة الشبع بغير ألم الجوع، ولا نستمتع بالري ما لم نشعر قبله بلهفة الظمأ، ولا يطيب لنا منظر جميل ما لم يكن من طبيعتنا أن يسوؤنا المنظر القبيح، وهذا التفسير لطبيعة الحياة العامة ينضم إليه أن الله جل شأنه يختبر كل امرئ بما يناسب جبلته، ويوائم نفسه وبيئته، وما أبعد الفروق بين إنسان وإنسان، وقد يصرخ إنسان بما لا يكترث به آخر ولله في خلقه شؤون، والمهم أن أحداث الحياة الخاصة والعامة محكومة بإطار شامل من العدالة الإلهية التي لا ريب فيها. إلا أن هذه العدالة كما يقول الأستاذ العقاد: لا تحيط بها النظرة الواحدة إلى حالة واحدة، ولا مناص من التعميم والإحاطة بحالات كثيرة قبل استيعاب وجوه العدل في تصريف الإرادة الإلهية. إن البقعة السوداء قد تكون في الصورة كلها لوناً من ألوانها التي لا غنى عنها، أو التي تضيف إلى جمال الصورة ولا يتحقق لها جمال بغيرها، ونحن في حياتنا القريبة قد نبكى لحادث يعجبنا ثم نعود فنضحك أو نغتبط بما كسبناه منه بعد فواته، تلك هي النظرة الصحيحة إلى المتاعب غير الإرادية التي يتعرض لها الخلق.

أما القسم الثاني من الشرور التي تشكو منها يا صاحبي فمحوره خطؤك أنت وأشباهك من المنحرفين.

قال مستنكراً: أنا وأشباهي لا علاقة لنا بما يسود العالم من فوضى؟ فكيف تتهمنا؟

قلت: بل أنتم مسئولون، فإن الله وضع للعالم نظاماً جيداً يكفل له سعادته، ويجعل قويه عوناً لضعيفه وغنيه براً بفقيره، وحذر من اتباع الأهواء واقتراف المظالم واعتداء الحدود. ووعد على ذلك خير الدنيا والآخرة “من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون”. فإذا جاء الناس فقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وتعاونوا على العدوان بدل أن يتعاونوا على التقوى فكيف يشكون ربهم إذا حصدوا المر من آثامهم؟

إن أغلب ما أحدق بالعالم من شرور يرجع إلى شروده عن الصراط المستقيم، وفي هذا يقول الله جل شأنه: “وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير” (الشورى: 20)

إن الصديق رضى الله عنه جرد جيشاً لقتال مانعي الزكاة، وبهذا المسلك الراشد أقر الحقوق وكبح الأثرة ونفذ الإسلام، فإذا تولى غيره فلم يتأس به في صنيعه كان الواجب على النقاد أن يلوموا الأقدار التي ملأت الحياة بالبؤس؟!

قال: ماذا تعني؟

قلت: أعني أن شرائع الله كافية لإراحة الجماهير، ولكنكم بدل أن تلوموا من عطلها تجرأتم على الله واتهمتم دينه وفعله!!

ومن خسة بعض الناس أن يلعن السماء إذا فسدت الأرض، وبدلاً من أن يقوم بواجبه في تغيير الفوضى وإقامة الحق يثرثر بكلام طويل عن الدين ورب الدين..!!

إنكم معشر الماديين مرضى تحتاج ضمائركم وأفكاركم إلى علاج بعد علاج..

وعدت إلى نفسي بعد هذا الحوار الجاد أسألها: إن الأمراض توشك أن تتحول إلى وباء، فهل لدينا من يأسو الجراح ويشفي السقام أم أن الأزمة في الدعاة المسلمين ستظل خانقة؟

المصدر: من كتاب: قذائف الحق


: الأوسمة



التالي
سنة الابتلاء في قصة نوح عليه السلام "دعوة للتدبر في القصص القرآني"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع