الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه . (أما بعد) :
فهذه هي الطبعة الثالثة من كتابي (فقه الجهاد) بعد أن أصدر (مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد) طبعته الخاصة ، ليتولى توزيعها على عدد من الشخصيات العربية والإسلامية والعالمية الهامة والمشغولة بالفكر الإسلامي وقضاياه ، وما يؤثر منه في سلم العالم وحربه ، وكذلك المكتبات والمراكز العلمية والثقافية في العالم .
كما أصدرت مكتبة وهبة طبعتها الأولى منه ، وقد نفدت الطبعتان تقريبا في أقل من ثمانية أشهر ، وها نحن نقدم طبعتنا هذه للقارئ الكريم .
• الكتاب يقدم ثقافة جديدة عن الجهاد :
وأود أن أبادر هنا فأقول : إن هذا الكتاب يقدم للقارئ المسلم وغير المسلم (ثقافة جديدة) عن قضية من أخطر قضايا الإسلام ، التي طالما التبس فهم حقيقتها ، على المسلمين وغير المسلمين ، وهي قضية (الجهاد)
هذا الكتاب يقدم عنها ثقافة غير الثقافة المتوارثة عند جمهور المسلمين ، التي أخذها الخلف عن السلف ، والمتأخرون عن المتقدمين ، يدرسها المسلمون في كتب الفقه المذهبية المختلفة ، على ما فيها من قصور وتناقضات ، ولا يناقشونها ، ويعتبرونها قضايا علمية مسلمة .
تقوم هذه المسلمات على أن (جهاد الطلب) فرض كفاية على المسلمين في مجموعهم ، ومعنى (جهاد الطلب) : القصد إلى غزو غير المسلمين في ديارهم مرة على الأقل كل سنة ، لتوسيع دار الإسلام ، وفرض النظام الإسلامي – لا العقيدة الإسلامية – على غير المسلمين . ومعنى (فرض الكفاية) : أنه فرض على مجموع المسلمين – لا على جميع المسلمين – وليس على فئة معينة ، ولا على بلد معين ، بل على الأمة الإسلامية كلها بالتضامن ، بحيث إذا قام به بعضهم بما يكفي ، فقد سقط الإثم والحرج عن الأمة كلها ، وإذا لم يقم به أحد فقد أثمت الأمة جميعها .
هذه الثقافة إذا أخذت بلا مناقشة ولا تمحيص ، ولا ترجيح ولا تحقيق ، يرد الفروع إلى الأصول ، والظنيات إلى القطعيات ، والمتشابهات إلى المحكمات ، والمختلف فيه إلى المتفق عليه ، سنجد أننا أمام قضايا متناقضة في أنفسها ، وقضايا مناقضة لمحكمات القرآن ، وبينات السنة الصحيحة ، وقواطع العقيدة والشريعة الإسلامية .
مثل القول بشرعية قتال المسالمين من غير المسلمين ، الذين لم يصدر منهم أي أذى أو إساءة إلى دين الإسلام ، ولا إلى أمته ، ولا اعتدوا على أرضه أو حرماته ، أو حرمات أهله ، لأنه فرض كفاية على المسلمين أن يغزو بلاد الكفار كل سنة مرة على الأقل ، فإن لم يفعلوا أثموا جميعا ! وهو ما يخالف مخالفة بينة : صريح القرآن وصحيح السنة .
ومثل القول بوجوب نشر الإسلام بالقوة في العالم ، وأن الناس كل الناس عليهم أن يختاروا واحدة من ثلاث : الإسلام ، أو دفع الجزية ، أو الحرب !
ومثل قول بعضهم : إن الكفر وحده علة كافية لوجوب قتال المخالفين ، وإن لم يصدر منهم أي عدوان على المسلمين .
ومثل تبني بعضهم جواز قتل الأسير – أي أسير – وجواز الاسترقاق ولو في عصرنا ، وبعد اتفاق العالم على إلغائه ، حتى إن بعض العلماء المتشددين أثَّم الدول الإسلامية جميعا ، لانضمامها إلى الأمم المتحدة ، وهذا في نظرهم حرام شرعا ؛ لأنها تدعو إلى احترام حدود الدول الإقليمية وسيادتها ، ومعنى هذا المنع من الجهاد وغزو تلك البلاد ! كما هو مفروض علينا ! كما يدعو ميثاق الأمم المتحدة إلى احترام اتفاقية الأسرى ، وفيها لا يجوز قتل الأسير ، وكأن الإسلام يوجب قتل الأسرى ! وكذلك تحترم اتفاقية إلغاء الرقيق في العالم ، وكأن الإسلام هو الذي شرع الرق ! والحق أن الإسلام هو الذي شرع العتق ، ولكنه وجد الرق معمولا به في العالم ، فضيق مصادره ووسع مصارفه وعمل على إلغائه بالتدريج ، ولذا رحب علماء الإسلام كل الترحيب بإلغاء الرق من العالم .
• اعتماد الثقافة التقليدية على قراءة غير صحيحة لمصادرنا :
وهذه الثقافة التقليدية تعتمد على قراءة غير صحيحة لمصادر شريعتنا ، ومصادر ثقافتنا ، وليس على فقه عميق ، أو اجتهاد صحيح صادر من أهله وفي محله وفي زمنه .
• مناقشة قضية النسخ :
وقد كان أكبر ما اعتمدوا عليه : آية في القرآن سموها (آية السيف) زعموا أنها نسخت مائة وأربعين آية أو مائتي آية من القرآن العظيم ، فهي موجودة في المصحف خطًا ، ومقروءة لفظًا ، ولكنها (معدومة معنىً)؟! وقد ناقشنا قضية النسخ في القرآن ، وبينا أنها لا يسندها دليل قطعي من صحيح المنقول ولا صريح المعقول ، إذ الحكم بإعدام آية من القرآن مسطورة في المصحف ، لابد له من دليل قطعي ، ولا تكفي فيه الظنون .
• الخلاف في تعيين آية السيف :
والعجيب أنهم اختلفوا في تعيين هذه الآية . وكل الآيات التي ادعوا عليها أنها (آية السيف) إذا تأملت فيها ، وقرأتها قراءة متدبرة ، وربطتها بسياقها وسباقها ووصلتها بالآيات الأخرى من كتاب الله ، لم تجد فيها أي دلالة لما يدعونه .
• تفسير آية السيف :
وأشهر هذه الآيات ، الآية الخامسة من سورة التوبة : " فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " [التوبة: 5] والآية إذا تأملتها حق التأمل ، لا تجد فيها عبارة أو إشارة تفيد مشروعية قتال المسالمين من غير المسلمين ، ولكن تشرع قتال (المشركين) والمقصود بهم مشركو العرب أو مشركو قريش ومن حولهم ، وهم الذين حاربوا الإسلام ودعوته من أول يوم ، وشهروا السيف في وجهه : سيف الأذى والعذاب والحصار قبل الهجرة ، وشهروا سيف الحرب والغزو في عقر الدار بعد الهجرة ، وهم الذين لا يرعون لأحد عهدا ولا حرمة ، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمةً ، وفيهم نزلت أوائل سورة براءة أو التوبة ، وأمهلهم القرآن أربعة أشهر يختارون فيها لأنفسهم ، أو يدخلوا مع المسلمين في حرب ، وذلك بعد انسلاخ الأربعة أشهر (مدة المهلة) والتي سماها القرآن (الأشهر الحرم) مجازا ، لأن قتالهم محرم فيها ، ف(أل) في "الْمُشْرِكِينَ" للعهد ، أي : للمشركين الذين سبق الحديث عنهم .
ومثل هؤلاء المشركين يجب أن يعاملوا بمثل عملهم من القتل والأسر والحصار وقعود كل مرصد ، كما قال في سورة البقرة : " وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ " (البقرة: 191) فانظر إلى قوله تعالى : " وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ " فهي معاملة بالمثل ، وقوله : " وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ " يعني : أن فتنة الإنسان في دينه ، وتعذيبه لكي يرتد عنه ، أشد من القتل ، لأنها اعتداء على عقل الإنسان وإرادته ، في حين أن القتل اعتداء على جسمه .
وبعد هذه الآية يقول الله تعالى : " وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ " (التوبة : 6) فالآية تأمر بإجارة من استجار من المشركين ، وإعطائه فرصة ليسمع كلام الله (القرآن) ثم إبلاغه إلى المكان الذي يأمن فيه . فكيف تكون هذه آية السيف وبعدها مثل هذا الكلام ؟
وبعدها آية أخرى تقول : " كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ " (التوبة : 7)
وقبل آية السيف هذه أيضا آية تقول : " إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ " (التوبة : 4)
فكيف تكون هذه آية السيف – أو آية قطع الرقاب – وقبلها وبعدها ما يفتح أبواب السلم على مصاريعها لمن يريد أن السلم أو يسعى إليها ؟
وكان مما اختاره الله تعالى لمشركي العرب ، أن يدخلوا في السلم كافة ، مختارين طائعين ، قبل أن تنسلخ الأشهر الحرم ، وأن يصبحوا هم عصبة الإسلام ، وتصبح أرضهم معقل الإسلام ، وكفى الله المؤمنين القتال .
ومن الآيات التي أشاعت الثقافة القديمة غير الممحصة التي زعموا أنها (آية السيف) آية : " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ " (التوبة : 36) والآية – كما ترى – تعلم المسلمين أن يتجمعوا كافة ، أي : أن يكونوا يدا واحدة على قتال المشركين كما يتجمع المشركون ، ويكونون يدا واحدة على قتال المسلمين . فهو أيضا نوع من المعاملة بالمثل . وإذا لم يقابل المسلمون تجمع المشركين والكفار عليهم بمثله ، كان هناك خطر وفتنة وفساد كبير ، صرح به القرآن في آية أخرى ، فقال : " وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ " (الأنفال : 73) .
• مناقشة " حديث السيف " :
وكما ناقش الكتاب دعوى (آية السيف) ناقش كذلك دعوى (حديث السيف) وهو الذي يقول " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت رمحي ... " [1] إلى آخره . وقد ناقش هذا الحديث من ناحية سنده وثبوته ، ومن ناحية متنه ودلالته ، بالبينات والأدلة ، لا بمجرد الدعوى . فإن الله تعالى إنما أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، ولم يرسله بالسيف ولا بالرمح .
• مناقشة دعوى الإجماع على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة :
وناقش الكتاب بعض القضايا الفقهية المهمة ، مثل دعوى الإجماع على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة ، بحيث يجب عليها أن تغزو بلاد الكفار كل سنة مرة على الأقل .
والحق أن هذا لا يستند إلى دليل من محكمات القرآن والسنة ، كما أنه ليس متفقا عليه بين الأئمة ، فمنهم من قال : إن هذا كان واجبا على الصحابة في أول الإسلام ، وليس على من بعدهم ، كما قال هذا أحد فقهاء التابعين المعروفين وهو عطاء ، كما قاله بعده أحد العلماء المجاهدين ، وهو عبد الله بن المبارك ، وقال الإمام النووي : إنه محتمل .
ومنهم من قال : إنه ليس فرضا ، ولكنه نافلة . كما هو رأي عبد الله بن عمر من الصحابة ، عمرو بن دينار من التابعين ، وابن شبرمة من أئمة الفقهاء .
• التفسير المقبول لمعنى : فرض الكفاية في الجهاد :
وحتى لو سلمنا بما قاله الفقهاء ، وأنه فرض كفاية ، فماذا يعني ذلك ؟! إن هناك من فسر فرض الكفاية تفسيرا إيجابيا مقبولا ، لدى المسلمين وغير المسلمين ، وهو : أن تُشحن ثغور المسلمين وحدود البلاد بقوات إسلامية مسلحة على أعلى مستوى من التدريب ، ومعهم أفضل ما يقدرون عليه من الأسلحة اللازمة ، يقودهم رجال أقوياء أمناء ، لا يفرطون في دينهم ولا في أمتهم ، . وبهذا الإعداد القوي – ماديا وبشريا – يخمدون شوكة الأعداء بحيث لا يطمعون في الإغارة على المسلمين ، أو التعدي على حدودهم ، أو على أحد منهم ، أو من أهل ذمتهم .
• مناقشة فقه جماعات العنف :
كما أن هذا الكتاب ناقش بعض المسلمين ، الذين اتخذوا العنف طريقا لتحقيق مطالبهم من الحكومات الحاضرة ، ورأوا أن استخدام القوة العسكرية وحدها ، هو الطريق الأوحد لإزالة المظالم ، وإقامة العدل ، وتطبيق الشريعة ، وإحلالها محل القوانين الوضعية المستوردة ، واستباحتهم في سبيل ذلك دماء (المدنيين) المسلمين الأبرياء ، الذين لا ناقة لهم في السياسة ولا جمل .
وهؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إلى (الجهاد) وأنهم بعملهم هذا يحيون فريضة الجهاد التي أماتها المسلمون ، ولهم في هذا فقههم الخاص ، وأدلتهم التي يستندون إليها ، ولهم مشايخهم الذين يرجعون إليهم ويفتونهم بشرعية ما يقومون به من سفك الدماء ، وتخريب الديار ، وترويع الآمنين .
وقد ناقش الكتاب هؤلاء من دعاة العنف ، والقتل العشوائي ، ونقد ما يستندون إليه من أدلة وشبهات ، وبين وجه الخلل والعوار في فهمهم من جهاته المختلفة :
( 1 ) من جهة تكفير الحكام الحاليين ، والتكفير مزلق خطير ، لا يجوز لعالم مسلم يحترم دينه ، ويحترم نفسه أن يلجأ إليه ، فإن إخراج من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، ولا ينكر معلوما من الدين بالضرورة ، ولا يستحل محرما قطعيا ، ولا يقول قولا صريحا يخرجه من الإسلام ، ونحو ذلك ... إخراج هذا من الإسلام والحكم عليه بالكفر الأكبر المخرج من الملة أمر خطير ، ما لم نرَ " كفرا بواحا عندنا فيه من الله برهان " [2[
( 2 ) ومن جهة الخروج المسلح على السلاطين الظلمة ، فهذا أيضا له شروطه وضوابطه ، وإلا أصبح الأمر فوضى ، وخصوصا في عصرنا هذا الذي أصبحت فيه الدول تملك قوات مسلحة برية وبحرية وجوية ، لا تستطيع أي جماعة شعبية أن تملك ما يكافئها أو يقاربها ، ومعنى الصدام المسلح هنا : الدخول في معركة فناء أو انتحار ، لا تحقق هدفا ولا تؤتي ثمرة ، ولهذا شددت السنة النبوية فيه .
( 3 ) ومن جهة تغيير المنكر بالقوة ، فهذا له شروط ، لا بد أن تتوافر ، وخصوصا لمن يريد حمل السلاح ، ويقاتل السلطان ، لتغيير المنكر . وأبرز الشروط : ألا يترتب على المنكر منكر أكبر منه ، فيتقبل أهون الشرين ، ويرتكب أخف الضررين .
( 4 ) وقد بين الكتاب أن الذي يملك التغيير في عصرنا واحد من ثلاثة :
أ – إما البرلمانات المنتخبة دستوريا في الدول الديمقراطية ، لمن يملك أغلبية كبيرة ، تستطيع أن تغير التشريعات والقوانين بطريقة سلمية .
ب – أو القوات المسلحة ، إذا اتفقت مجموعة كبيرة من الضباط على ذلك بحيث لا تحدث فتنة ، وإن كنت لا أجيز الانقلابات العسكرية ، لما تحمله من أخطار ، وما تفرزه غالبا من أنظمة عسكرية مستبدة كثيرا ما يطول أمدها .
ج – أو ثورة شعبية عارمة ، تقف فيها جماهير الشعب خلف زعامة مطاعة مرْضيَّة ، كما حدث في ثورة الخميني في إيران .
وقد ناقش الكتاب كثرا من القضايا الشائكة المعاصرة ، بمنطقه العلمي الشرعي الواقعي ، ومنهجه الوسطي ، ووجد لها حلولا في ضوء محكمات الشريعة .
وهكذا استمر هذا الكتاب (فقه الجهاد) يناقش هذه القضايا المتوارثة بالمنطق الإسلامي الأصيل ، المعتمد على أدلتنا الشرعية الصحيحة والبينة ، المستمد من أصولنا ومصادرنا ، والنابع من ثقافتنا وتراثنا الفقهي ، وليس مستوردا من خارج صيدليتنا ، ومن صنع أيدينا بحيث لا تخالف الأصول ، ولا تباين النقول ، ولا تناقض العقول ، بل إذا عرضت عليها تلقتها بالانشراح والقبول .
فهذه هي الثقافة الجديدة التي يقدمها الكتاب .
• ثقافة حية مؤثرة :
ونحن لا نريد من هذه (الثقافة الجديدة) مجرد (المعرفة النظرية) بالجهاد وحقيقته وأبعاده وأهدافه ، ولكننا نريد ثقافة تنتج حركة في الحياة ، ثقافة حية مؤثرة في الضمير والسلوك ، تقاوم ثقافة دعاة العنف ، وعشاق الدم ، ومشيعي الموت ، وينعكس أثرها في نظرة المجتمع وفي مسيرته ، وفي علاقاته الخارجية والداخلية ، حتى تشيع في الحياة فكرة السلام بدل الحرب ، والحب بدل الكراهية ، والتعاون بدل الصدام ، والتعارف بدل التناكر ، والحب بدل الكراهية ، والتعاون بدل الأنانية .
فهذا ما نريده لهذه الثقافة الجديدة أن تثمره في حياة البشر ، على مستوى أنفسنا نحن المسلمين ، وعلى مستوى العالم من حولنا ، الذي تقارب وتقارب حتى أمسى قرية واحدة .
وبهذا تكون هذه الثقافة مجدية حقا ، ويكون هذا العلم نافعا حقا .
فنحن المسلمين نرى العلم الذي لا يؤدي إلى العمل علما غير نافع ، يستعاذ بالله منه ، كما استعاذ رسولنا الكريم منه حين قال : " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع" [3[ .
فقد ذم القرآن ، وذمت السنة ، كل علم من هذا النوع ، تُحشى به الرؤوس ، ولا تزكو به النفوس ، وليس له مدلول عملي في واقع الحياة ، وقد ضرب له القرآن أسوأ مثلين : مثل الكلب ، ومثل الحمار ، قال تعالى : " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " (الأعراف : 175 ، 176(
وفي سورة أخرى قال : " مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا " (الجمعة : 5(
ولهذا اشتهر بين علماء المسلمين هذه الحكمة : علم بلا عمل ، كشجر بلا ثمر ، أو كسحاب بلا مطر .
• ترحيب عام بظهور الكتاب :
فلا غرو أن تلقى الكتاب : العالم العربي والإسلامي ، والمنصفون خارج العالم الإسلامي ، بحسن القبول ، وأثنوا عليه ، ونوهوا به ، واعتبروه ميلادا جديدا لفكر جديد ، وثقافة جديدة ، في قضايا طالما خاض فيها الخائضون بغير حجة ، وقال القائلون بغير بينة من الجهتين : جهة المُفْرطين ، وجهة المُفَّرطين ، حتى قال بعض الغربيين المنصفين : إن الكتاب حل مشكلة كبيرة ظلت قرونا طويلة بلا حل !!
والحمد لله قد اعتدل الميزان ، واتضحت الرؤية ، وحصحص الحق ، وانكشف القناع عن وجه الحقيقة ، التي ضاعت في خضم الصراع بين الغلاة والمضيعين .
وإني لأحمد الله تعالى حمدا كثيرا مباركا فيه ، كما ينبغي لجلال وجهه ، وعظيم سلطانه ، وجزيل نعمه ، على ما استُقبل به هذا الكتاب (فقه الجهاد) من الترحيب به ، والاحتفاء بمقدمه ، والتنويه بشأنه على مستويات شتى .
فهناك من حاول التعريف به ، كما فعلت صحيفة (المصري اليوم) القاهرية ، حيث عرفت بالكتاب في مقالات سبع مطولة ، كل مقالة تستغرق صفحة كاملة ، وكذلك عرف بهم وقه (إسلام أون لاين) العالمي على الإنترنت .
وهناك من أشار إلى بعض القضايا المهمة التي طرحها وناقشها الكتاب بمنطق علمي رصين ، كما فعل الكاتب الصحفي المصري الكبير الأستاذ مكرم محمد أحمد ، نقيب الصحفيين ، في عموده اليومي بالأهرام ، لمدة ثلاثة أيام .
وهناك من عرضه في صورة مشاركة في ندوة في جامعة "أدنبرة" في بريطانيا ، شارك فيها عرب وأوربيون وأمريكيون ، والتي عُرضت على موقع قناة الجزيرة على الإنترنت ، وممن شارك فيها الأستاذ الكاتب المفكر المسلم الداعية المعروف الشيخ راشد الغنوشي ، الذي قال : إن الجهاد كان أداة في يد المتطرفين ، يبررون به ما يقومون به من عنف ، فسحبه القرضاوي منهم ، ليصبح في صف الاعتدال ، وفي خدمة تيار الوسطية الحق .
وقال : لقد أحسن الشيخ العلامة يوسف القرضاوي إذ قدم للأمة سِفرا قيما عن فقه الجهاد في الإسلام ، الذي أودعه عصارة علمه وخبرته في فقه الجهاد ، ومناهج التغيير ، والعلاقات الدولية ، حري بكل طالب حق مستبرئ لدينه في مسألة الجهاد أن يتأمل جيدا محتوياته .
وهناك من أرسل إليَّ مثنيا على الكتاب ومعرفا بمنزلته ، مثل الأخ الكريم الباحث مترجم معاني القرآن للغة الإنجليزية – الذي يعده المختصون أفضل ترجمة – الدكتور أحمد زكي حماد ، الذي قال : هذا السفر العظيم (فقه الجهاد) لون من التجديد في أمر جليل من دعائم الدين ، وهو مؤسس على علم راسخ ، وجهاد متواصل ، ووعي بالعالم وما يموج به من أفكار ومذاهب وفلسفات ، وما يحاك فيه من مخططات تستهدف احتكار القيادة والسيادة والسيطرة ، على العالم . وقد فتح فقه الجهاد بابا واسعا لتقديم بديل حضاري للتعسف القائم على استعمال القوة .
والشيخ الدكتور عبد الله الجديع العالم الباحث الذي جمع بين الفقه والحديث ، والذي قال : (فقه الجهاد) موسوعة عظيمة ، لا ينقضي العجب من كمال استيعابها ، ودقة مضمونها ، وأصالة ومتانة تحقيقها ، على ما عهدنا من قدوتنا وإمامنا الكبير يوسف القرضاوي ، متع الله به .
والعالم الباحث الداعية المعروف الدكتور سلمان العودة المشرف على موقع (الإسلام اليوم) الذي قال : يبدو لي ان هذا الكتاب أعظم ما ألَّفت ! ولو لم تكتب غير هذا الكتاب لكفاك .
والأخ الكاتب الباحث الداعية الغيور المجاهد بكلمة الحق الدكتور محمد عباس ، الذي كتب مقالة طويلة في مجلة (المختار الإسلامي) العدد (326) بلغت سبع عشرة صفحة ، وقيل لي : إنه انتقد الكتاب ، فقلت : أرحب بنقده ، فهو رجل كله للإسلام ، ثم وجدت كلامه على نحو ما يقول علماء البديع في البلاغة : مدحا في صورة الذم ، كقول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب !
ومنهم من هاتفني ، ومنهم من شافهني ، شاكرا ومقدرا ، وداعيا بالمزيد من التوفيق .
وقد دعاني الإخوة في نقابة الصحفيين بالقاهرة ، الأستاذ صلاح عبد المقصود وكيل النقابة ، وزميله الصديق محمد عبد القدوس ، وإخوانهما ، للحديث عنه في محاضرة كاملة ، فضلا عن جملة من الأسئلة بعد المحاضرة .
وهناك من الباحثين من رسالة دكتوراه ، في جامعة لندن (soas) وموضوعها (القتال في القرآن : دراسة تحليلية لنظرية الشيخ القرضاوي من خلال كتابه فقه الجهاد) وهو الباحث التونسي أحمد جعلول .
وهناك مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد ، التابع لمؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع ، الذي تبنى الطبعة الأولى من هذا الكتاب لتوزيعها على مكتبات الجامعات ، ومراكز الدراسات والأبحاث في العالم .
وهناك من أصحاب المال والأعمال والمؤسسات من اشترى مئات النسخ من الكتاب لتوزيعها على المثقفين وطلاب العلم ، والمهتمين بالدراسات الإسلامية ، كما فعل أخونا أحمد مصطفى الهاشمي ، والبنك الدولي الإسلامي ، والشيخ وليد بن هادي من قطر ، جزاهم الله خيرا .
• مزيَّة هذه الطبعة :
هذا وقد أجريت تصحيحات وتنقيحات وإضافات شتى نافعة وبالغة الأهمية على هذه الطبعة ، وفي كل أبواب الكتاب وفصوله ، بعضها من باب استدراك الإنسان على نفسه ، ابتغاء التي هي أحسن ، كما يرشدنا القرآن ، او الاستدراك على خطأ وقع من ناسخ أو طابع ، أو وهم من المؤلف ، أو سهو منه ، وهو ما لا بد منه بحسب طبيعة البشر ، أو من اقتراح بعض الإخوة من مكتبي ، أو من الأخ الكريم العالم الباحث المدقق الشيخ مجد مكي ، الذي انضم إلى مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد بالدوحة ، فكان إضافة لها اعتبارها .
وهذا اقتضاني : أن أحذف أشياء لا حاجة إليها من الفهارس ، مثل الترجمة للرواة ، وأكتفي في فهرس (الأعلام) برجال الفقه ، وكل من له رأي موافق ، أو مخالف من المتقدمين أو المتأخرين أو المعاصرين ، من المسلمين أو غير المسلمين .
وأن أزيد كثيرا من العناوين الجانبية الموضحة ، وأن أضيف بعض عبارات أو جمل أو فقرات (تحسينية تكميلية) أو (تعديلية) في بعض الفقرات ، وقد تطول بعض هذه المواضع إلى عشرين صفحة .
وأن أضيف فصلا كاملا ، كما في الباب العاشر ، وخاتمة تتضمن ما انتهيت إليه من الترجيحات الفقهية ، والاستنباطات الاجتهادية ، والتحقيقات العلمية ، والوقفات التحليلية . وأن أضيف بعض الملاحق المهمة ، وأحذف ملاحق ليس لها ضرورة .
وفي هذا كله إثراء لهذا الكتاب المبارك إن شاء الله ، ومزيَّة لهذه الطبعة ، التي حظيت بخدمة غير عادية .
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . "رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (التحريم: 8(