البحث

التفاصيل

رمضان شهر الرحمة ومدرسة الأخلاق

رمضان شهر الرحمة ومدرسة الأخلاق

بقلم: محمد وثيق الندوي

 

عاد شهر رمضان المبارك ليحمل أرواحنا وقلوبنا إلى عنان السماء؛ نتطلع عبر أيامه ولياليه إلى معالي الأخلاق، وكريم الصفات،وجليل الأعمال، شهر رمضان هو المدرسة الأولى لتهذيب النفوس، وترويض الأخلاق، والسلوك، فيتعلم الإنسان فيها كيف يقف ضد هوى نفسه، وكيف يقلص ملامح الأنانية فيها، وفي رمضان تصفو النفوس، وتتطلع إلى الكمال، يفطر الصائمون، يتزاور الأحباب، يتصدق المتصدقون، يعتمر المعتمرون، يقيم الليل القائمون، يتوادون ويتحابون، ويدعون ربهم بأن يتقبل منهم أعمالهم، وتتضاعف الحسنات والأجور، ويبقي الصوم وحده لله عز وجل، يكافئ الصائمين بما شاء سبحانه تعالى، فقال عز وجل في حديث قدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به" (متفق عليه).

نحن إذا أردنا بيان المعنى اللغوي لشهر رمضان، فإن المشهور في لغة العرب أن الشهر مشتق من الاشتهار، وهو الظهور، يقال: شهر الأمر،أي أظهره، وشهر السيف استله، وسمى الشهر شهرًا لشهرة أمره، لكونه ميقاتًا للعبادات والمعاملات، فصار مشتهرًا بين الناس.

ورمضان: من الرمض، أي شدة وقع الشمس، والرمضاء شدة حر الشمس، ونقول: رمضت الغنم أي رعت في الرمضان، فقرحت أكبادها، وسمى رمضان لأنه يرمض الذنوب، أي يحرقها بالأعمال الصالحة، من الإرماض وهو الإحراق، قال الزمخشري صاحب الكشاف،: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام الرمض، أو الحر الشديد، فيسمي رمضان". (تفسير آيات الأحكام للصابوني، ج/1)

وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة، كما يأخذ الرمل والحجارة من الشمس.

الصوم في الديانات القديمة:

إن الصيام ليس بأمر مستحدث في الإسلام، بل اشتملت جميع الأديان والشرائع المعروفة في التاريخ على الصوم،وطالبت به جميع من كان يدين بها، وإنما كانت معظم أمم الدنيا تعمل به، ولكن مع فوارق وبواعث اعتقادية مختلفة في هذا العمل، إذ من المعروف أن الصوم وجد في جميع الملل حتى الوثنية منها، فهو معروف عند قدماء المصريين، وقد انتقل منهم إلى اليونان، فكانوا يفرضونه لاسيما على النساء، وكذلك الرومانيون كانوا يعنون بالصوم، ولا يزال الهندوس يصومون إلى الآن في الهند، خصصت في الديانة الهندوكية أيام للصوم، وثبت أن موسى عليه السلام صام أربعين يومًا، وهو يدل على أن الصوم كان معروفًا ومشروعًا ومعدودًا من العبادات، واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعًا تذكارًا لخراب أورشليم وأخذها، ويصومون صومًا من شهر آب، وتذكر بعض المراجع أن التوراة فرضت عليهم صوم اليوم العاشر من الشهر السابع، ولعلهم كانوا يسمونه عاشوراء، ولهم أيام أخر، يصومونها نهارًا.

أما النصارى فليس في أناجيلهم المعروفة نص في فرضية الصوم، وإنما فيها ذكره ومدحه واعتباره عبادة، وتوجد إشارة إلى أن الصائم عليه أن يدهن رأسه ويغسل وجهه، حتى لا تظهر عليه أمارة الصيام، فيكون مرائيًا كالفريسيين، ثم وضع رؤساء الكنيسة ضروبًا من الصيام، وفيها خلاف بين المذاهب والطوائف النصرانية، ومنها صوم عن اللحم، وصوم عن السمك، وصوم عن البيض واللبن، وكان الصوم المشروع عند الأولين له وجوه مختلفة. فاليهود كانوا يأكلون في اليوم والليلة مرة واحدة، فغيروا وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار. (تفسير المنار، ج/2، والأركان الأربعة للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي).

وصفوة القول إن الصوم عادة وعبادة قديمة، ربما ظهر بظهور البشر والحياة على وجه البسيطة، بيد أن صيغته وضوابطه، وكذا البواعث عليه تختلف من أمة لأخرى، بحسب الأديان والعادات أو بحسب التكاليف والتقاليد.

الصوم في الإسلام:

لقد جاء التشريع الإسلامي للصوم أكمل تشريع وأوفاه بالمقصود، وأضمنه بالفائدة، وقد تجلت فيه حكمة الله، ففرض الله تعالى الصوم لحكم سامية، ومقاصد أخروية ودنيوية، ذكرها العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله في كتابه القيم "الأركان الأربعة" نقلا عن كتاب "زاد المعاد" للعلامة ابن القيم: " ولإعانة الروح التي تجني عليها التخمة والحياة المترفة الرتيبة، ولتمكين المسلم من أداء رسالته - الخلافة - التي لا يقوي عليها إلا بالتوسط والاعتدال والصبر، والاحتمال، فالصوم في الإسلام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تذكو به مما فيه حياتها الأبدية، فالجوع والعطش يكسر من حدتها وسورتها، ويذكرها بما للأكباد الجائعة من المساكين، يحبس قوى الأعضاء عن استراسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة من جماحها، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين".

و"الصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الصوم جنة" .

أثر الصوم في النفوس والمجتمع:

يقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي وهو يشرح حديث إذا دخل رمضان، فتحت أبواب الجنة: "الصوم إذا التزمته أمة من الأمم سلسلت شياطينها، وفتحت أبواب جنانها، وغلقت أبواب النيران عنها".

ويقول في موضع آخر:

"..... واجتماعهم في الصوم يكون سببًا في نزول البركات الملكية على خاصتهم وعامتهم وأدنى أن ينعكس أنوار كملهم على من دونهم، وتحيط دعوتهم من ورائهم. (حجة الله البالغة، ج/2)

لقد شرع الصوم من أجل أن تسمو النفوس البشرية إلى عالم الخير، وللتريض على الصفات النبيلة التي تؤهلها للسعادة في الدارين، وفيه يتزود المؤمنون بحكم الصوم وفضائله لباقي شهور العام حتى يصلوا إلى التقوى بحيث يتقون بتلك الفضائل الشرور والآثام.

تزكية النفس وفعل الخيرات:

فالصوم يهذب النفس البشرية، ويلطف المشاعر، ويسمو بالروح، وفيه تقوى وشائج القربى بين أفراد المجتمع الإسلامي، ويتذكر الغني الذي فتح الله عليه من فضله أحوال وأوضاع إخوته الفقراء، ممن يعيشون الفقر والفاقة، ويتطلعون إلى مساعدته، وهكذا تتكامل الجهود، وتقوى روح التكافل الاجتماعي، وتتحقق الخيرية والمودة بصفتها قيمة أصيلة من قيم هذا الدين.

والصوم يحقق أعظم الآثار نفعًا على مستوى الروح والإيمان لأن الصائم يكون مشدودًا وتعلقًا أكثر بخالقه ورازقه، ومن ثم يكون مدفوعًا بتلقائية يسندها الإيمان إلى فعل الخير، والمساهمة الواعية في سد الثغرات الاجتماعية عن طريق مراعاة أحوال الآخرين، ومدِّ يد العون والمساعدة للمحتاجين والفقراء من ذوي العون.

إن رمضان مدرسة روحية أو دورة تدريبية محددة الزمن والهدف والبرنامج.

فالزمن شهر من كل عام كما قال عز وجل: "أيامًا معدودات".

والهدف تصفية الروح وتزكية النفس وضبطها بضابط الشرع الحنيف بحيث يسمو المسلم ويرقى إلى أعلى مراتب المجاهدة والقيام بدوره وواجبه في الأرض، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".

والبرنامج طائفة مباركة من الأعمال الصالحة، وهي طاعات مكثفة متتابعة بالليل والنهار من الصلاة والصيام والصدقات، وتلاوة القرآن، والأذكار،والاعتكاف والأدعية والصمت مع التفكير.

شهر الجود والبذل:

رمضان شهر الجود والبذل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"، كما جاء في الحديث وما أحوجنا نحن المسلمين اليوم إلى أن نربي أنفسنا على معنى الجود والعطاء في شهر رمضان.

رمضان موسم للعبادات والطاعات:

رمضان بفيوضاته الروحانية يقوِّم الأخلاق، وينمو فيه الود، والإخلاص، والإخاء بين الناس، وتتآلف فيه القلوب، لينزرع بينها الود والمحبة، وتتواصل العلاقات التي تكاد تنقطع عراها، وتزول الخطايا وتستبدل، فتزداد فيه الحسنات، وتمحي الخطايا والآثام، وتهب فيه نفحات الإيمان والعبادة والطاعة، فهو شهر الرضوان والروح والريحان، يقول العلامة أبوا لحسن الندوي في كتابه "الأركان الأربعة":

"رمضان موسم عالمي  للعبادة والذكر والتلاوة والورع والزهادة، يلتقي على صعيده المسلم الشرقي مع المسلم الغربي... تغشى سحابته النورانية المجتمع الإسلامي كله، فيحجم المفطر المتهاون بالصوم عن الانشقاق عن جماعة المسلمين.... فهو صوم اجتماعي عالمي، له جو خاص يسهل فيه الصوم، وترق فيه القلوب، وتخشع فيه النفوس، وتميل فيه إلى أنواع العبادات والطاعات، والبر والمؤاساة".

ويقول في موضع آخر:

"وبذلك كله أصبح شهر رمضان مهرجانًا للعبادة، وموسمًا للتلاوة، وربيع الأبرار، والمتقين، وعيد العباد والصالحين، تتجلى فيه عناية هذه الأمة بإقامة أحكام دينها، وغرامها بالعبادة، وإخباتها إلى الله، ورقة القلوب والتنافس في البر والمؤاساة في أروع مظاهره".

فالصوم في الإسلام لم يشرعه الله تعذيبًا للبشر، ولا انتقامًا منهم؛ بل رحمة بهم، وتفضلاً عليهم، فاجعلوا من رمضان موسمًا لطاعة الله، ومضاعفة الخيرات، والعطف على الضعفاء والمحرومين، فالله جعله للقلب والروح فلا تجعلوه للبطن والمعدة، وجعله الله للحلم والصبر، فلا تجعلوه للغضب والبطش، وجعله الله للسكينة والوفاء فلا تجعلوه للسباب والسجار، وجلعه الله تهذيبًا للغني الطاعم ومؤاساة للبائس، فلا تجعلوه معروضًا لفنون الأطعمة والأشربة، تزداد فيه تخمة الغني بقدر ما تزداد فيه حسرة الفقير، فاستعينوا بصومكم على تقوى الله لأنه سبحانه جعله عونًاعلى التقوى... لعلكم تتقون.





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع