مضى من هذا الشهر الفضيل نصفه، وبقي أمامنا النصف الآخر، ولكن النصف الآخر يتضمن أكثر الأمور ثواباً عند الله سبحانه وتعالى، فأمامنا من هذه الأيام الباقيات القليلات، التي ربما إن لم نتدارك، لم نحس بها كما لم نحس بالأيام الماضيات، وكأنها برق خاطف لم نحس به.
يوم 17، يوم مشهود في تاريخ هذه الأمة، يوم فارق أساس بين الحق والباطل، بين جماعة تعبد الله سبحانه وتعالى وتوحده ولا تشرك به شيئاً وتريد الخير للناس أجمعين، وفئة أخرى كانت تريد أن تطغى على الأرض وأن تقضي على الخير وعلى أهل التوحيد، كانت المعركة الفاصلة بين المسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين بقيادة أبي جهل، تلكم هي معركة بدر الكبرى، التي نصرالله سبحانه وتعالى المسلمين نصراً عزيزاً، لم يكن هذا النصر قد جاء بسبب الإعداد المادي أو إعداد الجيش والقوة، وإنما كانت هناك مجموعة صغيرة لم تنطلق أساساً حتى تبدأ بالحرب، وإنما ذهب لأمر آخر، وحينئذ أخذت القريش العزة بالإثم فجمعت خيلها ورجلها وقوتها وعدتها لتقضي تماما على هذه الفئة المؤمنة.
وإذا بالأمر ينعكس تماماً، وينتصر المسلمون بفضل الله سبحانه وتعالى ونصره وقوته، كما يقول رب العالمين (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) فرمى الله سبحانه وتعالى هؤلاء الأعداء، فقتل أكثرهم، وأسر عدد كثير منهم، وهزموا شر هزيمة لم تشهد قريش مثلها في تاريخها.
وهذه تعطي الأمل دائماً للمسلمين، بأن المسلمين إذا ما كانوا مع الله سبحانه وتعالى ثم بعد ذلك أعدوا الإعداد المطلوب بقدر إمكانياتهم، فإن الله سبحانه وتعالى ينصرهم، لأن هذا الدين هو الدين الوحيد الخالد الذي أراده الله سبحانه وتعالى أن يبقى في الأرض، وأن يكون ديناً كاملاً، وأن تكون هذه النعمة يتمها الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته لتتمكن هذه الأمة آجلاً أو عاجلاً من هذه الأرض كلها (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، بهذه الرحمة وليست بالقوة سوف ينتشر الإسلام، ويتمكن المسلمون، ويكون أيضاً مع المسلمين القوة مع الرحمة، والعدل مع السيف، وليس السيف فقط، أو العدل دون القوة، هكذا وعد الله سبحانه وتعالى، وسيتحقق هذا الوعد عندما يكون المسلمون مهيئين لهذا النصر، لأن الله سبحانه وتعالى له شرطين أساسيين لتمكن هذه الأرض كلها، الشرط الأول : العبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى ، لا تكون هذه العبودية لأي إنسان ولا أي دولة ولا لأي قوة ولا لأي مشروع أرضي، وإنما تكون العبودية لله سبحانه وتعالى، وهذه العبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى هي التي تجمع الأمة.
الشرط الثاني: أن يكونوا صالحين، صالحين لحمل الأمانة، وليس المقصود بالصالحين هنا كثرة الصلاة رغم أهميتها، وإنما لأن كثرة الصلاة دخل في باب العبودية، والعبودية تشمل كل هذه الجوانب، والصالحون أي الصالحون لتحقيق العدالة، الصالحون للتضحية بحظوظ أنفسهم ومصالحهم الشخصية أو الكرسية أو القبيلة في سبيل الله، هؤلاء الذين يستحقون النصر المبين .
هذه الأيام الباقيات القليلات أيضاً تحمل بين طياتها ذكرى عظيمة ثانية لا تقل شأناً من الذكرى الأولى من هذا التاريخ العظيم، من يوم بدر، وهو فتح مكة في يوم 20 من هذا الشهر العظيم، وهو فتح بكل ما تعني هذه الكلمة، وسبقه الله بفتح آخر سماه الله فتحاً، وهو صلح الحديبية، (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) هذا الفتح هو فتح صلح الحديبية، لأنه مهد للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينشر دعوته، لأن الأساس في الإسلام هو نشر الرحمة والدعوة، والسلاح أو السيف يأتي لإزالة الموانع من الطغاة، ولذلك لم يسم الله فتح مكة في القرآن فتحاً، وإنما سمّ صلح الحديبية التي كان في ظاهره فيه تنازل، وهكذا ظن بعض الصحابة حتى سيدنا عمر، لأن فيه تنازلاً لصالح قريش، ولكنه كان نصراً بدليل أن الرسول عقد الصلح عام 6 من الهجرة ومع الرسول من الصحابة في حدود 1300-1500 صحابي فقط في معظم الروايات، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن عن نيته العمرة، ولكن بعد سنتين أي 8 من الهجرة والرسول لم يعلن عن فتح مكة وإنما أمر من أراد أن يكون معه فليجهز، فكان جيشه الذي صحبه بين 8000 – 10000 صحابي، مما يدل على أهمية الدعوة .
ولذلك فإن المؤامرات التي تبرز الإسلام كأنه سيف قاطع أو محرقة للناس، هي مؤامرة على هذا الدين، حتى لا ينتشر بين العالم أجمعين ، الحمد لله المسلمون موجود اليوم في أي مكان ذهبت إليه ، إلى شمال السويد أو فلندا أو النرويج ففيه مسلمون يقرب من 10000 – 20000 ألف مسلم في هذه البقعة من الأرض التي في معظمها لا تغيب عنهم الشمس.
وقد رتب أحد الإخوة الآذان بالترتيب الزمني، فإن بدأ الآذان من مكة المكرمة لا ينقطع طوال أربع وعشرين ساعة. فهذا الانتشار هو الذي يخوفهم . فالفتح هو فتح القلوب والناس والبيوت والدنيا بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
والأيام الباقيات والليالي الباقيات أيضاً تحمل بين طياتها أعظم تكريم بعد الإسلام لهذه الأمة المحمدية، هذه المكرمة على مر التاريخ هي ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ليلة واحدة تعادل 83 سنة، لأنه في هذه الليلة نزل القرآن الكريم، وهو الطريق المستقيم، وهو المنهج الصحيح، وبدون هذا المنهج ومع مبينه وهو السنّة، ستعود الأمة العربية أو الإسلامية إلى جاهليتها الأولى التي كانوا عليها في التفرق والتمزق والتخلف وفي ضرب بعضهم ببعض على النهب والسرقة وليس على القيم، إلا حلفاً واحداً وهو حلف الفضول الذي شارك فيه النبي صلى الله عليه وسلم في أيام الجاهلية.
هذه الليلة أفضل من الدنيا كلها من حيث الثواب وأما من حيث الواقع الليلة التي نزل فيها القرآن أفضل من جميع الليالي على مر الزمن لأنه بدون القرآن نصبح تائهين .
اليوم ومعنا القرآن ولكننا لا نلتزم بما في القرآن من القيام بالصوة الصحيحة، وليس لنا مرجعية، بل كل من قرأ آية أو آيتين ينصب نفسه مرجعية ويُفتي في الدماء والأعراض، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عرض لهم أمر بسيط يجمعون لها أهل بدر حتى يُفتون فيها، لذلك نحن وصلنا إلى ما وصلنا إليه، فالذين بيدهم الحل والعقد وبيدهم الأمر والنهي هجروا وتركوا هذا القرآن الكريم.
يقول رب العالمين (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) ليس هناك ليلة أبرك من هذه الليلة، هذه الليلة وصفها الله سبحانه وتعالى كما وردت في أحاديث بصفات عظيمة أنها ليلة القدر ، ولفظ "القدر" لها ثلاثة معاني ، فتأتي بمعني الشرف، شرف الأمة بهذه الليلة، ويقول رب العالمين (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ) أي شرف لك كما يقوله ابن عباس (وَلِقَوْمِكَ) لأنه ما كان لهم ذكر، ولم يكن لهم وجود في التاريخ يذكر، ولم تكن لهم إمبراطورية أو حضارة، ولكن الله رفع شأنهم بين الأمم جميعاً، وقادوا الأمم، ولكن هذا الشرف ليس مجانياً، وإنما مسؤولية (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ )، فالعرب قبل جميع الأمم ثم بقية المسلمين يُسألون عن هذا الشرف، لماذا ضيعتم هذا الشرف؟ لماذا وصلتم إلى هذه المرحلة من التفرق والتمزق؟ دينكم دين التوحيد وأنتم مفرقون! فديننا واحد وكتابنا واحد ونحن متفرقون! بينما في الهند يوجد 480 ديناً و 356 ألف آلهة مع ذلك يتعايشون، وكذلك في الصين وهو يتطورون ولماذا المسلمون متفرقين! (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ )، وسؤالنا يكون بثمن باهظ ،وهو أن الله سبحانه وتعالى يؤدبنا في الدنيا بهذه المصائب التي نراها، ما شهد التاريخ حقيقة مثل هذا التفرق في الأمة الإسلامية، وكذلك في هذا التمزق والقتال والاستهانة بالأرواح ما رأينا أن تكون دولة تقوم بالثأر! فهل هناك دولة تذهب وتأخذ بالثأر في داخل الشقق وتقتل الناس !!! وهل هناك دولة تضرب شعبها بالبراميل! والآن طوروا البراميل إلى الحاويات! وفي العراق يضرب الشعب بعضه البعض وقد عاشوا مع البعض طوال السنين، فأي عقل يقبل هذا! وأصبحنا كما يقول رب العالمين في حق بني إسرائيل (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ ) أي يمتحنون ويبتلون وتصيبهم المصائب والكوارث والدوائر ( فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) وفي علم الأصول مرة أو مرتين لا يقصد بها مرتين وليس لها مفهوم بل ثلاث مرات أو أربعاً أو خمساً (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) أي لا يتوبون إلى الله، ولا يرجعون إلى كتبهم بالنسبة لهم، وبالنسبة لنا لا نرجع إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية المشرفة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم( وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لا يرجعون إلى العقل أيضاً أي لا عقل ولا شرع، لا وحي ولا العقل.
هذا الشرف مسؤولية أن نحس بها حكاماً ومحكومين، وإن الله سيسألنا وسيصيبنا، وليس هناك من ينجو من عذاب الله ، وقد تصورنا أن الفتن لا تصيب بعض الدول وأنهم في منجى، ولكن نرى اليوم أنهم قد وصلتهم الفتن، وإذا ما قمنا بسد هذه الفتن من منطلق القرآن والسنة، وإذا ما قام حكام العرب وحكام المسلمين والعلماء والمفكرون والعقلاء والحكماء والإعلاميون وعامة الشعب بمنع هذه الفتن، والسعي الجاد لها، ليس من باب المصالح وإنما من باب إرضاء الله، ومن باب المسؤولية، والله ستنال هذه المصيبة كل قرية وكل مدينة ونسأل الله العفو والعافية.
هذه سنة الله في هذه الأرض، وسنة الله في الذين خلوا من قبلكم فنحن حينما نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ندافع عن أنفسنا كما في قصة السفينة فلو خرقوا السفينة هلكوا وهلكوا جميعاً ولو أخذوا بأيديهم نجوا ونجوا جميعهم .
فكم مؤلم حينما يموت كلب أو شخص في الدول الغربية، فالكل يندد بالجريمة، حتى نحن العلماء أيضاً، وليس لدينا مشكلة، ولكن حينما يستشهد الأبرياء، ويقتل حفاظ القرآن الكريم، ويُحكم عليهم، ويُقتلون، فلا نسمع أي تنديد! فهذه ازدواجية، فنحن نتهم الغرب بالازدواجية، ونحن مزدوجون، ونحن في الاتحاد مع الحق ونقول رأينا في كل أمور دون خوف إلا من الله، ونقول بصراحة هذا حق وهذا باطل، ولكن لا يكفي هذا ( وسوف تسألون).
المعني الثاني للقدر أي التقدير، أنه في ليلة القدر، كما قال ابن عباس وغيرهم، تكتب وتنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا كل مقادير هذه الأمة من الموت والأجل وكل الأمور، لذا يجب أن ندعو الله أن يكتب تقديراً لهذه الأمة بحيث يصلح حال هذه الامة خلال هذه العام
والمعنى الثالث للقدر أي التضييق، أي تضييق الأرض بالملائكة، لكثرة الملائكة في تلك الليلة، يبقون معنا ويسلمون علينا ويدعون لنا، ونحن لا نحس بهم طوال ليلة القدر، ثم يعودون إلى أماكنهم ووظيفتهم التي خصص الله لهم.
إذاً هي ليلة القدر والشرف والمسؤولية وليلة السلام، سلام من الله لهؤلاء القائمين بالليل والصائمين بالنهار، وسلام من الملائكة، ويجب أن يكون هذا السلام بين المؤمنين أيضاً، فتكون هذه الليلة ليلة سلام وأمن وأمان وأن ندعو أن يعود الأمن والأمان إلى جميع بلاد المسلمين وأن يجعل هذا البلد آمناً.
وهي ليلة (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وقد قسره ابن عباس وجمهور المفسرين بأنها ليلة القدر، وهي ليلة إن أحييناها فإن الله يغفر لمن قام ليلة القدر أيماناً واحتساباً.
ولدينا ثلاث فرص للمغفرة (من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غُفر له ما تقدم من ذنبه) ومن قام رمضان قياماً عاماً إيماناً واحتساباً عُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً بالله واحتساباً خالصاً لله سبحانه وتعالى غفر له ما تقدم من ذنبه.
هذه ليلة لا يمكن أن تتكرر، وأنها ليست مجرد الإحياء فقط، بل استعداداً لهذه الليلة، وتهيئة النفوس للالتزام بمقتضيات هذه الليلة، حتى نبقى مع الله، ونخلص قلوبنا من حظوظ أنفسنا، ومن أمراض القلوب والنفوس، وليس مجرد أن تكون عادة بل أن تكون هذه العبادة مؤثرة في نفوسنا.
في هذه الأيام المباركات يجب علينا أن نجتهد فيها، ليس على مستوى العبادات الظاهرية فقط، وإنما على مستوى العبادات الأساسية القلبية التي تهيأ النفوس لهذه الأيام، بحيث ننظف قلوبنا من الحقد ومن الحسد ومن البغض والشحن وترك الناس، لأن هؤلاء المتشاحنين لن يقبل الله دعاءهم ما داموا على الباطل، ويجب على المؤمنين أن يكونوا متحابين في الله ومتعاونين ومتكافلين، وأن ننظف أنفسنا من الأهواء والشهوات (لعلكم تتقون)
وعلينا أن نغير سلوكنا وهو الأساس، وكذلك تصرفاتنا القولية والفعلية، والآن لنسأل أنفسنا خلال 15 يوم، هل تغير ت أنفسنا نحو الأحسن؟ وهل أصبح لدينا الصبر؟ والصوم نصف الصبر، وهل تغيرت قلوبنا؟ وهل تغيرت سلوكياتنا؟ ولتكون إجابتكم محايدة وحاول أن تبذل الجهد للتصحيح والتصليح والتغيير وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ولا يجوز لنا أن لا نحس بإخواننا المضطهدين في كل مكان في سوريا والعراق وفلسطين وغزة المحاصرة فليس لديهم شيء يذكر وهم يجاهدون ويدافعون عن عرض الأمة أمام أكبر عدو، وهم يضحون بأولادهم وفلذات أكبادهم ، فواجب علينا شرعاً أن نحس بهم وبمعانتهم، وأن نساعدهم، وإن لم نكن معهم بأبداننا وأرواحنا فلنكن معهم ببعض أموالنا، وكذلك مع إخواننا في سوريا والعراق وفي روهنجا، والآن بعضهم في الأرض تائهون ما يجدون مكاناً يأويهم، وكذلك إخوانكم المضطهدون في أفريقيا الوسطى وبنغلاديش ومصر فندعو لهم جميعاً وأن نساعدهم بقدر الإمكان وندعو أن يعود الأمة الإسلامية إلى قوتها ورشدها .