البحث

التفاصيل

فقه الوسطية الإسلامية والتجديد "معالم ومنارات"

الرابط المختصر :

الحلقة [ 3 ] :
الفصل الأول : مفهوم "الوسطية" ودلالتها

■ مفهوم الوسطية في اللغة:

يجدر بنا هنا أن نمهّد ببحث لغوي موثّق عن مفهوم (الوسطية) في لغتنا العربية.
والمعروف أن لفظة الوسطية هي مصدر صناعي منسوب إلى كلمة (الوسط). و(الوسط) اسم مشتق من: وسَط يسِط سِطة، على وزن: وعد يعد عدة.

والمادة (و س ط) قد وردت في القرآن: اسماً وفعلاً، وصفة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُـــــمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} [العاديات:5] {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89].

■ في معجم ألفاظ القرآن:

وجاء في معجم ألفاظ القرآن الكريم، الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة:
وسَطَ الشيءَ يِسِطه وسْطاً وسِطَة: كان بين طرفيه. تقول: وسطت الطريق، ووسطت القوم.

وسَطْن: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} [العاديات:4،5].

الأوسط اسم تفضيل من وَسَط. وأنثاه الوسطى. والأوسط يأتي في معنى الأقرب إلى الاعتدال والقصد والأبعد عن الغلوّ في الجودة والرداءة ونحوها. ويأتي في معنى الأفضل إذ كان أوسط الشيء محميّاً من العوارض التي تلحق الأطراف.

والوُسطى تأتي في معنى الواقعة بين شيئين، وبمعنى الفضلى، كما قيل في الأوسط.

أوْسَط: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89]. المراد: أن يكون أقربَ إلى الاعتدال بين الإسراف والتقتير.

أوسطهم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُـــــمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]، أوسطهم أفضلهم رأيا.

الوسطى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، الوسطى المتوسطة، فقيل هي صلاة العصر لتوسّطها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، وقيل غيرها، أو الوسطى الفضلى، وقد اختلف في تعيينها أيضاً.

الوسط للشيء: ما بين طرفيه. ويستعمل الوَسَط في الفضائل إذ كانت وسطاً بين الرذائل. فالشجاعة وسط بين الجُبن والتّهور، وكذا سائر الفضائل. ثم جعل الوسط وصفاً للمتّصف بالفضائل فصار معناه الخيّر الفاضل. ومن شأن هذا أن يكون عدلاً في قضائه وشهادته. وهذا الوصف نظراً إلى أصله يستوي في موصوفه فلا يتغير لتغيّر موصوفه. يقال: رجل وسط وأمّة وسط.

وسَطاً: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143]) .[1]

■ في مفردات القرآن:

وقال الراغب في (مفردات القرآن):
وسط الشيء: ما له طرفان متساويا القدر. ويقال ذلك في الكميّة المتّصلة، كالجسم الواحد إذا قلتَ: وسطُه صَلْب، وضربتُ وسَط رأسه (بفتح السين).

ووَسْطٌ (بالسكون) يقال في الكمية المنفصلة، كشيء يَفصِل بين جسمين، نحو: وسْطُ القوم كذا.

والوسَط تارة يقال فيما له طرفان مذمومان.. فيستعمل استعمال القصد المَصُون عن الإفراط والتفريط، فيُمدح نحوُ السواء والعدل، نحو: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] وعلى ذلك قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم:28].

وتارة يقال فيما له طرف محمود وطرف مذموم كالخير والشر [2]. الخ

■ كلام ابن الأثير:

وقال ابن الأثير في مادة (و س ط) في النهاية في غريب الحديث والأثر:
(وفيه: (خير الأمور أوساطها) [3] كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم، وتجنبه بالتعري منه والبعد عنه، فكلما ازداد منه بُعداً ازداد منه تعرياً. وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما، وهو غاية البعد عنهما، فإذا كان في الوسط فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان) [4] أ.هـ

■ معاجم اللغة الكبرى:

وقد أطال العلاّمة الزبيدي النفس في شرح المادة (وسط) من القاموس، بحيث استغرقت في كتابه (تاج العروس) ست عشرة صفحة بحسب طبعة الكويت، ونقل عن أئمة اللغة والشرّاح نقولاً مهمّة تجلّي المفهوم وتزيده وضوحاً. قال رحمه الله نقلاً عن ابن برّي:

(اعلم أن الوسط بالتّحريك: اسم لما بين طرفي الشيء، وهو منه، كقولك: قبضتُ وسط الحبل، وكسرتُ وسط الرمح، وجلستُ وسط الدار، ومنه المثل: (يرتقي وسطاً ويربِض حجرة) أي يرتعي أوسط المرعى وخياره ما دام القوم في خير، فإذا أصابهم شرّ اعتزلهم، وربض حَجرة، أي ناحية منعزلاً عنهم. وجاء الوسط محرَّكاً أوسطه على وزان نقيضه في المعنى وهو الطَّرَف؛ لأن نقيض الشيء يتنزل منزلة نظيره في كثير من الأوزان، نحو: جوعان وشبعان وطويل وقصير...

قال: (واعلم أن الوسط قد يأتي صفة، وإن كان أصله أن يكون اسماً من جهة أنّ أوسط الشيء أفضله وخياره، كوسط المرعى خير من طرفيه، وكوسط الدابّة للركوب خير من طرفيها لتمكن الراكب. ومنه الحديث: "خيار الأمور أوساطها". وقول الراجز :
إذا ركبتُ فاجعلاني وسطاَ

فلمّا كان وسط الشيء أفضله وأعدله جاز أن يقع صفة، وذلك مثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي عدلاً، فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه، وأنه اسم لما بين طرفي الشيء وهو منه)[5] .

قال الزّجاج في قوله تعالى{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143]: فيه قولان: قال بعضهم: أي عدلاً، وقال بعضهم: خياراً، واللّفظان مختلفان والمعنى واحد؛ لأن العدل خير والخير عدل.

قال في القاموس: وسط الشيء (محرّكة): ما بين طرفيه. قال:

إذا رحلتُ فاجعلوني وسطاَ * إني كبير لا أطيق العُنَّدا

أي اجعلوني وسطاً لكم ترفقون بي وتحفظونني، فإني أخاف – إذا كنت وحدي، أومتقدما عليكم، أو متأخرا عنكم – أن تفرُط دابّتي أو ناقتي، فتصْرَعَني.

وفيه: الوسيط: المتوسّط بين المتخاصمين. وفي العباب: بين القوم.
وُسُوط الشمس: توسّطها في السماء.
وواسطة القلادة: الدرة التي في وسطها، وهي أنفس خرزها.
ودين وسوط كصبور: متوسط بين الغالي والتالي.
و(واسط) بلد بناه الحجاج بن يوسف الثقفي بين الكوفة والبصرة، ولذلك سميت (واسطا) لأنها متوسطة بينهما؛ لأن منها إلى كل منهما خمسين فرسخا [6] .

وفي (لسان العرب) نحو ما في (تاج العروس).

وقال الزمخشري في (أساس البلاغة): خلاصة ما ذكرناه هنا: وسط، جلس وسَطَ الدار، وضرب وسَطه وأوساطهم، وهو أوسط أولاده، وهي وُسْطى بناته.

ووسَط القوم، وتوسَّطهم: حصل في وَسَطِهم. وتوسّطت الشمسُ السماءَ. ووسَّطته القوم. وتوسّط بين الخصوم. ووسَّطتُه. وهي واسطة القلادة، ووسائط القلائد.

ثم قال: ومن المجاز: هو وسَطٌ في قومه، وسِطَةٌ ووسِيط فيهم. وقد وُسِط وساطة، وهم وسَطٌ ووساط: خيار.{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143]. وقال زهير:

همُ وسطٌ يرضى الأنامُ بحكمهم * إذا نزلت إحدى الليالي بمُعظَمِ!

وقال أعرابي للحسن: علّمني ديناً وسُوطاً، لا ذاهباً فروطاً، ولا ساقطاً سقوطاً ![7]

ومن المعاني التي وردت في كتب اللغة عن الوسط والتوسّط، قولهم: توسّط فلان: أي أخذ الوسط بين الجيد والردئ. وهذا المعنى يستخدم عرفا. وهذا بعيد عن الوسطية التي نريدها؛ لأن وسطيتنا تعني خيار الشيء وأمثله وأفضله. فهي أشبه بالنجاح بدرجة ممتاز أو جيد جدا، بخلاف الوسط بالمعنى الذي أشرنا إليه، فإنه أشبه بدرجة (مقبول).

ومن خلال ما سجّلنا هنا من كلام اللغويين، وشعر الشعراء، وتعليقات الأدباء والعلماء: يتبيّن لنا: أن معنى (الوسط) – ومنه: الوسطية – في الأساس، هو الوجود في المكان الوسَط، بعيدا عن الطرفين أو الأطراف، لأن الوسط محمي ومحروس ومحاط من الجانبين، ولا يتعرّض لما يتعرّض له الطرف باستمرار من خطر وآفة، وما عدا ذلك، مثل: العدل، والخيار، فهو – كما قال الزمخشري – مجاز، متفرّع عنه، ومترتّب عليه.

وهذا المعنى الذي تجلّى لنا من خالال هذه الرؤية اللغوية البصيرة، هو لب المعنى الشرعي الإسلامي للوسطية، الذي اخترناه، والذي تشهد له كل الأدلّة الشرعية المعتبرة من كتاب الله وسنة رسول الله، كما سيتّضح لنا ذلك من خلال الفصل القادم.

■ مفهوم الوسطية كما أدعو إليها:

بعد أن اتّضح لنا مفهوم الوسطية من الناحية اللغوية، يجب علينا أن نبيّن ما نريده بالوسطية في المفهوم الشرعي أو الإسلامي.

ومن قديم قد تعرّضت لبيان مفهوم (الوسطية) وخصائصها ومظاهر تجليها، وذلك في كتابي (الخصائص العامة للإسلام) باعتبار (الوسطية) من أبرز خصائص الإسلام، ويُعبَّر عنها أيضا بـ(التوازن) أو (الاعتدال)، ونعني بها: التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه.

مثال الأطراف المتقابلة: الربانية والإنسانية، الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، الوحي والعقل، الماضوية والمستقبلية، الفردية والجماعية، الواقعية والمثالية، الحقوق والواجبات، الثبات والتغيُّر، النص والاجتهاد، الظاهرية والمقاصدية، الأثر والرأي، وما شابهها.

ومعنى التوسط أو التوازن بينها: أن يُفسح لكل طرف منها مجاله، ويُعطى حقه {بِالْقِسْطِ} أو {بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}، بلا وَكْس ولا شطط، ولا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار. كما أشار إلى ذلك كتاب الله بقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7-9].

فالوسطية هي التي تقيم الوزن بالقسط بين المتقابلات، بلا طغيان ولا إخسار. بحيث يمكن الجمع بينها، دون أن يطغى أحد المتقابلين على الآخر، كالذي يجمع بين حسنتي الدارين، الدنيا والآخرة، والذي يجمع بين النورين: الوحي والعقل {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35].

■ عجز الإنسان عن إنشاء نظام متوازن:

وهذا التوازن العادل في الحقيقة أكبر من أن يَقْدر عليه الإنسان؛ بعقله المحدود، وعلمه القاصر، فضلاً عن تأثير ميوله وأهوائه، ونزعاته الشخصية، والأُسْرية والحزبية، والإقليمية والعنصرية، وغلبتها عليه من حيث يشعر أو لا يشعر. ولهذا لا يخلو منهج أو نظام يضعه بشر - فرد أو جماعة - من الإفراط أو التفريط، كما يدل على ذلك استقراء الواقع وقراءة التاريخ.

إن القادر على إعطاء كل شيء في الوجود - مادياً كان أو معنوياً- حقه بحساب وميزان، هو الله؛ الذي خلق كل شيء فقدَّره تقديراً، وأحاط بكل شيء خبراً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً. ولا عجب أن نرى هذا التوازن الدقيق في خلق الله، وفي أمر الله جميعاً، فهو صاحب الخلق والأمر، فظاهرة التوازن، تبدو فيما أمر الله به وشرعه من الهُدى ودين الحق، أي: في رسالة الإسلام ومنهجه للحياة، كما تبدو في هذا الكون الذي أبدعته يد الله فأتقنت فيه كل شيء.

■ ظاهرة التوازن في الكون كله:

ننظر في هذا العالم من حولنا من أصغر ما نعرفه في الكون وهو الذرّة، إلى أكبر ما نعرفه، وهو المجرّة، فنجد كل شيء فيه بمقدار وميزان، لا يتعدى مداره، ولا يجاوز مقداره، ولا يخبط خبط عشواء، بل هو كما قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] فنجد الليل والنهار، والظلام والنور، والحرارة والبرودة، والماء واليابس، والغازات المختلفة، والأفلاك الدوارة، والكواكب السيارة، والجمادات والنباتات، والحيوان والإنسان، والزواحف والطيور والحشرات، والأحياء المائية، وغيرها، كلها تسير بقَدَر وميزان وحساب، لا يطغى شيءٌ منها على مقابله، ولا يخرج عن حدِّه المُقدَّر له [8] . وكذلك الشمس والقمر والنجوم والمجموعات الكونية في فضاء الله الفسيح، إنَّ كلاً منها يسبح في مداره، ويدور في فلكه، دون أن يصدم غيره، أو يخرج عن دائرته. وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3]، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5]{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يـس:40].

■ الوسطية الخصيصة البارزة لهذه الأمة:

والإسلام يريد من الأمة المسلمة: أن تعكس ظاهرة التوازن الكونيَّة في حياتها وفكرها وسلوكها، فتتميَّز بذلك عن سائر الأمم. وإلى هذه الخصيصة البارزة يشير قوله تعالى مخاطباً أمة الإسلام: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].

ووسطية الأمة الإسلامية إنما هي مُستمدَّة من وسطية دينها ورسالتها، أو وسطية منهجها ونظامها، فهو منهج وسط لأمة وسط. منهج الاعتدال والتوازن الذي سَلِم – كما ذكرنا – من الإفراط والتفريط، أو من الغلو والتقصير، في عقائده وأحكامه، في شعائره وشرائعه، في قيمه وأخلاقه، في مفاهيمه ومعاييره، في آدابه وتقاليده، في مشاعره وعواطفه، في روابطه وعلاقاته.

ولقد كان من حكمة الله تعالى أن اختار الوسطية شعارًا مميزًا لهذه الأمة التي هي آخر الأمم، ولهذه الرسالة التي ختم بها الرسالات الإلهية، وبعث بها خاتم أنبيائه، رسولاً للناس جميعًا، ورحمة للعالمين.

■ الوسطية أليق بالرسالة الخالدة:

فقد يجوز في رسالة مرحلية محدودة الزمان والإطار: أن تعالج التطرف في قضية ما بتطرف مضاد، فإذا كان هناك مبالغة في الدعوة إلى الواقعية قوِّمت بمبالغة مقابلة في الدعوة إلى المثالية، وإذا كان هناك غُلو في النزعة المادية، رُدَّ عليها بغلو معاكس في النزعة إلى الروحيَّة، كما رأينا ذلك في الديانة المسيحية وموقفها من النزعة المادية الواقعية عند اليهود والرومان، فإذا أدَّت الدعوة المرحلية دورها الموقوت، وحَدَّتْ من الغُلوّ – ولو بغلوّ مثله – كان لا بد من العودة إلى الحد الوسط، وإلى الصراط السوي، فتعتدل كفتا الميزان. وهذا ما جاءت به رسالة الإسلام بوصفها رسالة عالمية خالدة. إذ ليس بعد محمد رسول ولا نبي، ولا بعد القرآن كتاب سماوي، ولا بعد الإسلام دين أو شريعة إلهية، ولا بعد أمّة الإسلام أمّة أخرى تحمل رسالة ربانية للناس.

■ دلالة الوسطية على معاني أخرى:

على أن في الوسطية معاني ودلالات أخرى، يلحظها أولو العلم والبصيرة، تميّز منهج الإسلام، ورسالة الإسلام، وأمّة الإسلام، وتجعلها أهلاً للسيادة والخلود.

أ _ الوسطية تعني العدل:

فمن معاني الوسطية التي وُصفت بها هذه الأمة في الآية الكريمة، ورُتبت عليها شهادتها على البشرية كلها: العدل، الذي هو ضرورة لقَبول شهادة الشاهد، فما لم يكن عدلاً، فإنَّ شهادته مرفوضة مردودة، أما الشاهد العدل، والحكم العدل فهو المرضي بين الناس كافة.

وتفسير الوسط في الآية بالعدل ثابت عن النبي ﷺ: فقد روى الإمام أحمد والبخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ فسر الوسط هنا بالعدل [9]، والعدل والتوسط والتوازن عبارات متقاربة المعنى، فالعدل في الحقيقة توسط بين الطرفين المتنازعين، أو الأطراف المتنازعة بدون ميل أو تحيز إلى أحدهما أو أحدها. وهو بعبارة أخرى: موازنة بين هذه الأطراف بحيث يعطَى كل منها حقه دون بخس ولا جَوْر عليه. ولا محاباة له، ومن ثم قال زهير في المدح:

همُ وسطٌ يرضى الأنامُ بحكمهم * إذا نزلت إحدى الليالي بمُعظَمِ

يصفهم بالعدل والقسط وعدم التحيُّز.

وقال المفســرون في قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُـــــمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]، أي: أعدلهــم [10]. يؤكد هذا الإمام الرازي في تفســيره بقوله: إن أعدل بقاع الشيء وسطه، لأن حكمه مع سائر أطرافه على ســـواء، وعلى اعتدال [11].

ويقول المفسر أبو السعود: الوسط في الأصل اسم لما تستوي نسبة الجوانب إليه كمركز الدائرة، ثم استعير للخصال البشرية المحمودة، لكون تلك الخصال أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفَيْ الإفراط والتفريط [12].

فالوسط يعني إذن العدل والاعتدال. وبعبارة أخرى: يعني التعادل والتوازن، بلا جنوح إلى الغلو ولا إلى التقصير.

ب- الوسطية تعني الاستقامة:

والوسطية تعني كذلك: استقامة المنهج، والبعد عن الميل والانحراف. فالمنهج المستقيم، وبتعبير القرآن: {الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم} هو – كما عبَّر أحد المفسرين– الطريق السوي الواقع وسط الطرق الجائرة عن القصد إلى الجوانب، فإذا فرضنا خطوطاً كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين، فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط المنحنية، ومن ضرورة كونه وسطاً بين الطرق الجائرة: أن تكون الأمة المهدية إليه وسطاً بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة [13].

ومن هنا علَّم الإسلام المسلم أن يسأل الله الهداية للصراط المستقيم كل يوم ما لا يقل عن سبع عشرة مرة، هي عدد ركعات الصلوات الخمس المفروضة في اليوم والليلة. وذلك حين يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته فيقول داعيا ربه: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6، 7].

والإسلام وحده ينفرد بهذه المزيَّة (الوسطية) دون غيره من الملل. التي حرفت وبدلت عن أصلها المنزل، والتي وضعها البشر بتصورهم الذاتي.

جاء في التفسير المأثور التمثيل للمغضوب عليهم باليهود، وللضالين بالنصارى [14]. والمعنى في ذلك: أن كلا من اليهود والنصارى يمثلون الإفراط والتفريط في كثير من القضايا، فاليهود قتلوا الأنبياء، والنصارى ألَّهوهم ... اليهود أسرفوا في التحريم، والنصارى أسرفوا في التحليل، حتى قالوا: كل شيء طيب للطيبين ... اليهود غلوا في الجانب المادي، والنصارى قصَّروا فيه ... اليهود تطرفوا في اعتبار الرسوم والطقوس في الشعائر والتعبدات، والنصارى تطرفوا في إلغائها.

وإنما اعتبر اليهود مغضوباً عليهم لما اقترفوا من موبقات، حتى إنهم تطاولوا على الله، وقالوا: يد الله مغلولة، واعتدوا على الأنبياء، فكذبوا منهم من كذبوا، وقتلوا منهم من قتلوا. وأما النصارى فإنهم تاهوا عن الحق، وشردوا عنه فيما اقتبسوه من وثنية الرومان وغيرها، فلهذا اعتبرهم ضالين. والإسلام يُعلِّم المسلم أن يحذر من تطرف كلا الفريقين، وأن يلتزم المنهج الوسط، أو الصراط المستقيم، الذي سار عليه كل مَنْ رضي الله عنهم، وأنعم عليهم من النبيّين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية هنا كلام جيد متين في وسطية الأمة المسلمة بعيدا عن غلوّ مَنْ قبلها وتقصيرهم، قاله في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح):
(وقد خصّ الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص ميّزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجاً، أفضل شرعة وأكمل منهاج مبين.
كما جعل أمّته خير أمّة أُخرجت للناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطاً عدلاً خياراً.

فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه، من الأمر والنهي والحلال والحرام، فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وأحلّ لهم الطيّبات وحرّم عليهم الخبائث.

لم يحرّم عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحلّ لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى.

ولم يضيّق عليهم باب الطهارة والنجاسة كما ضيّق على اليهود، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث والخبث كما رفعته النصارى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات، حتى يقال في فضائل الراهب: (له أربعون سنة ما مسّ الماء) [15] ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل عليه الصلاة السلام وأتباعه.

واليهود عندهم إذا حاضت المرأة، لا يواكلونها ولا يشاربونها، ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى لا يحرّمون وطء الحائض.

وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة. بل إذا أصاب ثوب أحد منهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله أو تحرم الصلاة معه [16].

وكذلك المسلمون وسط في الشريعة، فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ، كما فعلت اليهود، ولا غيّروا شيئا من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعاً لم يأذن به الله، كما فعلت النصارى، ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود، ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفاً بخصائص المخلوق ونقائضه ومعايبه – من الفقر والبخل والعجز – كفعل اليهود، ولا المخلوق متّصفاً بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى. ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى ).[17] ا هـ

جـ- الوسطية دليل الخيريَّة:

والوسطية كذلك دليل الخيريَّة، ومظهر الفضل والتميّز، في الماديات والمعنويات. ففي الأمور المادية نرى أفضل حبات العِقْد واسطته، ونرى رئيس القوم في الوسط، والأتباع من حوله ... وفي الأمور المعنوية نجد التوسط دائماً خيرا من التطرف.

ولهذا قال العرب في حِكَمهم: (خير الأمور الوسط)، وقال أرسطو: (الفضيلة وسط بين رذيلتين). ومن هنا قال ابن كثير في قوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143]. الوسط ههنا: الخيار والأجود. كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي: خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، أي: أشرفهم نسباً. ومنه: الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات [18].

ولا غرو أن يمدح الله أمّة الإسلام بالوسطية، ومدحها كذلك بالخيريّة، فقال مخاطبا لها في خاتمة كتبه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. فوصفها الله تعالى بالخيريّة، لأنها أمّة أُخرجت، لم تنبت بنفسها، بل أنبتها مُنبت وأخرجها مُخرج، وهو الله، وهي لم تخرج لنفسها، بل أُخرجت للناس، كل الناس، لا للغرب، ولا لأهل الشرق، لهداية الناس، ونفع الناس، وإصلاح الناس، وإسعاد الناس.

د- الوسطية تمثل الأمان:

كما أن الوسطية تُمثِّل منطقة الأمان، والبعد عن الخطر، فالأطراف عادة تتعرض للخطر والفساد أكثر من غيرها، بخلاف الوسط، فهو محمي ومحروس بما حوله، وفي هذا قال الشاعر:

كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت * بها الحوادث حتى أصبحت طرفًا

وكذلك شأن النظام الوسط، والمنهج الوسط، والأمة الوسط.

ولذلك نجد الحكم والامثال تحذّر من التطرف لأنه سبب الضياع، وتوصي بالتوسط لأنه سبب الحفظ والبقاء! فقالوا: لا تكن رطبا فتقصر، ولا جامدا فتكسر! فلا تكن حلوا فتبلع، ولا مرا فتلفظ!

هـ- الوسطية دليل القوة:

والوسطية أيضا دليل القوة، فالوسط هو مركز القوة، ألا ترى الشباب الذي يمثل مرحلة القوة وسطاً بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة؟! وإليه الإشارة بقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:54]، والشمس في وسط النهار أقوى منها في أول النهار وآخره؟!

و- الوسطية مركز الوحدة:

والوسطية تمثِّل مركز الوحدة ونقطة التلاقي ... فعلى حين تتعدَّد الأطراف تعدداً قد لا يتناهى، يبقى الوسط واحداً، يمكن لكل الأطراف أن تلتقي عنده، فهو المنتصف، وهو المركز. وهذا واضح في الجانب المادي والجانب الفكري والمعنوي على سواء.

ومركز الدائرة في وسطها يمكن لكل الخطوط الآتية من المحيط أن تلتقي عنده، والفكرة الوسط يمكن أن تلتقي بها الأفكار المتطرفة في نقطة ما، هي نقطة التوازن والاعتدال. كما أن التعدد والاختلاف الفكري يكون حتمياً كلما وجد التطرف، وتكون حدته وشدته بقدر حدة هذا التطرف. أما التوسط والاعتدال فهو طريق الوحدة الفكرية ومركزها ومنبعها. ولهذا تثير المذاهب والأفكار المتطرفة من الفرقة والخلاف بين أبناء الأمة الواحدة ما لا تثيره المذاهب المعتدلة في العادة.

لهذه المزايا والفوائد التي ذكرناها للوسطية: حرصت على أن تكون إحدى الخصائص العامة للإسلام، وأن تتجلى في كل مقوِّماته بوضوح [19]، كما يتبيَّن لنا ذلك في الصفحات التالية.

----------
هوامش :
[1] معجم ألفاظ القرآن (2/848) طبعة مجمع اللغة العربية الطبعة الثانية.

[2] مفردات القرآن للراغب الأصفهاني صـ 868،869 نشر دار القلم.

[3] ذكره ابن الأثير على أنه حديث، ولم يثبت لدى أهل الشأن، والصواب: أنه من قول مطرِّف بن عبد الله بن الشخير من التابعين: رواه ابن أبي شيبة في الزهد (36276)، والطبري في تفسيره (19/300) من قول يزيد بن مرّة الجعفي، وابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح من قول مطرف (7/142)، والبيهقي في الشعب (3888).

[4] النهاية في غريب الحديث(5/184).

[5] تاج العروس (20/175،174).

[6] انظر: تاج العروس (20/167-183) طبعة الكويت.

[7] أساس البلاغة (2/505) نشر دار الكتب المصرية.

[8] تنبّه إلى ذلك الأديب العربي الكبير توفيق الحكيم، وأقام عليه نظريته التي سمّاها (التعادلية) وأسّس عليها مذهبه في الأدب والفن والثقافة. وقد أشرنا إلى ذلك في حديثنا عن خصيصة الوسطية في كتابنا (الخصائص العامة للإسلام) نشر مكتبة وهبة ومؤسسة الرسالة.

[9] رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3339)، وأحمد في المسند (11271)، والترمذي في تفسير القرآن (2961) عن أبي سعيد الخدري.

[10] انظر: تفسير الطبري (12/193)، وتفسير ابن كثير (4/521)، وتفسير القرطبي (2/148).

[11] انظر: تفسير الفخر الرازي (4/108،109) المطبعة المصرية 1354هـ (1935م).

[12] تفسير أبي السعود (1/123) طبعة صبيح.

[13] المصدر نفسه.

[14] رواه أحمد في المسند (20351)، وقال مخرّجوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح غير صحابيه، ولا تضر جهالته، وأبو يعلى في المسند (13/101)، والبيهقي في الشعب (4/61)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى وإسناده صحيح (1/206).

[15] ذكر العلّامة أبو الحسن الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم من انحطاط المسلمين؟) من عجائب الرهبان وقسوتهم على أنفسهم ومن حولهم، وخصوصا في باب البعد عن النظافة والطهارة ما تقشعرّ منه الأبدان.

[16] وكذلك مما خالف فيه النصارى: تذكية الحيوان، وإباحة أكل لحم الخنزير.

[17] الجواب الصحيح (1/6،7) مطبعة المدني بمصر.

[18] تفسير ابن كثير (1/190).

[19] انظر: كتابنا (الخصائص العامة للإسلام) نشر مكتبة وهبة بالقاهرة، ومؤسسة الرسالة في بيروت.

-----(يتبع) -----


: الأوسمة



التالي
فضل الاختيار الرباني للغة العربية ومستلزماته
السابق
ليست نهاية الربيع العربي

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع