البحث

التفاصيل

الصبر في المحن والشدائد

وفي كل يوم يثبت شعبنا الفلسطيني الصابر المصابر المرابط تمسكه بقضيته العادلة ، وفي كل يوم يضرب أروع أمثلة البطولة والفداء في سبيل دينه ووطنه ، وعلى الرعم من العدوان الهمجي الذي يمارسه الاحتلال الغاشم ضد أبنائه إلا أنه ما زال ثابتاً مقداماً لا يبالي بما قدم من تضحيات غالية ، فهو المنتصر دوماً مهما عظمت الأثمان التي يقدمها على طريق الجهاد المقدس التي سلكها وفي ميدان معركة الكرامة والشرف التي يخوضها نيابة عن الأمة بكاملها .
     يستميت الأعداء من خلال المحن في القضاء على من يحمل قضايا أمته ووطنه كي تنثني عزيمته وتنحني هامته ويتخلى عن مبادئه وقيمه العليا ، ولكن هيهات لأهل العزم أن يتخاذلوا أمام القهر أو يخنعوا أمام التعذيب ، فالمحنة تثمر التحدي الذي يثبت قدرة من ربطوا مصيرهم بالعمل لقضاياهم على تجاوزها ، وهي التربية الواقعية التي تصقل الشخصية وتمتحن الصبر ، وهي دليل صدق الإيمان بالقضية والكفاح في سبيلها ، فالقضية عزيزة عند أصحابها بقدر ما صبروا وقدموا لها من تضحيات ، أما إن هانت عليهم فلن يحتملوا لأجلها أدنى الشدائد وسرعان ما يتنازلون عنها ، بل إنها بذلك تعظُمُ في عيون غيرهم وربما صاروا من أتباعها وأنصارها ، وهكذا تترسخ القضية وتبقى خالدة لا تموت بموت دعاتها وبالأخص إذا كان قادتها يسابقون في البذل فهذا من أهم عوامل انتشارها ، فكل شهيد يسقط يزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة ويحرك ضمير الأمة لتدافع مخلصة عن مبادئها وقضاياها .
     والمحنة ضرورية أحياناً ، فالجنة ثمنها غال قال تعالى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } البقرة 214 . فمن يدّعي الإيمان يتعرض للاختبار حتى يُعرف صدقه ، قال تعالى { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } العنكبوت 2 ، فالشدائد هي التي تظهر معادن الناس وتنقّي صفوفهم ، وهذا ما كان في غزوة أحد ، فالمصاب العظيم الأليم كشف الولاء الحقيقي للمؤمنين وأظهر أعداءهم ومن اخترق جماعتهم قبل أن يكشفهم القرآن ، قال تعالى { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } آل عمران 179 . ولولا هذه المحنة ما ظهر الأصيل من الدخيل وما عرف المخلص من المغرض ، وما كان بمقدور المؤمنين الكشف عن ذلك ، فالله سبحانه يبتلي عباده المؤمنين بناء على قوة إيمانهم ، فقد سئل صلى الله عليه وسلم { أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه } رواه الترمذي .
     ومما يطمئن القلب ويخفف الألم أن طريق المحن سلكه رسل الله جميعاً ، قال تعالى { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا...} الأنعام 34 ، فكلهم تعرضوا للابتلاء مع تفاوتهم فيه فكان منهم أولوا العزم ، قال تعالى { ... فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ... } الأحقاف 35 ، فهم أولى من نتمثّل بهم في الصبر على البلاء بكل أشكاله وأنواعه ، فقد لاقوا منه ما رفع منزلتهم عند ربهم جل وعلا فجعلهم قدوةَ من بعدهم .
     وتتعدد صور الابتلاء التي تصيب المؤمن ، فمنها أن ترى الباطل يتمكّن ويمتلك أسباب القوة والهيمنة في الوقت الذي ترى فيه أهل الحق يعانون التضييق ، فهذه جولة الباطل التي لا تدوم ، قال تعالى { لا يغرنك تقلب الذين طغوا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } آل عمران 196-197 . ومن صور البلاء ألا تجد النصير المساند ولا القوة الرادعة بل ترى الأمم تتداعى على أمتك ، وقد يكون الابتلاء بانقلاب أبناء جلدتك وأمتك عليك وعلى قضيتك ، وقد يؤذيك العدو بالأهل فلا تملك الذود عنهم . وقد تبتلى الأمة بالدعاية المشوهة والوصم بالشيطنة ، قال تعالى { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً } آل عمران 186 .
     أما الاغتيال والتصفية الجسدية فهي الحل الأخير عندما يلتحم المرء بقضيته فيرتفع خطره على عدوه إلى درجة حرجة لا يجدي معه أي نوع من التهديد أو الإغراء ، إنها الشهادة التي إذا نالها هؤلاء الأبطال الأماجد فهي عندهم أرفع وسام من الله عز وجل . والسجن محنة كبرى وأداة إرهاب لأنه ابتلاء في الحرية وحرمان من التعبير وعقوبة تأديبية للسجين ليتوقف عن متابعة نشاطه بأخذ تعهدات قاسية عليه حتى يقتنع بأن مبدأه مصدر شقاء له ، وما علم العدو أن السجن باب للأخوّة وملتقى للأحرار ، وأن الحبس الانفرادي هو خلوة مع الله .
     إن الأمة لا تخاف المحنة بل تستبشر بها لأن ثباتها قوة يصغُرُ عندها ما تلاقيه من قمع وكيد ، وقد هيأ رسول الله أصحابه لهذه التعبئة النفسية ، قال خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه { شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون } رواه البخاري .
     إن الصبر والمصابرة هي السبيل إلى بناء الصفوة ممن يحملون قضايا الأمة ويبذلون لأجلها كل غال عزيز لأنهم يرسمون للأجيال القادمة طريق المستقبل ، لذا فالمؤمن الحق يوقن أن لا مفر له من الأزمات والنائبات ، فهي العاصمة له من التخبط في ظلمات الفتن وليل المحن ، وهي الحامية له من الذهول عند الابتلاءات ، إذا استنارت روحه بضياء الصبر وتحرر فؤاده من رهبة القنوط والخوف ، وإذا أخذ أهبته لئلاَّ تباغته النوازل على غفلة منه ، فمن علم أن الله تعالى سيبدله بكل ذلك رضاً نفسياً وسكوناً قلبياً فقد صح إيمانه وخلص قلبه إذ لا يمكن للإيمان أن يجتمع مع الاعتراض على الله والسخط على أقداره .
     فالله سبحانه لم يقدر المحنة لتهلك المؤمن بل لتمتحن صبره وإيمانه ، وما كتب سبحانه فتنة الابتلاء إلاَّ لتميز المؤمنين وتنقي صدورهم وصفوفهم ، فمراتب الكمال متعلقة بالصبر ، وهو سبحانه يضاعف الأجر والثواب لعبده على صبره ورضاه بقدره وإخباته لابتلاء ربه ، ولا يحسبن المبتلى ما دام طائعاً عابداً أن ربه عز وجل غاضب عليه ، قال صلى الله عليه وسلم { إذا أحب الله قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط } رواه الترمذي .
     أما من جزع فله الجزع ، قال صلى الله عليه وسلم { ما يصيب المسلم من وصبٍ ولا نصبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّرّ الله بها من خطاياه } رواه البخاري . والجزع هو قلة الصبر وضعف الهمة عن الاحتمال ، وإكثار الشكوى والتظلم من البأساء والضراء .
     والصبر من صفات الرجولة الناضجة والبطولة الفارعة ، فإن عظائم الحياة وأثقالها لا يحملها صغار النفوس وضعاف الهمم ، فعلى قدر العزم تأتي العزائم ، ولا ينهض بالمهام الكبرى إلاَّ العمالقة ، لذا كان الصبر من معالم العظمة ومن دلائل هيمنة النفس واستعلائها على الخوار أو الانهيار أمام الأقدار ، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } البقرة 153-157 .
     والرضا قرين الصبر ، فالصبر فرض والرضا فضل , فإذا اجتمع الصبر والرضا اجتمع مع التكفير الثواب لأن المصائب كفارات للذنوب قطعاً ، قال صلى الله عليه وسلم { ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة } رواه الترمذي . ويحسن بالمؤمن أن يرتقي إلى الشكر وهو أعلى منزلة من الصبر والرضا ، فيرى المحنة منحة من الله الذي أراد بها تمحيص ذنوبه ، وربما أراد تبليغه منزلة لم يبلغها بعمله لأن من اشتد خوفه بكى ، ومن اشتدت مصيبته دعا ، وما دعا صادق رله إلاّ! أجيب ، قال تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } البقرة 186 .
     وحقيقة الصبر هي حبس النفس عن كل ما يسخط الله في القلب واللسان والجوارح ، وهو ﻭﺍﺟﺐ ﺑﺈﺟﻤﺎﻉ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ لقوله تعالى { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} المدثر 7 ، وﻫﻮ ﺧﻠﻖ ﻓﺎﺿﻞ ﻳﻤﺘﻨﻊ ﺑﻪ المرء من ﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺤﺴﻦ ﻭﻻ ﻳﺠﻤﻞ . فمن أعظم فوائده إذن الاستقامة على شرع الله والثبات على دينه ، ومما يدل على أهميته وشدة الحاجة إليه أن المؤمن يتقلب بين حالين إما السراء فيشرع له الشكر أو الضراء فيشرع له الصبر ، قال صلى الله عليه وسلم {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له } رواه مسلم .
     ويدخل في الصبر على المصائب ﺗﺮﻙ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻠﻮﻯ ﻟﻐﻴﺮ ﺍﻟﻠﻪ ، فهو وحده الذي يكشف الضر ويرفع البلاء عن عباده ، فهذا سيدنا أيوب عليه السلام لما ابتلي شكى إلى ربه ، قال تعالى { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } الأنبياء 83 ، وهذا سيدنا يعقوب عليه السلام شكى لربه بلواه بفقد ابنه ، قال تعالى { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } يوسف  86 .
     ومن أعظم المواقف التي يتأكد فيها الصبر قتال الكفار في سبيل الله ، قال تعالى { وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } البقرة  250 ، ومنها أيضاً الصبر على مخالطة الناس ولو آذوه ، قال صلى الله عليه وسلم { المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم } رواه الترمذي .
     وعلق الله عز وجل فلاح المؤمن بالصبر والتقوى فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } البقرة 200 . وبشر الله الصابرين بثلاث بشريات فقال تعالى ( ... وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } البقرة 155-157 .
     وأمر سبحانه وتعالى عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال عز من قائل ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) البقرة 45 ، وأكد سبحانه وتعالى بالقسم مكانة الصبر فقال تعالى { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } العصر 1-3 .

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس


: الأوسمة



التالي
(الآذان من ميزات الصلاة الإسلامية)
السابق
المثلية بالإكراه l د. فتحي أبو الورد

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع