البحث

التفاصيل

هل يجوز إقراض الفقراء من مال الزكاة لتمويل مشاريعهم الاستثمارية؟

تلقيت من بعض الهيئات الخيرية سؤالا مفصلا حول مدى شرعية منح الفقراء قروضا من مال الزكاة، ليقيموا بها مشاريعهم..

وهذا نص السؤال الذي تلقيته مشافهة، ثم جاءني كتابيا:

طلب فتوى في: شرعية الصرف من أموال الزكاة بشكل جزئي على المشاريع ذات الطابع الاستثماري والتي تعتمد على التشغيل والتمكين نظير استرداد القروض الميسرة لها.

فضيلة الدكتور الشيخ / احمد الريسوني

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

نعلم بأن مصارف الزكاة هي الثمانية التي وردت في الآية الكريمة رقم 60 من سورة التوبة. وإحدى هذه المصارف هي " مؤسسة العاملين على الزكاة".  ونحن " مؤسسة: العاملون على الزكاة" وبالمصطلح الحديث جمعية خيرية تقوم على جمع مواردها من طرق مختلفة إحداها الزكاة. وتقوم بصرفها من خلال الأنظمة الداخلية على المستحقين من المصارف الآنفة الذكر.

وترغب هذه الجمعية في تحقيق فائدة ذات قيمة أكثر للمستحقين وذلك من خلال نماذج حديثة مُستخدمة تتميز بمؤسسيتها واتباعها لمنهجية علمية متكاملة لتحقيق الاكتفاء الذاتي للمستحق من خلال آلية متكاملة تتضمن الإقراض (طبقا للضوابط الشرعية)، والتدريب، والتوجيه، وفتح أبواب الأسواق، والأرضية القانونية التي تساعد على استمرارية المشروع ليتطور ويكبر مع الزمن، ويعين في سد حاجة المستحق بعد فترة زمنية. وقد يؤدي الى تغير وضعه المادي من مستحق للزكاة الى دافع للزكاة.

ومن أساس هذا المشروع هو إعادة القرض على فترات حتى يمكن استمرارية "مؤسسة الإقراض" هذه. وتقوم على توسيع دائرة المنتفعين منها.

 ونرى بأن هذه العملية (الإقراض والتمكين ثم الاسترداد)، وما يسميه البعض بمشاريع القروض الصغيرة، تساهم في إعطاء المستحق قيمة أكثر بكثير من إعطاء مال لفترة او فترتين، وقد لا يكفيه ولا يجعله يخرج من دائرة الحاجة.

وهذه العملية – عطفا على الكثير من التجارب - تساعد على انشاء مشاريع متكررة للمستفيدين وقد أخرجت اعدادا كثيرة من دائرة الحاجة الى دائرة العطاء.

وهنا نود ان نلفت نظر فضيلتكم الى مفهوم " التملك" الذي ينص عليه الفقهاء، والنظر فيه بعمق، حيث ان الحالة التي درج عليها إعطاء الزكاة بالطريقة التقليدية ظاهرها " تمليك"، ولكن حقيقتها لا تؤدي الى المقصد السامي من تغيير حال المستحق. بينما ما نقترحه – وهو مجرب – يساعد كثيرا في تغيير حالة المستحق، وذلك لأنه يقدم " تمليكا " يتجاوز المال الذي يُعطى للمستحق من الناحية المادية. بل ويساعد على توسيع الحالات ليتم تمكين شخص آخر بعده، بالإضافة الى استمرارية المؤسسة القائمة على هذا المشروع، والتي لا توزع أرباحها على الافراد. وانما للغرض نفسه. وهو ما يطلق عليه " مؤسسة اجتماعية اقتصادية غير ربحية".

ومما سبق أعلاه، فإننا نضع بين أيديكم هذه المسألة للبحث الفقهي والتأصيل الشرعي، للنظر إليها بما يتناسب مع القيمة المضافة التي تحققها، ومع المقاصد العليا لفريضة الزكاة، والتي تهدف الى اخراج المستحقين من دائرة الفقر التي أحاطتهم.

كما نذكر هنا بأن العمل الخيري في حاجة الى الكثير من الاجتهاد الفقهي لتسريع حركته للتجاوب مع احتياجات العصر وتطوراته. ونرى انه ينبغي التعامل مع مسائله من منطلق انه عمل مؤسسي له كيان وأنظمة وضوابط. ولعل أقرب توصيف له – كما تفضلتم- هو مؤسسة بيت المال في فقه الفقهاء.

الجواب:

الآية المشار إليها في السؤال، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، هي النص الأساسي المحكم في تحديد مصارف الزكاة وحصر المستحقين لها..

وقد اتفقت كلمة المفسرين والفقهاء على أن أموال الزكاة لا حق فيها لغير هذه الفئات الثمانية المذكورة في الآية.

لكن الآية لم تنصَّ على كيفياتٍ وطرق محددة لتمكين هؤلاء المستحقين من حقهم في الزكاة، فبقي المجال مفتوحا للنظر والاجتهاد في ذلك، بناء على مختلف الأدلة والقواعد والأحوال المعتبرة شرعا. ومن جملة ذلك حكمُ الكيفية الواردة في هذا السؤال..

فهل هذا التدبير - وهو مَنحُ الفقراء قروضا تمويليةً من مال الزكاة، مع مساعدتهم في مشاريعهم بالتوجيه والترشيد والتدريب والتسويق، بهدف إنجاح أعمالهم واستعادة القرض الزكوي منهم.. - هل هو تدبير مشروع، داخلٌ في مصارف الزكاة المذكورة في الآية؟ أم هو خارج عنها، فاقد للشرعية والمقبولية؟

الجواب يتوقف – أولا - على مزيد من التحقيق والتدقيق في مقتضى آية المصارف ودلالاتها.. وما إن كانت تسمح بهذه الكيفية.. أو هي تمنع منها..

مسألة التمليك ودلالة اللام..

ينص كثير من الفقهاء على أن الزكاة مِلكٌ لأصحابها المذكورين في آية المصارف (أي الأصناف الثمانية)، وأنه يتعين على المزكين، أو القائمين على أمر الزكاة، تسليمُهم أموال الزكاة وتمليكُهم إياها، وأن كل صرف أو تصرف سوى التمليك، هو تصرف بغير حق في أموال الغير، فلا يجوز.

وقد راج عند كثير من الفقهاء، عند تعريفهم للزكاة، أنها عبارة عن تمليك، كما في قول علاء الدين الكاساني (الحنفي) "فإن الزكاة تمليك المال من الفقير..."[1]

وعمدة أدلتهم في هذا هو حرف اللام في قوله تعالى (للفقراء والمساكين...)؛ باعتبار اللام من حروف المعاني. فاللام في الآية مفيدة للـمِلك وموجبة للتمليك، وخاصة في حق الأصناف الأربعة الأُوَّل. فهي كما في قولنا: هذا المال لفلان، وذاك المنزل لفلان، وهذه الأرض لبني فلان.. أي ملك لهم.

وأقدم من يُنسب إليه القول بأن اللام في آية المصارف للتمليك هو الإمام الشافعي، ولكني لم أقف على ذلك في كتابيه (الأم) و (الرسالة)؟

قال ابن العربي: "قوله تعالى {للفقراء}: واختلف العلماء في المعنى الذي أفادت هذه اللام فقيل: لام الأجْل؛ كقولك: هذا السرج للدابة، والباب للدار. وبه قال مالك وأبو حنيفة.

ومنهم من قال: إن هذه لام التمليك؛ كقولك: هذا المال لزيد. وبه قال الشافعي"[2].

وقال الفخر الرازي في تفسيره: "والأقرب أن المراد من لفظ الصدقات ههنا[3] هو الزكوات الواجبة. ويدل عليه وجوه، الأول: أنه تعالى أثبت هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية. والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة"[4].

وقال القرطبي: "{لِلْفُقَرَاءِ}: تبيين لمصارف الصدقات والمحل، حتى لا تخرج عنهم. ثم الاختيار إلى من يقسم، هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما. كما يقال: السرج للدابة والباب للدار. وقال الشافعي: اللام لام التمليك، كقولك: المال لزيد وعمرو وبكر، فلا بد من التسوية بين المذكورين..."[5].

وبناء على "نظرية التمليك" هذه، جرت الفتوى - حديثا – بمنع المؤسسات الخيرية من استثمار أموال الزكاة، أو إقامة مشاريع ارتفاقية منها، لفائدة الفقراء والمساكين وغيرهم من المستحقين. والذين أجازوا ذلك، اشترطوا أن يكون بما زاد عن الحاجة ا الحالَّــة للأصناف الثمانية..

قال الشيخ محمد وهبة الزحيلي: "ولا يجوز للقائمين على الجمعيات أن يشتروا بأموال الزكاة أغذية أو ألبسة ونحوها يقدمونها للفقراء، لأنهم لم يوكلوهم في هذا، كما لا يجوز لجمعيات المعاهد العلمية الشرعية شراء شيء كالكتب وغيرها من أموال الزكاة، وعلى إدارة الجمعيات أن يحصلوا على تفويض أو توكيل من طلاب العلم، بصرف أموال الزكاة على حوائجهم من طعام وشراب وكتب وأوراق ونحو ذلك، لأن تمليك الزكاة للمستحقين شرط أساسي، ثم يتصرف المستحق بما يحقق مصلحته. ولا يجوز لجمعية أن تقوم بنفسها ببناء مبان أو معامل من أموال الزكاة لصرف ريعها على المستحقين، إذ لا وكالة لدى الجمعية من المستحقين في هذا. لكن يجوز للضرورة إيجاد مراكز صحية وتوزيع أدوية للفقراء مثلاً على ألا تأخذ صفة الوقف، حتى يجوز بيعها وتوزيع أثمانها للمستحقين"[6].

         وقال أيضا: "ولو اشترى بالزكاة طعاماً، فأطعم الفقراء غداء وعشاء، ولم يدفع عين المال إليهم لا يجوز، لعدم التمليك، ولو دفع الزكاة للفقير لا يتم الدفع ما لم يقبضها بنفسه أو يقبضها له وليه أو وصيه. ولو قضى دينَ ميت فقير بنية الزكاة، لم يصح عن الزكاة؛ لأنه لم يوجد التمليك من الفقير، لعدم قبضه، لكن لو قضى دين فقير حي بأمره، جاز عن الزكاة، لوجود التمليك من الفقير؛ لأنه لما أمره به، صار وكيلاً عنه في القبض، فصار كأن الفقير قبض الصدقة بنفسه، وملكها للغريم الدائن..."[7].

الدلالات الأخرى لحرف اللام..

ورد في ثنايا النقول السابقة ما يشير إلى أن القول بدلالة حرف اللام على التمليك في آية المصارف، ليس متفقا عليه..

والآن أورد أقوالا أخرى في معاني اللام، وأن لها دلالات أقوى وأولى من دلالتها على التمليك..

  • فمن اللغويين:     

قال بدر الدين المرادي: "اللام: حرف كثير المعاني والأقسام. وقد أفرد لها بعضهم تصنيفاً، وذكر لها نحواً من أربعين معنى.

وأقول: إن جميع أقسام اللام، التي هي حرف من حروف المعاني، ترجع عند التحقيق إلى قسمين: عاملة، وغير عاملة. فالعاملة قسمان: جارّة وجازمة...

القسم الأول: اللام الجارّةُ، ولها معانٍ كثيرة. وقد جمعتُ لها، من كلام النحويين، ثلاثين قسماً. فأذكرها كما ذكروها، وأشير إلى التحقيق في ذلك.

الأول: الاختصاص: نحو: الجنة للمؤمنين. ولم يذكر الزمخشري في مفصَّله غيره. قيل: وهو أصل معانيها.

الثاني: الاستحقاق. نحو: النار للكافرين. قال بعضهم: وهو معناها العام، لأنه لا يفارقها.

الثالث: الـمِلك. نحو: المال لزيد. وقد جعله بعضهم أصل معانيها، والظاهر أن أصل معانيها الاختصاص، وأما الملك فهو نوع من أنواع الاختصاص، وهو أقوى أنواعه. وكذلك الاستحقاق، لأن من استحق شيئاً فقد حصل له به نوع اختصاص..."[8].

إلى أن قال:

"التحقيق: أن معنى اللام، في الأصل، هو الاختصاص. وهو معنى لا يفارقها، وقد يصحبه معانٍ أُخر، وإذا تُؤملت سائر المعاني المذكورة وُجدتْ راجعةً إلى الاختصاص"[9].

وقال الزمخشري: "واللام للاختصاص؛ كقولك المال لزيد، والسرج للدابة، وجاءني أخ له وابن له. وقد تقع مزيدة قال الله تعالى: (ردف لكم)"[10].

  • ومن المفسرين:

قال البيضاوي: "وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية، ووجوبَ الصرف إلى كل صنف وجد منهم، ومراعاةَ التسوية بينهم قضية للاشتراك. وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين: جواز صرفها إلى صنف واحد. وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا. وبه كان يفتي شيخي ووالدي، رحمهما الله تعالى: على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم، لا إيجاب قَسمها عليهم"[11].

وقال الفقيه الهندي القاضي محمد ثناء الله المظهري: "حقيقة اللام للاختصاص، والاختصاص أعم من الملك والاستحقاق"[12].

وبناء على ما سبق يتأكد أن آية المصارف قد حددت وخصصت - بإجمال - الفئات المستحقةَ للزكاة، وذلك على سبيل الحصر فيهم.

وأما أنها تفيد تمليكها لهم، وأن التمليك هو الشكل الوحيد للاستفادة من أموال الزكاة، فهو قول مرجوح.. وفي أحسن الأحوال، هو قول من جملة الأقوال..

توزيع الزكاة مسألة اجتهادية استنباطا وتنزيلا  

القرآن الكريم حسم - على سبيل الحصر - أمر المستحقين للزكاة، وثبَّـتتِ السنة النبوية ذلك قولا وفعلا. ولكن كثيرا من التفاصيل المتعلقة بتوزيع الزكاة وتمكينِ أهلها منها، ظلت على الدوام محل اجتهاد وتقدير واختيار؛ من المزكين أنفسهم، أو من الإمام، أو نوابه، أو من القائمين على أموال الزكاة بأي صفة كانوا..

ومن تلك التفاصيل الاجتهادية على سبيل المثال:

  1. هل تعطَى الزكاة لولاة الأمر وجوبا، أم أن ذلك على الندب، أو على الإباحة والتخيير؟
  2. هل جميع الأموال تُدفع زكاتها لولاة الأمر وسُعاتهم العاملين عليها، أم تدفع لهم زكاة الأموال الظاهرة دون الباطنة؟
  3. وإذا عُلم عن بعض الأمراء أنهم يستعملون أموال الزكاة في غير مصارفها الشرعية، هل إعطاؤهم الزكاة، أو أخذُهم لها، يكون مجزئا أم لا؟
  4. هل يجب - في كل توزيع للزكاة - إعطاء جميع الأصناف الثمانية أو مَن وُجد منهم، أم يمكن إعطاء بعض الأصناف دون بعض؟ أو يمكن الاقتصار أحيانا على صنف واحد أو صنفين، حسب ما يقتضيه النظر والاجتهاد؟
  5. هل يجب إعطاء جميع الأفراد، في الصنف الواحد، أو في جميع الأصناف، باعتبارهم جميعا مستحقين - أو مُلّاكا - ومتساوين بنص الآية؟ أم يعطَى بعضهم دون بعض؟ وعلى أي أساس؟
  6. مقادير الزكاة لكل صنف من المال، جاءت في نصوص الشرع مقدرة بالأعيان (المواشي والزروع والثمار..) فهل دفعُ أعيانها هو اللازم، عملا بالنصوص الشرعية، أم يجوز دفها بالقيمة متى كان ذلك أيسر وأنفع للآخذين؟
  7. ما المقدار الذي يعطَى لكل واحد: هل هو كفاية السنة، أم كفاية العمر؟ أو عطاءٌ شهري، يُدخر لأصحابه دون تفويض أو توكيل منهم؟
  8. وما العمل إذا أُعطيَ بعضُ المستحقين كفاية العمر، أو كفاية السنة، ثم استهلكوا مخصصاتهم في أقل من ذلك، وجاؤوا يطلبون؟
  9. هل سهم "المؤلفة قلوبهم" ما زال قائما كما نص عليه القرآن؟ أم أنه انتهى وانقطع؟ أم المسألة قابلة للاجتهاد وحسن التدبير؟
  10. هل يمكن نقل الزكاة من مكانها إلى أماكن أخرى؟ وما شروط ذلك؟ وهل نقلها بغير تلك الشروط يبطلها، أم أنها تظل - مع ذلك - مجزئة مُبْـرئة؟

هذه التساؤلات أو المسائل كلها، وكثير غيرها، عرفت اجتهادات متعددة وأجوبة مختلفة، بحسب الاختلافات المذهبية والمنهجية، أو الاختلافات الزمانية والمكانية. والاجتهاد فيها يكون من الفقهاء، ويكون من المسؤولين التنفيذيين، ممن شرفهم الله بالقيام على أمر هذه الفريضة وهذا الركن من أركان الإسلام..

فمسألتنا - وهي إقراض الفقراء من مال الزكاة لتمويل مشاريعهم الاستثمارية - هي من هذا القبيل، أي من باب الاجتهاد المستمر في حسن تدبير أموال الزكاة وخدمة مستحقيها، وتحري الأحسن والأنفع لهم، كلما أمكن ذلك.

وعن عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهبا يقول: كتب عمر بن عبد العزيز: «إلى عروة بن محمد أن لا يقسم الصدقة على الأثمان، وأن يعطي كل عامل على قدره، والفقراء والمساكين على قدر حاجتهم، وزمانتهم». قال عبد الصمد: وأخبرني عمرو بن أبي يزيد: "أنه قدم يسأل علماءها رجلا رجلا فقالوا: إنما ذاك رأي الإمام واجتهاده، فإن رأى أن يفضها فض بعضها على بعض، وإن رأى أن يقسمها على الأجزاء فعل"[13].

حكم المسألة ومستنداته

  1. لقد ثبت أن التملك والتمليك لأموال الزكاة، ليس هو مقصود آية المصارف، وإنما مقصودها تحديد المصارف المستحقة للزكاة وحصرها في الأصناف الثمانية. وهذا "الاستحقاق" ما هو إلا بيان تطبيقي تفصيلي لما ورد في آيات أخرى نصَّت على أن الزكاة حق؛ وذلك قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]، وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، وقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].

وعن سعيد بن المسيب، أنه قال: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] قال: «الصدقة المفروضة»[14].

  1. التمليك والتملك، هو أهم أشكال التمكين للمستحين للزكاة، من أخذ حقهم والتصرف فيه. ولكن ليس هو الشكل الوحيد. بل كل الخدمات والمرافق التي تستعمل بشكل جماعي، إذا كانت مخصصة لمستحقي الزكاة، يمكن صرف أموال الزكاة فيها؛ كأن تكون مخصصة للمرضى الفقراء، أو لأبناء السبيل المغتربين.

وفي الصحيحين، عن أنس بن مالك أن ناسا من عُرينة قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فاجتووها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها وأبوالها...».

قال الحافظ ابن حجر: "وفيه جواز استعمال أبناء السبيل إبلَ الصدقة في الشرب، وفي غيره قياسا عليه بإذن الإمام"[15].

وقال: "ليس في الخبر أيضا أنه ملَّكهم رقابها، وإنما فيه أنه أباح لهم شرب ألبان الإبل للتداوي، فاستنبط منه البخاري جواز استعمالها في بقية المنافع، إذ لا فرق. وأما تمليك رقابها فلم يقع"[16].

وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل بعض الضعفاء على إبل الصدقة للحج.

وفي صحيح البخاري أيضا، عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ... أنها أرسلت مَن يسأل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيجزي عنها أن تنفق على زوجها وعلى أيتام كانوا في حجرها، من الصدقة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم لها أجران أجر القرابة وأجر الصدقة).

فهذه استعمالات متعددة لمال الزكاة، لفائدة مستحقيها، وليس في شيء منها تمليك.

  1. قال ابن قدامة المقدسي: "وإذا أخذ الساعي الصدقة، فاحتاج الى بيعها لمصلحة، من كلفةٍ في نقلها، أو مرضها، أو نحوهما، فله ذلك..."[17]. وفي هذا تصرف في مال الزكاة، بما يحفظه ويدفع عنه الضرر، ويعود بالنفع على المستحقين له. ويتعزز هذا بفتاوى العلماء بجواز التصرف في الأوقاف، بما يحفظها ويحقق دوام مقصودها؛ بما في ذلك البيع والاستبدال والنقل..
  2.  وقال: "إذا تسلف الإمام الزكاة، فهلكت في يده، فلا ضمان عليه، وكانت من ضمان الفقراء. ولا فرق بين أن يسأله ذلك رب المال، أو الفقراء، أو لم يسأله أحد؛ لأن يده كيد الفقراء..."[18].
  3. الهيئة الخيرية صاحبة السؤال تريد أن تقوم بإقراض بعض المستحقين للزكاة، وتقوم في ذلك باختبار أهليتهم وقدرتهم، وتستمر في تدريبهم وترشيدهم، لكي تنجح مشاريعهم ويعيدوا ما أخذوه، ليستفيد منه غيرهم.

وهذا مبني على أن كثيرا من الناس، ومن الفقراء خاصة، لا يحسنون سوى الاستهلاك السريع لما يقدم لهم، ثم يعودون للطلب.. فإذا وجدوا الاشتراط والتفقد والتدريب والترشيد والمراقبة، أصبح لهم في الغالب شأن آخر..

وقد ذكر الله تعالى في عديد من الآيات أنه يبسط الرزق وييسره لمن يقدرون على كسبه وحسن تدبيره، كما في قوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30].

فإذا سخر الله لبعض الفقراء من يمولهم ويؤهلهم، ويمنحهم القدرة والخبرة.. وكانت الزكاة وسيلة في ذلك.. بل وكانت الزكاة نفسها مستفيدة هي وسائر مستحقيها، فتلك نِعم ومكارمُ بعضها على بعض.

 

الخلاصة والفتوى

  1. يجوز للمؤسسات القائمة بتلقي أموال الزكاة وحفظها وتوزيعها، أن تُـقرض بعض المستحقين للزكاة جزءا منها، لتمويل مشاريعهم الاستثمارية، تحت رعايتها ورقابتها، لضمان نجاح هذه المشاريع أكثر ما يمكن.
  2. إذا كان للمؤسسة موارد وأنشطة سوى الزكاة، فيجب أن تجعل أموال الزكاة وحساباتها مميزة ومستقلة تماما عن غيرها، وبأقصى درجات الدقة الممكنة.
  3. لا يجوز للمزكين أن يقوموا بأنفسهم بمثل هذا العمل في زكواتهم، بل يلزمهم إخراج زكاتهم من ملكيتهم، ومن حوزتهم وتصرفهم، وذلك قياما بفرضهم، وإبراءً لذمتهم، وتطهيرا لنفوسهم، ودرءا لكل شبهة أو شائبة ممكنة.

وأسأل الله تعالى السداد والصواب في القول والعمل

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أحمد الريسوني، عفا الله عنه
الدوحة في 25 رجب1444ه/16فبراير2023م

 

[1] بدائع الصنائع 3/ 384

[2] أحكام القرآن لابن العربي (4/ 319)

[3] يقصد آية المصارف من سورة التوبة

[4] مفاتيح الغيب 16/ 91

[5] الجامع لأحكام القرآن 8/ 167

[6] الفقه الإسلامي وأدلته 3/ 184 

[7] الفقه الإسلامي وأدلته 3/ 1981

 

[8] الجنى الداني في حروف المعاني، 95-97

[9] الجنى الداني في حروف المعاني ص: 109

[10] المفصل في صنعة الإعراب للزمخشري ص: 282

[11] أنوار التنزيل وأسرار التأويل 3/ 86 

[12] التفسير المظهري 4/ 246

[13] مصنف عبد الرزاق الصنعاني 4/ 106

[14] مصنف عبد الرزاق الصنعاني، 4/ 145

[15] فتح الباري 1/ 341

[16] فتح الباري

[17] المغني 2/ 532

[18] المغني 2/ 476

 





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع