أحد تلاميذ الشيخ والعاملين بمكتبه
هذه شهادة حق، أقدمها لوجه الله تعالي، لم يطلبها منى الشيخ، ولم يعرفها إلا بعد أن قدمتها له، فقرأها وعيونه تذرف.
يوسف القرضاوي فقيه العصر، عَلَم المجاهدين، وقدوة المربين، وإمام الدعاة، شيخ الوسطية، فقيه الدعاة، وداعية الفقهاء، متعدِّد المواهب، متنوِّع القدرات والملكات؛ فهو خطيب يُتقن الخطابة، مؤلِّف يتفنَّن في التأليف، شاعر يبدع في شعره.
عالم يحمل ملكة العالم، وعقلية الفقيه، وتفكير الفيلسوف، ونفس الشاعر، ومهارة الأديب، وغَيْرة المؤمن، ورُوح المقاتل، نافذ البصيرة، مناضل يحمل هموم الدين والأمة، قوي في إيمانه، مجتهد في عمله, محبوب من أمته, يقدر الناس، وينزلهم منازلهم, ويألفهم ويألفونه. ويحبهم ويحبونه، العالم العامل الزاهد.
لن أتحدث عن القرضاوي الفقيه أو المفكر، أو الشاعر، أو الداعية أو المربي أو الثائر المنافح عن الحق، وإنما سأتحدث عن جانب واحد من جوانب شخصيته قد يخفى على كثيرين؛ وهو: القرضاوي الإنسان.
كيف يتعامل الشيخ مع من يعمل معه؟
احتد الشيخ يوما على مدير مكتبه السابق: الأخ وليد أبو النجا، ثم صلينا العصر، وبعد أن صلى الشيخ العصر، قام ليعتذر للأخ وليد، ويريد أن يقبل رأسه، ولكن الأخ وليد لم يرض، وجعل الشيخ يمشي وراءه وهو أمامه ليقبل رأسه، ولكنه أبى، وكان الشيخ مجد مكي حاضرا، فقال: الامتثال خير من الأدب. وقال وليد: والله لئن قبلت رأسي لأقبلن قدمك، وما نحن إلا أولادك وتلاميذك. فانظر إلى تواضع الشيخ، وكيف يراجع نفسه من قريب، ولا يتحرج أن يعتذر عيانا بيانا، بل أراد أن يبالغ في الاعتذار. وهذا لا يصدر إلا من رجل سمح، لا يرى لنفسه فضلا على من حوله.
وفي موقف آخر مع السائق، وقد صاح فيه أن يسرع بعض الشيء ليدرك الخطبة، في مسجد عمر بن الخطاب، فلما عاد الشيخ من الخطبة، ربت على كتف السائق، وقبَّل رأسه واسترضاه، وقال له: لا تغضب منى.
ولا يقدر على فعل هذا إلا أولو العزم من الرجال.
أما إذا اتصل بك الشيخ لحاجة، فإنه لا يذكرها حتى يسلم عليك، ويطمئن على أهلك وعيالك، قبل أن يبادر بحاجاته، وإذا مرض أحد العاملين في مكتبه، أو أحد تلاميذه، اتصل به وسأل عنه، وتابع حالته حتى يشفى، فإن دخل المريض المستشفى ذهب إليه وعاده، وقد حدث هذا مع أحد زملائنا في المكتب، ويحدث مع كثير من معارف الشيخ وتلاميذه.
ويشارك الشيخ من حوله أفراحهم، دعاه الشيخ محمد مرسي، وهو من زملائنا في المكتب، لعقد قران ابنته، ولانشغال الشيخ محمد والد العروس بتجهيزات العرس، لم يستطع أن يبلغ الشيخ بنفسه، وأبلغه عن طريق مدير المكتب، فاستجاب الشيخ حفظه الله، وذهب إلى العرس، وعقد عقد الزواج بنفسه، وجلس معهم جلسة شائقة.
وإذا قدر لك أن تصحب الشيخ في أحد أسفاره، تشعر كأن الشيخ مكلف بالاهتمام بك، وليس العكس، فهو لا يأكل حتى تأكل، وإذا فرغ قبلك انتظرك، ويشير عليك بأن تأخذ من كذا وتأخذ من كذا، وإن غبت عن نظره نادى عليك الشيخ، فينادي عليك كل من حوله، ويغبطك الناس على القرب منه. وكلما سافرت معه من بلد إلى بلد، قال وهو يودعني بعد الوصول: سامحني إن كنت أغضبتك، أو أسأت لك. ووالله ما فعل.
وكنت مع الشيخ مرة في المدينة المنورة، وفي الروضة الشريفة طلب مني أن أدعو له، وكان هو يدعو لي ولكل من يعرفه، من أهل وأصدقاء وتلاميذ وجيران، وخدم وسائقين، مَن مات ومنهم ومن هو حي.
وسافرت معه مرة إلى ندوة البركة، وذهبنا إلى العمرة، وفي الفندق بعد أن أدينا مناسك العمرة، قال لي: انزل وطف بالبيت. فقلت له: سوف أبقى معك وسأطوف فيما بعد. فقال: انزل وطف، أنت ما زلت شابا، استمتع بالطواف والنظر إلى البيت.
وفي عمرة أخرى كنت معه، وكنت قد تناقشت معه في مسألة فقهية في العمرة السابقة، فإذا بالشيخ يغير رأيه، ويأخذ بما ذكرته له، فلما رآه الأخ صالح باقلاقل، وهو من تلاميذ الشيخ في جدة، قال: لماذا غيَّرت رأيك يا شيخ؟ فقال: أخذت برأي إسماعيل.
وطلبت مني زوجتي أن تسلم على الشيخ، فأخبرته بذلك طالبًا موعدًا، فأجاب مرحبًا ومستبشرًا: في أي وقت. ولما أتيتُه، دخلنا المكتب، فأصر ألا يستقبلنا إلا في المجلس، إكراما لي ولزوجتي. ولمعرفتي بكثرة مشاغله، كلما أردت أن أستأذن، رفض وقال: اجلس. وقال لزوجتي: إذا حدث لك أي شيء كلميني مباشرة، فأنا في منزلة والدك. وفرحت زوجتي بذلك بالطبع أيما فرح.
هذا هو القرضاوي، الذي تتسابق المجامع العلمية لدعوته ليبدي رأيه في نازلة من النوازل، وتتلقف الصحف أخباره، إنسان هين لين محبوب، يعتذر لتلميذ من تلاميذه، ويقبل رأس سائقه، ويعود المريض، ويسأل عن الأصدقاء، وأبناء الأصدقاء، والعاملين معه، وأبنائهم.
حفظك الله يا شيخنا ومد في عمرك، ولا حرمنا الله منك