البحث

التفاصيل

(2) بيوع الغرر والجهالة | سلسلة التفـقّه في البيوع

(2) بيوع الغرر والجهالة | سلسلة التفـقّه في البيوع

بقلم: د. أحمد الإدريسي

 

مقدمة:

تتجلى أهمية فقه المعاملات المالية في كونه هو الميزان الذي يقاس على أساسه الحلال والحرام في المعاملات، وقد أصبح اليوم أكثر فروع الشريعة تدخلا في الاقتصاد العالمي إذ وفرت نظرية المعاملات المالية الكثير من الحلول لمشكلات المالية العامة.

وكما سبقت الإشارة، يجب على المسلم أن يراقب نفسه في معاملاته بينه وبين الخلق، فقد جعل الله تعالى بين الناس معاملات لها ضوابط شرعية، وسيحاسبهم عليها يوم القيامة.

 

أولا: بيع الغرر وأحكامه.

1- تعريف الغرر:

– لغة: الخطر والخداع، قال الخطابي: أصل الغرر ما طُوِي عنك وخفي عليك باطنه.  ومنه الغرور: وهو كل ما غر الإنسان من مال أو جاه؛ قال تعالى: ﴿وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ (الحديد: 14).

– اصطلاحا: الغرر هو كل ما كان مجهول العاقبة، لا يُدرى أيحصل أم لا يحصل. وبيوع الغرر هي: البيوع التي انطوت على مخاطرة أو مقامرة أو جهالة في العاقبة أو الثمن أو المثمن، أو الأجل[1]، لذا: فلقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيوع الغرر.

قال الإمام النووي: والنهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، وتدخل فيه مسائل منها: بيع العبد الآبق وبيع المجهول والمعدوم، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء، واللبن في الضرع، والحمل في البطن، وكل ذلك باطل؛ لأنَّه غرر، وذكره الإمام الشافعي. وقد ذكر ابن تيمية أنَّ أقسام بيوع الغرر ثلاثة: إما المعدوم، كحبَل الحبَلة وبيع السنين، وإما المعجوز عن تسليمه، كالعبد الآبق، وإما المجهول، فمثل قوله بعتك عبدا. وقال ابن تيمية: مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء، وأكل الأموال بالباطل، كما أنه نوع من المخاطرة والقمار والميسر الذي حرَّمه الله في القرآن[2].

 

2- حكم بيوع الغرر:

هي بيوع باطلة محرمة باتفاق الأئمة الأربعة، بل نقل ابن هبيرة الإجماع على بطلان بيوع الغرر، فهي بيوع مفسوخة لا يترتب عليها آثارها، ومطلق النهي هنا يقتضي الفساد.

أما بيوع الضرر فهي البيوع التي استوفت شروطها وأركانها اللازمة لصحة البيع، ولكن صاحَبَها وصفٌ قد نهى الشرع عنه لما فيه من إلحاق الضرر بالآخرين، ومن أمثلتها: بيع الرجل على بيع أخيه، وبيع الحاضر للباد، وتلقي الركبان وبيع المصراة.

وحكم بيوع الضرر أنها؛ صحيحة يترتب عليها آثارها، ويأثم فاعلها لمخالفته للنهي، فهنا لا نقول: “مطلق النهي يقتضي الفساد”، وذلك لأن النَّهي هنا جاء لوصف خارج عن صفة البيع.

ومن الغرر ما يُغتفر، وهو الغرر اليسير، هناك من البيوع ما يكون فيها غررًا يسيرًا يُغتفر في جنب المصلحة المرجوة من البيع. قال ابن تيمية: استقرت الشريعة على أن ما يحتاج إلى بيعه مع الغرر، فإنه يجوز بيعه، ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في بيع العقار، مع أن أساس الحيطان وداخلها مغيَّب، فالغرر اليسير يجوز ضمنًا وتبعًا، وقال رحمه الله: وأصول الحكمة التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي تقديم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير[3]. وقال النووي: أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير، كبيع الجُبة وإن لم ير حشوها[4].

قال ابن رشد: والعلماء متفقون على تجويز الغرر القليل[5]. وقال ابن العربي من المالكية: والغبن ممنوع إجماعا؛ إذ هو من الخداع المحرم، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز منه فيمضي في البيوع، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا[6]. وقال الخطابي: وأما بيع الجوز في قشره، فإنه غرر معفو عنه لما فيه من الضرورة، وذلك أنه لو نُزِع لبه عن قشره أسرع إليه الفساد والعفن[7].

وهناك من البيوع ما يظنها البعض غررا، وهي ليست كذلك، مثل: بيع المغروس في الأرض، والذي لا يظهر إلا ورقه فقط. وذلك مثل بيع اللفت والقلقاس والفجل والثوم والبصل، جاء في مجموع الفتاوى: (وقول المالكية وقول أحمد في رواية هو تصحيح مثل هذه البيوع، خلافًا للشافعية والحنفية الذين يشترطون قلع هذه الزروع حتى يصح البيع)[8]. وقال في موضع آخر: (وبيع مثل هذه الأشياء ليس من الغرر، بل إن أهل الخبرة يستدلون بما يظهر من الورق على المُغيَّب في الأرض، كما أنَّ بيع هذه الأشياء هي مما يحتاج إليه، فأباحها الشارع للحاجة)[9]. قال ابن القيم: “وأما تعليق صحة بيع المغيَّبات على أنْ تقلع، فإن هذا من أعظم الضرر، مع ما فيه من الفساد الذي لا تأتي به الشريعة”[10].

 

ثانيا: الجهالة وأحكامها.

1- تعريف الجهالة:

– الجهالة لغة‏:‏ من جهلت الشّيء خلاف علمته ومثلها الجهل، والجهالة أن تفعل فعلاً بغير العلم‏.‏

– الجهالة اصطلاحا‏:‏ إن استعمال الفقهاء لهذين لفظي الجهل والجهالة يشعر بالتّفريق بينهما، فيستعملون الجهل – غالباً – في حالة ما إذا كان الإنسان موصوفاً به في اعتقاده أو قوله أو فعله‏.‏ أمّا إذا كان الجهل متعلّقا بخارج عن الإنسان كمبيع ومشترى وإجارة وإعارة وغيرها، وكذا أركانها وشروطها، فإنّهم في هذه الحالة غلّبوا جانب الخارج، وهو الشّيء المجهول، فقد وصفوه بالجهالة، وإن كان الإنسان متّصفاً بالجهالة أيضاً‏.‏

 

2- مراتب الجهالة:

– الجهالة الفاحشة: تفضي إلى النزاع وتمنع صحة العقد، ويدخل في هذه المرتبة بيوع الغرر المنهي عنها، كبيع حَبَل الحَبَلَة وبيع الملامسة والمنابذة والحصاة ونحو ذلك. وكأن يبيع شاة من قطيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع؛ تحصيناً للأموال أن تضيع، وحفظاً للمودة والأخوة بين المسلمين، وقطعاً للخصومة والنزاع بين الناس.

 

– الجهالة المتوسطة: وهي ما كانت دون الفاحشة وفوق اليسيرة، وهذه هي التي اختلف العلماء فيها بين ملحق لها بالفاحشة وآخر باليسيرة.. مثل إذا قال له: أبيعك أحد هذين الثوبين من صنف واحد، وقد لزمه أحدهما أيهما اختار، وافترقا قبل الخيار، فالشافعي يلحق هذا بالغرر الكثير لأنهما افترقا على بيع غير معلوم، ومالك ألحقه بالغرر القليل لأنه يجيز الخيار بعد عقد البيع في الأصناف المستوية لقلة الغرر عنده في ذلك، ومثله بيع اللوز والجوز في قشره، أجازه مالك ومنعه الشافعي. وأجاز أبو حنيفة بيع السمك في البركة، ومنعه مالك والشافعي.

 

– الجهالة اليسيرة: وهي الجهالة التي لا تؤدي إلى المنازعة، وهي جائزة بالاتفاق، وتصح معها العقود، وذلك كأساس الدار وحشو الجُبة ونحو ذلك.

وآثار الجهالة في صحة العقد قد تختلف من عقد إلى عقد حسب نوعه، فتكون مفسدة في نوع ومغتفرة في نوع آخر. وتفصيل ذلك مبسوط في أبواب البيوع والإجارة، والأقضية، وغيرها.

 

3- الغرر والجهالة:

قال الإمام القرافيّ‏:‏ (اعلم أنّ العلماء قد يتوسّعون في عبارتي الغرر والجهالة فيستعملون إحداهما موضع الأخرى‏.‏ ثمّ يفرّق القرافيّ بين قاعدة المجهول وقاعدة الغرر بقوله‏:‏ وأصل الغرر هو الّذي لا يدري هل يحصل أم لا‏؟‏ كالطّير في الهواء والسّمك في الماء‏).‏ والغرر والجهالة يقعان في سبعة أشياء‏:‏

الوجود، كالبعير الشارد قبل الشرود‏.‏

الحصول، إن علم الوجود كالطّير في الهواء‏.‏

الجنس، كسلعة لم يسمّها‏.‏

النّوع، كثوب لم يحدد نوعه وشكله‏.‏

المقدار كالبيع إلى مبلغ رمي الحصاة‏.‏

التّعيين، كثوب من ثوبين مختلفين‏.‏

البقاء كالثّمار قبل بدوّ صلاحها.

فهذه سبعة موارد للغرر والجهالة‏. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. أخرجه مسلم.

 

ثالثا: البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة.

من البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة نذكر ما يلي:

1- بيع الحصاة: وهو أن يقذف البائع أو المشتري بحصاة، فأي ثوب وقعت عليه كان هو المبيع بلا تأمل، ولا رويّة، ولا خيار، وهذا البيع باطل؛ لوجود الجهالة والغرر. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. أخرجه مسلم.

2- بيع المنابذة: وهو أن ينبذ كل واحد ثوبه إلى الآخر من غير تأمل، ويقول كل واحد هذا بهذا، أو يقول البائع أو المشتري: أي ثوب نبذته فهو بكذا، فهذا بيع محرم؛ للنهي عنه، ولوجود الجهالة والغرر. عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ المُنَابَذَةِ-وَهِيَ: طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أنْ يُقَلِّبَهُ أوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ- وَنَهَى عَنِ المُلامَسَةِ- وَالمُلامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِ. متفق عليه.

3- بيع حَبَل الحَبَلَة: وهو بيع ولد ولد الناقة بثمن مؤجل، فإذا ولدت الناقة مولودة، انتظر حتى تحبل ثم تلد، وهذا البيع باطل؛ لأنه بيع معدوم ومجهول، وغير مملوك للبائع، وغير مقدور على تسليمه إلى أجل مجهول، وكل هذا غرر محرم.عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لُحُومَ الجَزُورِ إِلَى حَبَلِ الحَبَلَةِ. قال: وَحَبَلُ الحَبَلَةِ أنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ تَحْمِلَ الَّتِي نُتِجَتْ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. متفق عليه.

5- بيع عَسْب الفحل: وهو بيع ضراب الذكر من كل حيوان فرساً أو جملاً أو تيساً أو غير ذلك. فأخذ الأجرة على ضراب هذه الفحول لا يجوز؛ لما فيه من الغرر، لأنه غير معلوم وغير مقدور على تسليمه، فقد تلقح منه الأنثى وقد لا تلقح. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ. رواه الإمام البخاري. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبد الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الجَمَلِ. رواه الإمام مسلم.

أما بيع الملاقيح؛ وهو بيع ما في أصلاب الفحول، ففيه اختلاف، وبيع الملاقيح بالطريقة المعاصرة؛ وهو أخذ ما في أصلاب الفحول بالحقنة؛ فإن بعض الفقهاء المعاصرين يقولون بجوازه، لآنه أصبح معلوما ومقدورا على تسلمه. والله أعلم.

6- بيع المضامين: وهو بيع ما في أصلاب الإناث من الأجنة. وهو بيع باطل؛ لأنه بيع معدوم ومجهول وغرر، وغير مقدور على تسليمه.

7- بيع الملامسة: وهو أن يلمس الإنسان الثوب ولا ينشره، أو يشتريه في الظلام ولا يعلم ما فيه، فهذا البيع لا يجوز؛ لوجود الجهالة والغرر.

 

والحمد لله رب العالمين.

 

[1] - مختار الصحاح. ص:246. والمصباح المنير. ص:264.

[2] - ابن تيمية. مجموع الفتاوى. ج:29 / ص:25.

[3] - ابن تيمية. مجموع الفتاوى. 29 /491.

[4] - النووي. شرح مسلم. 5 /416.

[5] - ابن رشد. بداية المجتهد. 2 /255.

[6] - ابن العربي. أحكام القرآن. 4 /1816.

[7] - الخطابي. معالم السنن. 3/ 84

[8] - ابن تيمية. مجموع الفتاوى. 29 /492.

[9] - ابن تيمية. مجموع الفتاوى. 29 /36.

[10] - ابن القيم. الإعلام .4/2.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. أحمد الإدريسي، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

* اقرأ: (1) وجوب التفقّه في المعاملات | سلسلة التفـقّه في البيوع





التالي
الاتحاد يعزي في وفاة العالم الأصولي الأستاذ الدكتور عبد القادر عقى النماري "رحمه الله"
السابق
"موّل العديد من المساجد".. وفاة أول رئيس لجمهورية باشكورتوستان الإسلامية في روسيا الاتحادية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع