البحث

التفاصيل

المسح على الجوارب بين توسعة الشرع وتضييق المشايخ

الرابط المختصر :

المسح على الجوارب بين توسعة الشرع وتضييق المشايخ

بقلم: عصام تليمة

 

كنت قد نشرت مقالًا منذ ما يقرب من ست سنوات على موقع الجزيرة مباشر، بعنوان: الفقه الإسلامي والمسح على الجوارب، وبعد أن ذكرت الآراء الفقهية المختلفة في المسألة، بين من يجيز ومن يمنع، ونقلت الخلاف في الشروط.

وانتهيت إلى رأي ييسر على الناس كثيرًا في المسح على الجوارب، بأنه يجوز المسح على الجورب الخفيف وغيره، وأنه لا مدة ملزمة يلتزم بها الماسح، وليمسح وقتما يشاء، وأن خلع الجورب لا يعني نقض الوضوء ولا المسح، وأنه لا يشترط أن يلبسه على طهارة (أي: وضوء)، ما دام الماسح ليس على جنابة، وليست على قدمه نجاسة.

ولم يرق ما ذهبت إليه لعدد من المشايخ، فراحوا ينشرون المقال ناقدين له، بل ومعقبين بأن هذا الرأي باطل، وأن الرأي الصحيح هو ما يقولون به، وبدأوا يوضحون الشروط التي لا دليل على معظمها، بأن الجورب لا بد أن يكون ثخينًا، أي: سميكًا، وأن المسح للمقيم يوم بليلة فقط، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وأن الخلع ينقض المسح، إلى آخر الشروط التي يذكرها المشايخ.

ومع تقديري لكلامهم وشروطهم، فأتناول الموضوع هنا مرة ثانية، ولكن من حيث العودة إلى أصوله وجذوره، موضحًا للقارئ الكريم القضية الفقهية، ومبينًا النصوص التي لا يملك الإنسان أن يخرج عنها، وأقوال الفقهاء التي له أن يأخذ منها ما دام له مستند شرعي، ووجهة فقهية معتبرة، وموضحًا قواعد وأصولًا مثل هذه القضايا الفقهية التي تختلف فيها الآراء، ولماذا كلما رجعنا لكتب المتأخرين من الفقهاء نجد تشددًا، وكلما رجعنا لفقه الصحابة والتابعين رأينا تيسيرًا شديدًا؟

ما تركه الشرع على العموم لا نضيقه بتفصيلاتنا:

هناك أحكام جاء فيها النص الشرعي بالعموم، وهذا التعميم والإجمال مقصود من الشرع توسعة على الناس، فنجد كثيرًا من المشايخ يلجأ لتفسيرات الفقهاء التي دخلت في تفاصيل النص التي لم ترد فيه، فتضيق على الناس، ومن ذلك: المسح على الجورب، أو الخف، أو العمامة، أو غيره، فهي تفاصيل لم ترد في النص الشرعي عندما تحدث عنها، وكذلك في تفاصيل أخرى فقهية، ومن ذلك: الأحكام الشرعية المرتبطة بالسفر والمرض والمشقة، فتجد الشرع يذكرها مجملة، تاركًا التفصيل لكل حال وحالة، وإن حاول بعض الفقهاء تفسير هذه الحالات اجتهادًا منه، فلم يلزم بها أحدًا، بل كانت لتقريب المعنى أو المفهوم، لكن من جاءوا بعد ذلك جعلوا من هذه الأفهام شروطًا ومحددات، قد تخرج الرخصة الشرعية، أو التيسير الشرعي عن مضمونه، والذي نلاحظه بجلاء: أن الشرع ترك هذه التفصيلات حتى لا تخرج عن إطارها التخفيفي.

فالمشقة مثلًا عذر وتيسير من الله على من يجدها، ولكنها تختلف من شخص لآخر، فهنا تجد بعض المشايخ يفسر المشقة التي يتحملها على أنها معيار للجميع، بينما ترك الشرع تقدير ذلك لحال الإنسان، وهو موكول إلى ضميره مع ربه، وكذلك: المرض، فبعضهم يتصور أن المرض الذي ييسر على الإنسان في أحكام العبادة وغيرها، لا بد أن يكون مرض موت، أو مرضًا مميتًا، أو مرضًا لا يتحمله الأقوياء، إن المرض جاء مطلقًا في التشريع الإسلامي، وهو في ذاته علة أو سبب للتخفيف، وقد ترى مرضًا تظنه خفيفًا على الإنسان، بينما في الحقيقة هو أثقل من الجبال، فلماذا ترك القرآن والسنة تحديد درجة المرض، أو نوعه، وجعل التيسير مرهونًا به، دون تعريف وتحديد لشكله؟ إنه تعمد مقصود من الشرع، فلم يكن الشرع ليترك الناس حيارى في نصوصه، أو يترك النصوص لتكون ألغازًا، لا يفهمها من يقرؤها.

رخصة التيمم للمسافر مع وجود الماء:

والسفر جعله الشرع سببًا للتخفيف، فيتدخل بعضهم بتحديد مسافته، رغم أن التشريع لم يذكر مسافته، بل جعله مطلقًا، فكل ما يمكن أن يطلق عليه (سفر) فهو داخل في هذا التخفيف، ومن العجيب أن القرآن الكريم قد نص على جواز التيمم في السفر، سواء كان الماء موجودًا أم لا، بينما اتخذ كثير من الفقهاء طريقًا آخر، ولم يجعلوا السفر عذرًا للتيمم، والآية واضحة في ذلك، يقول تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ ‌فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡ} [النساء: 43]، ووردت هذه الآية بألفاظها نفسها وأحكامها، في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ ‌فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُ} [المائدة: 6].

فقد لاحظ الإمام محمد عبده، وتلميذه رشيد رضا، أن الآية نصت على رخصة التيمم للمسافر، سواء وجد الماء أم فقده، وإلا لم يكن هناك معنى لذكر المسافر في الآية، إن كان المعني فيها هنا توضيح حكم فقد الماء، ففقد الماء في حد ذاته رخصة للوضوء، فما حكمة ذكر المسافر هنا إلا إذا كان المقصود أن السفر ذاته رخصة للتيمم، واضحة في الآية الكريم، وإن لم نجد ذلك في جل كتب الفقه.

مذهب المسح على الرجلين بدل الغسل:

إن قضية المسح على الجورب، أو الخفين، هي نابعة عن غسل عضو في الوضوء، وهو الرجل، والمسح هنا على ما يستر هذا العضو، ولذا ينبغي العودة بالموضوع إلى أصله، ومذهب المسح على الرجلين وليس غسلهما، هو مذهب فقهي معتبر، وللأسف اشتهر في زماننا أنه رأي للشيعة فقط، وهو كلام غير صحيح، بل هو رأي نابع من مصادرنا، قال به صحابة وتابعون وسلف، ثم تبناه المذهب الظاهري، وابن حزم، ومحيي الدين بن عربي في كتابه الفتوحات المكية، والفقه الشيعي في مصادره كلها.

يقول المفسرون في تفسير قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ ‌بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِ} [المائدة: 6]، (قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة (وأرجلكم) خفضًا، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأرجلكم نصبًا، وروى أبو بكر عن عاصم الخفض، وروى عنه حفص النصب، وقرأ الحسن والأعمش (وأرجلكم) بالرفع المعنى فاغسلوها، ورويت عن نافع، وبحسب هذا اختلاف الصحابة والتابعين، ‌فكل ‌من ‌قرأ ‌بالنصب ‌جعل ‌العامل ‌اغسلوا، وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء دون المسح، وهنا هو الجمهور، وعليه علم فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو اللازم من قوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد رأى قومًا يتوضؤون وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته: “ويل للأعقاب من النار”، ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين، واختلفوا، فقالت فرقة منهم: الفرض في الرجلين المسح لا الغسل، وروي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان.

وكان أنس إذا مسح رجليه بلهما، وروي أيضًا عن أنس أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل، وكان عكرمة يمسح على رجليه، وليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح.

وقال الشعبي: نزل جبريل بالمسح، ثم قال: ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلًا ويلغى ما كان مسحًا، وروي عن أبي جعفر أنه قال: امسح على رأسك وقدميك، وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين، وكل من ذكرنا فقراءته (وأرجلكم) بكسر اللام، وبذلك قرأ علقمة والأعمش والضحاك وغيرهم، وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح).

من هذا النقاش الدائر حول القراءات في قوله تعالى: (وأرجلكم)، وما يترتب على هذه القراءات، يأتي الخلاف في قضية المسح، سواء على الخفين أو الجوربين، فما يفعله السنة في المسح على الخفين أو الجوربين، مسحًا خفيفًا، هو ما يقوم به من أخذوا بالرأي الآخر وهو مسح الرجلين، لكنهم يمسحون أرجلهم، لا أحذيتهم، ولا جواربهم.

جواز المسح على كل الجوارب:

ومن هنا نرى أن الرأي الفقهي الذي يستند على المسح على الجوارب، أيًا كان جنسها، من صوف، أو كتان، أو قطن، أو حرير للمرأة، أو غيره، من أي منسوجات كانت، فالمسح عليه جائز، سواء كان شفافًا، أو سميكًا، ما دام يلبس على الرجل، ويؤدي غرضًا يتعلق بها، فالمسح عليه جائز، والحديث الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك عام، فقد ورد أنه مسح على النعلين والجوربين، وقد ورد دون تبيين لمادة الجورب أو خامته، ولا حجمه، ولا شكله، ولا النقض بخلعه، فقد رأى أحد التابعين أنس بن مالك -رضي الله عنه- أحدث فغسل وجهه ويديه، ومسح على جوربين من صوف، فقال له: أتمسح عليهما؟ قال: إنهما خفان، ولكنهما من صوف، فقد صرح صحابي راوية وفقيه بأن الخف له حكم الجورب، وهو ما جعل العلامة الشيخ أحمد شاكر يقول عن قول أنس: إنه أقوى حجة ألف مرة من مثله ومثل علماء اللغة الذين جاؤوا من بعده، في مثل هذا القول.

لقد ورد النص في المسح على الجورب دون وصف لحالته، وورد في التوقيت، حديث: “للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن”، ومن تأمل في نص الحديث، نجده يبدأ بحرف اللام، واللام في اللغة للجواز، أي: لك أن تمسح مدة كذا، ولو كان الأمر للوجوب هنا: لجاء بصيغته، وهو: على المقيم كذا، وعلى المسافر كذا، أو صيغة من صيغ الوجوب، وهكذا بقية ما استدل به من يضيقون، كلها نصوص إن وجدت مؤولة، ولها تفسيرات وتأويلات تدعم رأي من قال بغيرها.

ابن عربي والتيسير في المسح على الجوارب:

ومؤخرًا قرأت للعالم الصوفي الكبير محيي الدين بن عربي وهو من الظاهرية، يسبق إلى القول بكل ما قلت به من قبل، وقد دلني على كلامه صديقنا الأستاذ أحمد عبد الرحيم، ففي كتابه الأشهر: (الفتوحات المكية) الجزء الأول، من ص: 344، إلى ص: 349، يقول: (ومن هذا الباب لباس الخف وما في معناه من جرموق وجورب مما يلبس ويستر حد الوضوء من الرجل عرفًا وعادة)، ويقول: (فمن قائل أن شرط المسح أن يكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء، ومن قال: إنه ليس من شرطه إلا طهارتهما من النجاسة وبه أقول)، ويقول: (اختلف العلماء في نزع الخف هل هو ناقض للطهارة أم لا؟ فمن قائل بأن الطهارة تبطل ويستأنف الوضوء، ومن قائل تبطل طهارة القدمين خاصة فيغسلهما… ومن قائل لا يؤثر نزع الخف في طهارة القدم وبه أقول).

القرضاوي يشكرني على الفتوى:

بعد فتواي في موضوع المسح على الجوارب، جرى اتصال بيني وبين شيخنا العلامة المرحوم القرضاوي، وكان أحد الأقرباء قد نقل له مقالي المنشور على الجزيرة مباشر، ثم دار النقاش بيننا، وذكرت له وجهة النظر، والأدلة عليها، والدوافع، وأنه قال ببعض ما قلت، وخالفته في البعض الآخر، وأنه قد أشار من قبل إلى جيله وزمانه، أن شكوى الكثيرين كانت من خلع الحذاء والوضوء لغسل الرجل، وأنه حين كان يفتي بذلك، كان الناس يخبرونه بأنه سهل عليهم كثيرًا، وقلت له: يا مولانا، الفتوى تمثل روح التيسير على الناس، وبخاصة كبار السن، وذوي الحاجة، فقال لي: جزاك الله خيرًا، معك حق.

وبعد هذه الفتوى، كانت تصلني رسائل من مسلمين في أوربا، أو العاملين والمقيمين في البلاد الباردة، يشكرونني على هذا الرأي الذي سهل لهم أمرًا كان يرهقهم، ويسبب لهم حرجًا، وربما أدى ببعضهم لتأخير الصلاة، وهو ما ذكره الشيخ رشيد رضا منذ مائة عام، عن فئة من المسلمين يصعب عليهم خلع نعالهم، وجواربهم للوضوء، وأن كثيرًا منهم صار يحافظ على الصلاة بفتواه لهم بالمسح على الجورب.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عصام تليمة عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومن علماء الأزهر.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* المصدر: الجزيرة مباشر.





التالي
تنديد وإدانة علمائية حول حادثة حرق نسخة من المصحف الشريف أمام السفارة التركية في السويد (بيان)
السابق
الشيخ ناجح بكيرات يحذّر من سعي الاحتلال لتجفيف الوجود الإسلامي بالأقصى

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع