البحث

التفاصيل

الزلازل الثّلاثة والامتحان الصّعب 🔶بقلم أ. د. نورالدّين مختار الخادمي

الزلازل الثّلاثة والامتحان الصّعب

فوجئ العالم بالنازلة الزلزالية الضخمة التي هزّت تركيا وسوريا، إذْ ضرب الزلزال معظم الولايات الجنوبية التركية انطلاقا من ولاية "كَهْرَمَان مَارَاشْ" (مركز الزلازل) إلى ولايات: شانْلِي أُورفا، وديار بَكْر، ومالاطِيَا، وغَازِي عِيْنتَاب،... إضافة إلى عدد كبير من الهزّات الارتدادية الخطيرة التي وقعت في محيط مركز الزلازل حسب تصريح إدارة الكوارث والطوارئ التركية. وقد وصلت آثار هذا الزلازل إلى الشمال السوري، فضرب محافظات حلب وإدلب وحما واللاذقية وطرطوس.

وقد تابعنا مشهدها الحزين بإيمانٍ بقَـدَرِ اللَّهِ ودُعاءٍ للمتوفين بالرّحمة والعفو والقبول في الشهداء، وللمصابين بالعافية والسلامة، وللجميع بالعودة بخير وأمان لديارهم وأعمالهم.

وقد جال في ذهني معنًى في الدّين والواقع عميق، يتعلّق بالزلزال في الوجود الكوني العظيم، باعتباره حَدَثًا من أعظم الحوادث الدالّة على معانيها وأعمالها وآفاقها في الفِرار إلى الله في ترتيب معاشنا والتحضير لميعادنا.

وأَطْلقتُ على هذا المعنى العميق عبارة "الامتحان الصّعب" بنَتِيجَتَيْ النّجاح والرّسوب، ورُبّما بالإسعاف إذا تَـكرّر الزلزال وأعيد الاختبار، والإنسان حيّ قادرٌ على الإجابة، وليس هو في مقامه البرزخي ينتظر زلزال الآخرة بعد زلزاله الدنيوي في منطقة كذا ولحظة كذا...

وهذا الامتحان يرد بأسئلةٍ مُعقّدة لا يكفي فيها الجواب البسيط والوعظ العابر، وإنّما تتطلب أجوبة معقّدة من جِنْس الأسئلة، وفهم كون الزلزال الدّنيوي من جِنْس الزلزال الأخروي: ﴿... إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 1-2]، وزلزال النفخة الأولى (زلزلة الأرض عن فناء الدنيا): ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة: 1-2]. وهو الثابت بقوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة: 1]. قال أبو السّعود أفندي (ت 982هـ) عالم الدّولة العثمانيّة: "﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ﴾ أيْ: حُرِّكَتْ تَحْرِيكًا عَنِيفًا مُتَكَرِّرًا مُتَدارَكًا أيِ: الزِّلْزالُ المَخْصُوصُ بَها عَلى مُقْتَضى المَشِيئَةِ المَبْنِيَّةِ عَلى الحِكَمِ البالِغَةِ، وهو الزِّلْزالُ الشَّدِيدُ[1]". ويقع الزلزال أخيرا يوم البعث من القبور لدلالة الآية العظيمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: 1].

ومجموع هذه الأسئلة الاختبارية المُرّة ثلاثة:

السؤال1: خطّ الزلزال في الوجود الكوني:

ومفادُ ذلك أنّ الزلزال حقيقة كونيّة يقع في الدّنيا، وهو ما شاهدناه في زلزال تركيا وسوريا، وفي مناطق من أرضنا التي وضعها الله للأنام مستقرا ومتاعًا إلى حين ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ﴾ [البقرة: 36].

ويقعُ في نهاية الدّنيا عندما تبدأ الأرض بالفناء الكامل لدُولها ومنتظماتها ومطاراتها وأبحرها ومنظومات الأيديولوجيا والمعلومات والاستخبارات واللوبيات، ونهاية عمليات التطهير العرقي والاستبداد السياسي والانقلابات العسكرية والمدنية، وتعذيب البشر والتنكيل بالمعارضين والظلم القضائي والإعلامي والإداري والمالي، ولا أنسى أنّ الّذين لم يدركوا نهاية الأرض وقتها قد انتهوا قبل ذلك عبر ملايين السنين وانتهت عروشهم وبُدِّدت أموالهم وتَهشّمت صورتهم وحُبِست بقاياهم في مقام برزخي لا أحد يعلم تفاصيله إلا صاحب الإرادة المطلقة القاهر فوق عباده ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: 18]. والجميع في كل الأحوال قد أدركوا النهاية الأولى بانتهاء الأعمار وزوال الإعمار؛ جاء في الأثر: «إذا مات أحدُكم، فقد قامتْ قيامتُه». كما يقع الزلزال الأخروي في النفحة الثانية ليوم الحساب والجزاء. ﴿... إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ[الزلزلة: 1]

وبعد بيان هذه الحقيقة الكونية للزلازل أجدني أمام حقيقةٍ عِلميّة وعَمليّة، مفادها ربط الزلازل الثلاثة بعضها ببعض، وهو ما يَجعلني أتحدّث عن زلزال الدّنيا باعتباره مقدّمة للزلزالين، وبأنّ الزلزال الثالث هو مقام من جِنس الزلزال الأرضي الدنيوي الأول، فكيفما يكون النّاس في زلزالهم من حيث الإيمان بقدرة الله والعمل بالواجب تجاهه؛ يكونون في مقامهم الزلزالي الأخروي، من حيث ترتيب الجزاء المناسب للأداء في زلزال الدّنيا، وهو ما يُحيلنا إلى أهم الأجوبة لأسئلة زلزال الدّنيا؛ ما الذي قدمناه من تفسير وتدبير لتفاصيل الزلزال، وهل تُعزّز القدرات الإنسانية كافّة في مواجهة التداعيات الزلزالية خارج الأطماع والأهواء والأجواء، وهل ازداد الإيمان بالخالق العظيم وقدرته المطلقة الخارقة التي لا تحابي حاكما ولا عالما ولا مفكرا وفيلسوفا، ولا عرافا ودجالا، ولا راصدا جويا وفلكيا، ولا تجامل صالحا ولا طالحا ولا عادلا ولا ظالما...

إنّ الجواب المبدئي للسؤال الصعب في زلزال الدّنيا هو بيان كيف يكون الأداء مع الزلزال الأرضي طريقًا إلى حُسن الجزاء مع الزلزال الأخروي، وقبله زلزال النفخة الأولى. وكثيرٌ من هذا البيان عَبّر عنه العُلماء بتجديد الإيمان وملازمة الصبر والقيام بالمراجعات اللازمة في كل شيء، بما في ذك مراجعات الأنساق في الفِـكـر والعمل ومراجعة السياسة والسياسيين، ومراجعة العلماء والخطباء والخبراء، ومراجعة من يظنّ أنّه يُحسِن صُنعا وهو من الأخسرين أعمالا: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 103-104]...

ومن ذلك أيضا المساعدات لا الشِّعارات والمُهاترات، والتدخلات العاجلة رسميا وشعبيا بالتسبّب والمباشرة وبالكلمة والعِظّة... وليس بالفرجة والمشهدية البليدة الركيكة التي آلت إليها نفوسٌ كثيرةٌ تَبلّدت مشاعرها وتَكلّست عقولها وقَستْ قلوبها ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحديد: 16].

وفي كلام العلماء في واجب الإنقاذ والخدمة والمساعدة: بياناتٌ وتحقيقاتٌ ومُصنّفات وخُطَبٌ وفَتاوى وإفاداتٌ وتَعليقاتٌ... تحت عناوين: "قضاء الحوائج وتفريج الكرب"، وليت هذا الكلام الكثير المتفاوت في المقادير والاعتبار والتقرير، يُوصَل بأعماله ومقتضياتها وبالإنجاز ومؤشراته وبالتأمل ومخرجاته، في تصحيح مشهدنا الذي آلت فيه الإنسانية إلى عذابات وتنكيلات وعدم الاهتمام أو قلته لدى كثير من الناس.

وفي الباب أحاديث كثيرة عن رسول ﷺ الله تكفي لمن تأمّلها أن يفهم معنى التكاتف والتآزر بين أفراد الأمّة في أوقات المِحن والشدائد، ومنها قول النبي ﷺ: «المُسلِمون تَتكافَأُ دِماؤُهم، يَسعى بذِمَّتِهم أدناهم، ويُجِيرُ عليهم أقصاهم، وهم يَدٌ على مَن سواهم[2]»، وقوله: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكى منه عُضْوٌ تَداعى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمّى[3]»، وقوله: «مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيا، نَفَّسَ اللهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ... واللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أخِيهِ[4]»، وقوله: «المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حَاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ[5]».

 

 

* مآل من قضى نحبه في الزلزال:

مآلُ من قضى نحبه في الزلزال من أمة محمد عليه الصلاة والسلام مُبيّنٌ في السُنّة النبوية، فهو في عِداد الشهداء عند الله تعالى؛ لقول النبي ﷺ قال: «الشهداءُ خمسةٌ: المطعونُ، والمبطونُ، والغريقُ، وصاحب الهَدْم، والشّهيدُ في سبيل الله[6]». فصاحب الهدم هو "من يموت تحته[7]"، أي تحت أنقاض البيوت والبنايات في حال الزلال. وقد قال النبي ﷺ: «أُمّتِي هَذِهِ أُمّةٌ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا، الْفِتَنُ، وَالزَّلَازِلُ، وَالْقَتْلُ[8]».

السؤال 2: العدالة الإلهية في ردع التظالم الكوني؟:

أحسبُ أنّ العدالة هنا بمعانٍ تتظافر على حقيقة العدل الإلهي في الوجود الكوني بأطواره الزلازيلة الثلاثة فرعا للعدل الإلهي في جميع الوجود بأطواره وأخباره وآثاره... وبضدّ العدل يُعرف التظالم الكوني الذي يتمثل في صورٍ لا حصر لها من أنواع التنكيلِ والتعذيبِ وألوان الإفساد للبيئات والمنظومات، ومن شواهد التمرّد غير المحدود عن الفِطرة والحِكمة، والاسترسال في العِناد والمكابرة من حُكّام مُستبدّين تَطبّعوا بنزعات الانفراد، وادّعوا  -هُم أو بعضهم وبعض من يعاونهم- بأنهم بنسبٍ إلهي أو نبوي، وأنهم يتصفون بصِفة الطهورية والقداسة والتفوق والتقدّم، بما في ذلك تقدّمهم في مقام الزلزلة الأخروية.

* الزلزال أكبر المشاهد على التوزيع العادل للابتلاء:

عندما يُبتَلَى بعض النّاس (10 في المائة مثلا) ويغفل الآخرون (90 في المائة)، الذين يَنغمسون في حياتهم وطلباتها، وينسون أو يتناسون من أُبتُلِيَ من الفريق الأوّل بالفقر والجوع والتعذيب والمحاكمة السياسية والتهجير القصري وتجميد الحسابات البنكية، فضلا عن التشهيرٍ والترذيلٍ والاتهامٍ بالباطل والتسويق لذلك... فعندما يحصل ذلك، وهو المُعبّر عنه بــ"كثرة الخبث" في جواب النّبيّ ﷺ عن سؤال الهلاك العامّ: "أنَهْلِكُ وفينا الصّالِحُونَ؟" فقالَ: «نَعَمْ إذا كَثُرَ الخَبَثُ[9]»، فإنّ العدالة الإلهية تتدخل مباشرة وبإرادة مطلقة؛ لوضع حَدٍّ لهذا العدوان على النّاس والبيئات والقِيَم والفِطْرة والأُسْرَةِ والحُرمات والمُقدّسات، وربّما يكون ذلك من أجل تعميم الابتلاء على الكافة؛ ليُحْمَلوا على الإصلاح الاضطراري والرجوع الحتمي إلى جادتهم وصوابهم أو بعض عقولهم ومصالحهم، وهو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ في الآية الكريمة:  ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]. قال الإمام القرطبي: "لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ: أي لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ[10]"، وقال الإمام النّسَفي: "﴿لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ المَعاصِي[11]".

 وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ في الآية الكريمة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ [الأعراف: 94]. قال ابن كثير: "﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ أَيْ: يَدْعُونَ وَيَخْشَعُونَ وَيَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ مَا نَزَلَ بِهِمْ[12]".

 وقوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]. قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: "أَيْ فِرُّوا مِنْ مَعَاصِيهِ إِلَى طَاعَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِرُّوا إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَعَنْهُ فِرُّوا مِنْهُ إِلَيْهِ وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ[13]".

والّـذي نراه في أيّامنا أمام تزايد الظُّلم وكثرة الخبث والصلف العدواني المُكابِر في أوطانٍ ومِلفاتٍ؛ إنّما يُؤذن بتوسيع الابتلاء لتوزيع الأداء، في مواجهة الجميع لِـما تَعرّض له الجميع. ﴿وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102].

السؤال3: الرؤية الموضوعية للزلزال:

أقصد بالرؤية الموضوعية أمرين:

الأمر الأول:

التعامل الموضوعي العلمي والسُّنَني والتشغيلي للزلازل في خيطه الناظم وأطوارها الثلاثة: الدّنيا والبعث والقيامة، بربط الأداء بالجزاء، والفِكر بالعَمل، والمحاسبة بالمراكمة، والفِرار الحقيقي إلى الله بأزمانه وأحواله ومقتضياته ومخرجاته، في كلّ ما يُحقّـق أمن النّاس في معاشهم وتحسين بُنياتهم العقارية واستعداداتهم اللوجستية، وفي ما يحقّق الاعتبار العام في مصائر الأمور وأحوال الحاضر في مجالات العِلْم وساحات العمل، وفي النأي بالإنسانية عن عذاباتها ومعاناتها؛ بسُلطة منفردة ونُخب تائهة متنازعة وجمهورٍ سلبي انطباعي مزاجي "عين رأت وعين لم تر" بالتعبير التونسي، إلا من رحم الله من هيئات وشخصيات تنافح وتكافح، والله المستعان.

الأمر الثاني:

عدم التشخيص وعدم التسطيح في التعامل الموضوعي للزلزال، بمعنى أن يَتناول هذا التعامل تفسير الظاهرة الزلزالية على وجه العموم، وأنه ابتلاءٌ بخيرٍ وشَرٍّ، وأنه ثمرة مسارات وأعمال يتداخل فيها الفساد الاعتقادي بالعملي ويتظافر فيها أكثر من سببٍ في ذلك. وقد توافقتْ كلمة العلماء على أن التشخيص في الحُكم على الزلزال لا يُوجّه إلى الأشخاص أو الجماعات أو القرى والمدن والدول، وإنما يُوجّه إلى الظواهر والأحوال، فلا يُقال بأنّ هؤلاء عصاة أو أتقياء، وبأن الله ابتلى العصاة بالشر والأتقياء بالخير؛ لمفهوم الآية !!!: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35].

الخلاصة:

يعد الزلزال نوعا من الكوارث التي تسير بقدر الله وحكمته؛ بما أجراه من سنن وقوانين، وضربا معقدا من الابتلاء والتمحيص والتجاوز والتأسيس، ومقاما يتقدم فيه التائبون المراجعون المعتبرون، ويتراجع فيه المعاندون الجبارون المفسدون، ومآلا جزائيا من جنس الحال الدنيوي التكليفي بعمارة للحياة طيبة ومراجعات للفكر والسلوك قيمة.

وهو مع ذلك مشهد كوني علمي؛ لتصحيح الإمعان في الاستكبار عن الفطرة والحكمة، ومعاملة الإنسانية بقانون الاضطرار عندما يفشلون في مساحات الاختيار، وهم بذلك يعاملون معاملة الكائنات غير العاقلة، المحكومة بالعبودية الاضطرارية، للعودة إلى العبودية الاختيارية. ﴿ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ [الأعراف: 94].

 

نسأل الله السلامة وإبعاد الندامة في الزلازل الثلاثة آمين.

 

 

وكتبه أ. د. نورالدّين مختار الخادمي

يوم الثلاثاء 16 رجب 1444هـ الموافق لــ 07 فيفري 2023م

 

[1]  إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود، 9/188، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

[2] أخرجه أبو داود في سُننه، كتاب الجِهاد، بابٌ في السَّرِيةِ تَرُدُّ على أهلِ العَسْكر برقم 2751.

[3] متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب رحمة النّاس والبهائم، وأخرجه مُسلم في صحيحه، كتاب البِرّ والصِّلَة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفُهُمْ وتعاضدُهُمْ برقم 2586، واللّفظ له.

[4] أخرجه مُسلم في صحيحه، كتاب الذّكر والدّعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن برقم 2699.

[5] متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب لا يَظلِم المسلمُ المسلمَ ولا يُسْلِمُهُ برقم 2442، ومسلم في صحيحه، كتاب البِرّ والصِّلَة والآداب، باب تحريم الظلم برقم 2580.

[6] متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب فضل التهجير إلى الظهر برقم 653، وفي كتاب الجهاد والسِّيَر، باب الشهادة سبعٌ سوى القتل برقم 2829، ومُسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب بيان الشّهداء برقم 1914.

[7]  المنهاج، النووي، 13/ 63، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط/2، 1392هـ.

[8]  أخرجه أبو داود في سُننه، أوّل كتاب الفِتَن والملاحمِ، بابُ ما يُرجى في القتل برقم 4278.

[9]  متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء صلوات الله عليهم، باب قول الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ [الكهف: 83] برقم 3346، وكتاب المناقب، باب علامات النّبوة في الإسلام برقم 3598، وكتاب الفِتَنِ، باب قول النبي ﷺ: «وَيْلٌ للعَربِ» برقم 7059، وباب يأجوج ومأجوج برقم 7135، ومُسلم في صحيحه، كتاب الفِتَن وأشراط السّاعة، باب اقتراب الفِتَن وفتح رَدْم يأجوج ومأجوج برقم 2880.

[10] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 14/41، دار الكتب المصرية - القاهرة، ط/2، 1384هـ - 1964م.

[11] مدارك التنزيل وحقائق التأويل، النسفي، 2/703، دار الكَلِم الطيّب - بيروت، ط/1، 1419هـ - 1998م.

[12]  تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 3/449، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط/2، 1420هـ - 1999م.

[13] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 17/53.





التالي
موقف غوستاف لوبون من رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم
السابق
من ماتوا في الزلزال شهداء، ومن بقوا، فنحن وإياهم في البلاء سواء

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع