■ مَن يحتاج إلى هذه الدراسة؟
إن هذا الكتاب، أو هذه الدراسة - التي تعبتُ فيها مباشرة وقصدا لعدَّة سنوات، وتعبتُ فيها بصورة غير مباشرة لعقود من السنين - يحتاج إليها الكثيرون، ليصحِّحوا موقفهم، ويصحِّحوا فَهمهم من قضايا كثيرة.
وليس عجيبا أن يغيِّر الإنسان موقفه أو رأيه في قضية من القضايا، بناء على دراسة أو قراءة، بل هذا هو شأن الإنسان الحر التفكير الذي سلم من التعصُّب والانغلاق. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته لأبي موسى: لا يمنعنَّك قضاء قضيتَ فيه اليوم فراجعتَ فيه رأيك فهديتَ فيه لرشدك أن تراجع فيه الحقَّ؛ فإن الحقَّ قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحقِّ خير من التمادي في الباطل.[1[
ولا غرو أن غيَّر كثير من الأئمة والفقهاء الكبار آراءهم لأسباب شتَّى، حتى رُوي عن بعضهم في المسألة الواحدة أقوال عدَّة، ربما بلغت العشرة، أو زادت، كما في مذهب الإمام أحمد. وقد رأينا الإمام الشافعي يغيِّر مذهبه بعد أن استقرَّ في مصر في مسائل كثيرة، ولهذا يعرف عند الشافعية: قال في القديم، وقال في الجديد.
• [1] الشرعيون:
أول من يحتاج إلى هذه الدراسة هم: علماء الشرع، ورجال الفقه، لأن أكثرهم كوَّنوا في رؤوسهم مفاهيم رسخت، وثقافة تُوورِثت: أن الجهاد فرض كفاية على الأمة، وأن من هذا الفرض غزو بلاد الكفار كلَّ سنة مرَّة على الأقلِّ، وإن لم يظهر منهم شيء ضدَّنا، بل مدُّوا إلينا يد المصالحة والمسالمة. وإن كان هذا الرأي يعارض آيات كثيرة صريحة في القرآن، ولكن هذه الآيات - كما أشرنا من قبل - بطل مفعولها في نظرهم، لأنها منسوخة!!
وهناك كثير مما كتبه الفقهاء إنما يعبِّر عن زمنه وبيئته، ولا يسنده قرآن ولا سنة صحيحة، مثل عدم بناء الكنائس لأهل الذمَّة أو ترميمها، ومثل تمييزهم بملابس خاصَّة، ونحو ذلك.
وهذا كلُّه لا يلزم الفقيه المعاصر؛ إنما الذي يلزمه محكمات القرآن والسنة، وما أجمعت عليه الأمة بيقين، إجماعا لا يستند إلى مجرد مصلحة ظرفية يتغيَّر الحكم بتغيُّرها.
إننا بهذه الدراسة: نقدِّم لهؤلاء الشرعيين فقها جديدا أصيلا، يستمدُّ أصالته من كتاب الله، ومن صحيح سنة رسول الله، ومن تراث هذه الأمة. كما يستمدُّ جدَّته من التفاعل مع هذا العصر، وقراءة الواقع المعيش، وما في عالمنا من إنجازات هائلة، ومن انحرافات هائلة كذلك. والفقه الحقيقي أو الاجتهاد الحقيقي: إنما هو تفاعل بين النصِّ الشرعي والواقعة المعروضة، وعقل الفقيه، الذي يتأثَّر قطعا بزمانه ومكانه وعالمه.
• [2] الحقوقيون:
وكذلك يحتاج إلى هذه الدراسة: علماء الحقوق والقانون الدولي، الذين كوَّن كثير منهم فكرته عن الإسلام وشريعته، وخصوصا بشأن الجهاد والحرب والسلم، اقتبسوها مما هو شائع في الكتب، وما هو دائر على الألسنة والأقلام. وحق لهم، ما دام علماء الشريعة أنفسهم مشوَّشين من هذه الناحية، فكيف بغيرهم؟
ومن هؤلاء القانونيين، أناس يطلبون الحقيقة، فإذا بُيِّنت لهم بأدلَّتها، ومن مصادرها، ومن أهلها، فما أقرب ما يستجيبون لها، ويقبلون عليها، وينوِّهون بها. بل أرى بعض هؤلاء أسرع إلى الاقتناع والرجوع إلى الحقِّ من بعض المنتسبين إلى الشرع، الذين يغلب الجمود على كثير منهم .
• [3] الإسلاميون:
كما يحتاج إلى هذه الدراسة - أكثر من غيرهم - الإسلاميون. وأعني بالإسلاميين: الجماعات الإسلامية المختلفة، التي تعمل لنصرة قضايا الإسلام، وهي التي يسمِّيها مَن يسميها: جماعات الإسلام السياسي!!
والتي ينضوي تحت لوائها غالبا: شباب الصحوة الإسلامية في شتَّى الأقطار، داخل العالم الإسلامي وخارجه، فهذه الجماعات على اختلاف نزعاتها واتجاهاتها، ما بين معتدل ومتطرِّف: أحوج ما تكون إلى هذه الدراسة؛ وخصوصا مَن عُرفوا باسم (جماعات العنف) التي تنسب نفسها أو ينسبها الناس إلى الإسلام، وهي الجماعات التي اتَّخذت العنف واستخدام القوة العسكرية منهجا لها، وأسَّست لها فقها خاصا تُعرف به، يستشهد بالقرآن الكريم والأحاديث التي تؤيِّد وجهته، ويُعرض عن غيرها من النصوص، التي يعتبرها منسوخة أو مؤوَّلة.
كما يستدلُّ بأقوال الفقهاء التي توافقه، وتسند وجهة نظره، مغفلا ما سواها من الأقوال.
فهذه الجماعات وإن كانت تُتَّهم بالانغلاق على نفسها، والتعصُّب لآرائها، وعدم نظرها في فقه من يخالفها، مثل جماعة الجهاد، والجماعة الإسلامية، والسلفية الجهادية، وتنظيم القاعدة، وغيرهم: يمكن أن تغيِّر من أفكارها، وتعدِّل من آرائها.
ورأيي أن الإنسان هو الإنسان، مهما يتعصَّب وينغلق على نفسه، فلا بد أن يأتي وقت يراجع فيه نفسه، ويمتحن أفكاره، وخصوصا إذا خالفه الكثيرون من أهل العلم والفكر، ومنهم رجال كبار وثقات، فلا ييأس المرء من أن يثوب هذا الإنسان - ولا سيما المسلم - إلى رشده. وكثيرا ما يهديه عقله - بنصح من غيره، أو بالتأمل في فكره - إلى تغيير موقفه، والرجوع تماما عما كان عليه.
وهذا ما حدث للإخوة في (الجماعة الإسلامية) في مصر، الذين أصدروا سلسلة من الكتب تعلن تراجعهم بشجاعة عن أفكارهم القديمة، وتصحيحهم لكثير من مفاهيمهم.
وعلمتُ أن إخوانهم من (جماعة الجهاد) أقدموا على مثل ذلك[2[
وكثير من الإخوة في الجزائر من الجماعات المسلَّحة، تركوا مواقعهم في الجبل، ونزلوا إلى الأرض، وانضموا إلى الشعب؛ بناء على قناعات جديدة. ومنهم مَن أعلن أنه تأثَّر بآرائي واقتنع بها .
وقد ذكرتُ أن أبناء الجماعة الإسلامية طفقوا يقرؤون كتبي، وقد كانت من المحرَّمات عليهم، وبدؤوا ينقلون منها في دراساتهم الجديدة صفحات وصفحات. وهكذا شأن الإنسان إذا رجع إلى فطرته ورشده، وزال عنه التعصُّب والانغلاق.
ولهذا أحمل أملا كبيرا في شباب الجماعات الإسلامية المتشدِّدة أن يتراجعوا عن تصلُّبهم، ويقرؤوا الكتاب بتفتُّح وإنصاف ... وسيجدون فيه شيئا جديدا يستحقُّ أن يقرأ، وأن يدرس، وأن يناقش.
كما أرى أن المعتدلين من أبناء الصحوة الإسلامية سيستفيدون من هذا الكتاب في ازدياد اقتناعهم بموقفهم، وأن يبنوا معرفتهم على نور وبصيرة، لا على مجرد التقليد لهذا أو ذاك، وعليهم أن يدرسوه دراسة جيدة، ويتسلَّحوا بما فيه من بيِّنات، ليقنعوا الآخرين بالحجَّة والدليل، لا بمجرد القال والقيل.
• [4] المؤرخون:
ويحتاج إلى هذه الدراسة أيضا: المؤرِّخون، ولا سيما المعنيُّون بالسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، والذين قرؤوا غزوات الرسول قراءة غير صحيحة ولا منصفة، واعتبروا الرسول عليه الصلاة والسلام، هو الذي ابتدأ المشركين بالغزو والقتال، كما في غزوة بدر وفتح مكة وغزوة حنين، وابتدأ غزو اليهود في مواقعهم وحصونهم، كما في بني قينقاع وبني النضير، وهو أيضا الذي بادر بغزو الروم كما في غزوة تبوك.
كما اعتبروا فتوحات الصحابة والراشدين ومن بعدهم إنما كانت ابتداء من المسلمين لجيران مسالمين لهم، من رعايا فارس والروم.
ولهذا شاع عندهم: أن الإسلام لم ينتشر في العالم إلا بالسيف والقوَّة، ولم ينتشر بالدعوة ولا بالإقناع ولا بسلوك المسلمين.
فهؤلاء في حاجة ماسَّة إلى أن يصحِّحوا مفاهيمهم هذه، التي بنَوها على قراءة خاطئة وقاصرة للسيرة والتاريخ، ليعيدوا قراءتها على ضوء ما ذكرناه في هذه الدراسة، مدعَّما بأدلَّته، موثَّقا بمصادره.
• [5] المفكرون:
ويحتاج إلى هذه الدراسة: رجال الفكر والبحث والتأمُّل، وخصوصا المهتمِّين بالفكر الإسلامي، وما انبثق عنه من حركات إسلامية، منها المعتدل، ومنها المتطرِّف، وما انبثق عن بعض هذه الحركات من أعمال تتَّسم بالعنف، أو توصف بالإرهاب، مما جعل بعضهم يلصق بالإسلام وحده تهمة العنف والإرهاب، كأن العنف كلَّه إسلامي، والإرهاب كلَّه إسلامي. ومن المؤكَّد أن هذا ليس بصحيح ولا صواب.
سيجد هؤلاء من أهل الفكر والبحث في هذه الدراسة ما يردُّ الأمور إلى جذورها، والفروع إلى أصولها، ويبيِّن أن تعاليم الإسلام الحقيقية، أبعد ما تكون عن العنف والإرهاب - بمصطلحهم - وأن لهذا العنف أسبابا بعضها خارجي، وبعضها داخلي، وأن دعاة العنف قلَّة بين المسلمين، تدينهم الأكثرية وتنكر عليهم. ولا سيما "أهل السنة والجماعة" الذين يعتبرون هذا اللون من الفكر الذي يتَّسم بالغلو، وتنجم عنه تصرفات تتَّسم بالعنف، إنما هو ميراث من غلاة الخوارج، الذين ذمَّتهم الأحاديث، وحاربهم علي رضي الله عنه وغيره من الخلفاء، وعدَّتهم الأمة مبتدعين، منحرفين عن صراط الإسلام المستقيم، بل منهم من اعتبرهم في عداد الكافرين المارقين.
• [6] المستشرقون:
ويحتاج إلى هذه الدراسة: غير المسلمين من رجال الاستشراق والمهتمِّين بالدراسات الإسلامية، سواء كان أساس هذا الاهتمام معرفيا، لمجرَّد اكتشاف الحقيقة، أم سياسيا لخدمة أهداف معيَّنة لدولة ما، أو للغرب عامَّة، أم كانت دوافعه دينية، لخدمة الكنيسة وفكرة (التنصير) الذي اجتمع رجاله من البروتستانت في (كلورادو) سنة 1978م في صورة مؤتمر هدفه تنصير المسلمين في العالم.
هؤلاء صوَّروا الإسلام: أنه خطر على العالم، وسلام العالم، واستقرار العالم، وأن فريضة (الجهاد) فيه تلزم المسلمين أن يحاربوا العالم كله.
وقد أثبتت هذه الدراسة بطلان هذا كله، وأن الإسلام أعظم دين يدعو إلى السلام، ويرغِّب في السلام، ويربي أبناءه على حبِّ السلام، وإفشاء السلام، امتثالا لأمر الملك القدوس السلام، وابتغاء دخول الجنة دار السلام.
• [7] الحِواريون:
كما أن هذه الدراسة يحتاج إليها: المهتمُّون بحوار الأديان، أو حوار الثقافات والحضارات، فهي في رأيي تقدِّم لبنة مهمة في بنيان هذا الحوار، الذي يقوى حينا ويضعف حينا، وينهض حينا، ويتعثر أحيانا، نظرا لقصور الرؤية من بعض الأطراف لبعض، وغلبة العصبية على العقل، وانتصار الفكر الموروث على الفكر الحرِّ.
ولا يمكن أن يتحاور الناس إذا كان بعضهم يجهل بعضا، وخصوصا بالنسبة للمسلمين الذين يُتَّهمون بأنهم دعاة عنف، وأنهم نشروا دينهم بالسيف، وأن موقفهم أبدا رفض الآخر. وقد رأينا البابا بنديكت السادس عشر يتبنى ذلك في محاضرة له بألمانيا [3]. فلعل هذه الدراسة العلمية الموثقة تفتح لهؤلاء صفحة جديدة، وتمكِّنهم من رؤية جديدة، تتغيَّر فيها نظرتهم إلى الإسلام، وإلى أمته، وإلى حضارته.
• [8] السياسيون:
كما يحتاج إلى هذه الدراسة: رجال السياسة وصناع القرار في العالم، والذين يتَّخذون قراراتهم الهائلة، والتي تتعلَّق بمصاير أمم، وأرواح بشر، ومقدَّرات شعوب، ومقدَّسات أديان، بناء على تصورات فكرية عندهم لدين لم يعرفوه، ولم يقرؤوا كتابه، ولم يفقهوا سيرة نبيه، ولم يدرسوا تاريخه، ولم يحيطوا بشيء ذي بال عن عقيدته وشريعته، ولواقع أمة كبرى ذات شعوب مختلفة، وأوضاع مختلفة، لم يعطوا لأنفسهم مهلة أن يتفهَّموا هذا الواقع، ويقرؤوه قراءة بصيرة متأنية، منصفة متوازنة، بلا تهويل ولا تهوين، ولا تحريف، ولا تزييف.
ومما لا شكَّ فيه: أن الرئيس الأمريكي (بوش) الابن ومن معه من المحافظين الجدد، أو اليمين المسيحي المتصهين، حين أعلنوا حربا كونية على الإسلام وأمته، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، كان هذا القرار السياسي، نتيجة لتصوُّر خاطئ عن الإسلام، وعن حقيقة الجهاد فيه، وأن فئة قليلة فهمت الجهاد على غير وجهه، ووضعته في غير موضعه، وأن من أكبر أسباب غلوِّها وتجاوزها: المظالم الكبيرة التي وقعت على المسلمين من الغرب عامَّة، ومن أمريكا خاصَّة.
• [9] العسكريون:
وإذا كان السياسيون محتاجين إلى هذه الدراسة، ليكوِّنوا رأيا صحيحا نيِّرا عن الجهاد، فكذلك يحتاج إليها: العسكريون من المسلمين وغير المسلمين.
فمَن فهم الجهاد على غير حقيقته من قادة العسكريين الغربيين، مثل رجال البنتاجون في أمريكا، وأكثر الجنرالات في أوربا، بل في العالم كلِّه للأسف الشديد، فعليه أن يقرأ هذا الكتاب، وعلينا أن نترجمه لهم، ونقرِّبه إليهم بلسانهم لنبيِّن لهم حتى يفهموا. وكثير منهم إذا رأى المنطق أمامه ناصعا خضع له، ولم يستطع أن يكابر، حتى لو كابر أمام الناس سينهزم أمام نفسه. وهذا مكسب كبير.
وهذا ليس مقصورا على العسكريين الأجانب، فكثير من قادتنا العسكريين في بلادنا، ومن بني جلدتنا، وممَّن يتكلَّمون بلساننا، ليست لديهم فكرة سليمة عن الجهاد في الإسلام، وعن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن فتوحات الصحابة والمسلمين في العهود الأولى؛ وذلك بتأثير سلطان الفكر الغربي، والثقافة الغربية على المثقَّفين في أوطاننا، عسكريين ومدنيين. ومن الواجب على أهل العلم والفكر: أن يصحِّحوا - ما استطاعوا - المفاهيم المغلوطة والشائعة، أداءً للأمانة، وتبليغا للرسالة، وتحصينا للأمة.
ومن العسكريين الذين يحتاجون إلى هذه الدراسة: العسكريون الإسلاميون ، ممَّن يقاتلون في فلسطين، وفي لبنان، وفي العراق، وفي أفغانستان، وغيرها من ديار الإسلام، سواء كانوا من أهل الشطط أم من أهل الاعتدال.
فأما أهل الشطط والغلو، إذا وفَّقهم الله لفقهه والعلم فيه، فسيتعلَّمون منه متى يجوز القتال ومتى لا يجوز؟ أو من يجوز أن نحاربه ومن لا يجوز؟ وإذا حاربنا فما الذي يجوز لنا في الميدان وماذا لا يجوز؟ متى يجوز أن نقتل، ومتى يجب أن نأسر، وما الذي نفعل مع أسرانا؟ وماذا نفعل عند الانتصار، وماذا نفعل عند الانكسار؟ إلخ.
وأما أهل الاعتدال من المجاهدين، الذين يقاومون المحتلِّين والمعتدين على أراضيهم، فهم أيضا لا يستغنون عن هذه الدراسة، حتى يتقيَّدوا في حربهم وسلمهم، وفي حال قوتهم وضعفهم، وفي حال انتصارهم أو انهزامهم بشريعة الإسلام.
فهم يقاتلون بالإسلام وللإسلام، وعلى أساس من الإسلام. فإذا قال لهم الإسلام: قاتلوا. قاتلوا، وإذا قال لهم: توقفوا. ألقوا سلاحهم، وإذا قال لهم: اجنحوا للسلم. جنحوا لها وتوكلوا على الله.
وسيجدون في هذا الكتاب ما يبصِّرهم بما يجب عليهم، وما يجوز لهم، وما يحرم عليهم، وهم وقَّافون عند حدود الله تعالى، نازلون عند حكم الله، يحِلُّون ما أحلَّ الله، ويحرِّمون ما حرَّم الله، ويأتمرون بما أمر الله، وينتهون عما نهى الله. كما قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51[
• [10] جمهور المثقفين:
ويحتاج إليه أخيرا جمهور الناس من القرَّاء والمثقَّفين العاديين غير المُصنَّفين، من المسلمين ومن غير المسلمين. فهؤلاء الذين يمثلون القاعدة العريضة من الأمم والشعوب، في حاجة أيضا إلى أن يعرفوا حقيقة موقف الإسلام من العالم، وحقيقة الجهاد في سبيل الله، الذي فهمه الكثيرون خطأ، وأنه ليس إلا إعداد القوة المادية والمعنوية للحفاظ على كيان الأمة وهُويَّتها وعقيدتها وأرضها وأهلها وحرماتها، وأن كلَّ أحكامه وتصرفاته منضبطة بقوانين أخلاقية صارمة، فلا يقاتل إلا مَن يقاتل، ولا يعتدي على أحد، ولا يبرِّر خبث الوسائل بنبل الغايات، ولا يقبل ازدواج المعايير.
وهذا ما يجب أن يعرفه المسلم العادي ليلتزم به، وغير المسلم العادي، ليتعامل مع الإسلام وأهله عن بينة، ولا يحمل عن الإسلام وشريعته فكرة زائفة، فيظلم الإسلام، ويظلم المسلمين، ويظلم نفسه، ويظلم الحقيقة.
* * *
أعتقد أن هؤلاء جميعا وأمثالهم ستنفعهم هذه الدراسة، بعد أن فتحوا أعينهم ليبصروا، وفكُّوا الأغلال من أعناقهم لينطلقوا.
■ تقسيم الكتاب:
هذا وقد قسَّمتُ هذا الكتاب إلى مقدِّمة وعشرة أبواب وخاتمة، وفي كلِّ باب من هذه الأبواب عدَّة فصول.
فهناك بعد المقدمة: تعريفات أولية للمفاهيم الأساسية التي يدور عليها البحث. وبعدها تأتي أبواب الكتاب:
الباب الأول: حقيقة الجهاد ومفهومه وحكمه، وفيه ستة فصول.
الباب الثاني: أنواع الجهاد ومراتبه، وفيه ثمانية فصول.
الباب الثالث: الجهاد بين الدفاع والهجوم، وفيه تمهيد واثنا عشر فصلا.
الباب الرابع: أهداف الجهاد القتالي في الإسلام ، وفيه تمهيد وخمسة فصول.
الباب الخامس: منزلة الجهاد وخطر القعود عنه، وإعداد الأمة له، وفيه ستة فصول.
الباب السادس: جيش الجهاد الإسلامي واجباته وآدابه ودستوره، وفيه خمسة فصول.
الباب السابع: بماذا ينتهي القتال؟ وفيه خمسة فصول.
الباب الثامن: ماذا بعد القتال؟ وفيه ستة فصول.
الباب التاسع: القتال داخل الدائرة الإسلامية، وفيه تمهيد وثلاثة فصول.
الباب العاشر: الجهاد وقضايا الأمة المعاصرة، وفيه سبعة فصول.
وبعدها تأتي: الخاتمة.
ولا أدَّعي أني وفيتُ الموضوع كلَّ حقه، ولكن بذلتُ فيه جهدي، واستفرغتُ فيه وُسعي، لأحصِّل وأستوعب ما استطعتُ، وأقرأ واهضم، أقرأ للمتقدِّمين وللمتأخِّرين، وللمحدِّثين والمعاصرين، وللمؤيِّدين والمعارضين، وللدينيين والمدنيين، وأفحص وأوازن، وأرجِّح على مهل، وأختار عن بيِّنة، وقد شرعتُ فيه منذ نحو ستِّ سنوات، ولم أستجب لداعي العجلة، حتى قدَّر الله تعالى إتمامه، وله الحمد والمنَّة.
فما كان فيه من صواب ورشد، فمن الله تعالى ومِنَّته، وما كان فيه من خطأ وزلل فمنِّي ومن الشيطان، وأستغفر الله تعالى منه.
هذا ويسرني أن يتبنى هذه الطبعة لإهدائها لمكتبات العاالم وشخصياته : (مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد ) المنبثق من (كلية الدراسات الإسلامية) إحدى كليات (مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع) وهي المؤسسة التعليمية الكبرى التي تشرف عليها الشيخة موزة بنت ناصر المسند ، حرم أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثان ، حفظهما الله وشكر لهما . ثم تتولى (مكتبة وهبة) بالقاهرة نشر سائر الطبعات بعد ذلك ، وفقها الله .
كما يسرني أن أشكر مكتبي العلمي بالدوحة[4] ، الذي ساعدني وبذل جهده معي في ترقيم الآيات ، وتخريج الأحاديث والآثار ، ورد النقول إلى مصادرها ، كما قام بالفهرسة على الطريقة الحديثة ، وكذلك ناقشني في كثير من الأفكار والمفردات حتى تبين لي وجه الحق فيها ، وقد عودتهم على هذا النهج ، وليس في العلم كبير ، وقد تعلم سيدنا سليمان من هدهد .
وأخص من المكتب الأخ الشيخ وليد أبو النجا ، الذي بذل الجهد الأكبر في معاونتي في خدمة الكتاب ، وصبر على كثرة تعديلاتي وملاحظاتي واستدركاتي ، وهذا شأن العالم الذي يريد أن يتثبت ، وأن يحسن ما يعمله ، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء ، بل المسلم ينشد (الأحسن) أبدا ، كما علمه القرآن : {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17-18]
أدعو الله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وابتغاء مرضاته، ولا يهدف إلا إلى بيان الحق، ودحض الباطل، ونصرة هذا الدين العظيم، الذي أكرمنا الله تعالى به، وأكمله لنا، وأتمَّ به النعمة علينا، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، وأن يثقِّل به ميزاني يوم القيامة.
كما أدعوه جلَّ شأنه: أن يسدَّ به ثغرة في هذا المجال الخطير، الذي اختلفت فيه الآراء، واعتركت فيه الأفكار، ودخلت فيه الأهواء، وتباعدت فيه الرؤى، واحتاج الناس إلى قول فَصل، وحكم عدل، يزن بالقسطاس المستقيم، ويستخلص الحقيقة من ركام الأقاويل المختلفة، والآراء المتباينة، الممزوجة بحماس المتحمِّسين، وتعصُّب المتعصِّبين، فعسى الله أن يجعل في كتابنا هذا: ما يقيم الحجَّة، ويوضح المحجَّة، ويحقُّ الحقَّ، ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون.
كما أسأله جلَّ شأنه: أن يمنحنا نورا نمشي به في الظلمات، وفرقانا نميز به بين المُتشابهات، وبصيرة نحلُّ بها المشكلات، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يهدينا أبدا للَّتي هي أقوم.
}رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286[.