البحث

التفاصيل

الوسطية

الرابط المختصر :

هذه خصيصة من أبرز خصائص الإسلام، وهي "الوسطية"، ويعبر عنها أيضا بـ "التوازن"، ونعني بها التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه.

مثال الأطراف المتقابلة أو المتضادة: الربانية والإنسانية، الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، الوحي والعقل، الماضوية والمستقبلية، الفردية والجماعية، الواقعية والمثالية، الثبات والتغير، وما شابهها. ومعنى التوازن بينها: أن يفسح لكل طرف منها مجاله، ويعطي حقه "بالقسط" أو "بالقسطاس المستقيم"، بلا وكس ولا شطط، ولا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار. كما أشار إلى ذلك كتاب الله بقوله: (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان).

عجز الإنسان عن إنشاء نظام متوازن:

وهذا في الحقيقة أكبر من أن يقدر عليه الإنسان، بعقله المحدود، وعلمه القاصر، فضلا عن تأثير ميوله، ونزعاته الشخصية، والأسرية والحزبية، والإقليمية والعنصرية وغلبتها عليه من حيث يشعر أو لا يشعر.

ولهذا لا يخلو منهج أو نظام يصنعه بشر ـ فرد أو جماعة ـ من الإفراط أو التفريط، كما يدل على ذلك استقراء الواقع وقراءة التاريخ.

إن القادر على إعطاء كل شيء في الوجود ـ ماديا كان أو معنويا ـ حقه بحساب وميزان، هو الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأحاط بكل شيء خيرا، وأحصى كل شيء عددا، ووسع كل شيء رحمة وعلما.

ولا عجب أن نرى هذا التوازن الدقيق في خلق الله، وفي أمر الله جميعا، فهو صاحب الخلق والأمر، فظاهرة التوازن، تبدو فيما أمر الله به، وشرعه من الهدى ودين الحق، أي: في نظام الإسلام ومنهجه للحياة، كما تبدو في هذا الكون الذي أبدعته يد الله فأتقنت فيه كل شيء.

من مظاهر الوسطية في الإسلام:

وإذا كان للوسطية كل هذه المزايا، فلا عجب أن تتجلى واضحة في كل جوانب الإسلام، نظرية وعملية، تربوية وتشريعية.

وسطية الإسلام في العبادات والشعائر:

والإسلام وسط في عباداته، وشعائره بين الأديان، والنحل التي ألغت الجانب "الرباني" ـ جانب العبادة والتنسك والتأله ـ من فلسفتها وواجباتها، كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده… وبين الأديان والنحل التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والإنتاج، كالرهبانية المسيحية.

ولعل أوضح دليل نذكره هنا: الآيات الآمرة بصلاة الجمعة:

(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون).

فهذا هو شأن المسلم مع الدين والحياة حتى في يوم الجمعة: بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة، ثم سعي إلى ذكر الله وإلى الصلاة، وترك للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة، ثم انتشار في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيرا في كل حال، فهو أساس الفلاح والنجاح.

وسطية الإسلام في الأخلاق:

والإسلام وسط في الأخلاق بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكا أو شبه ملاك، فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يمكن له، وبين غلاة الواقعيين الذين حسبوه حيوانا أو كالحيوان، فأرادوا له من السلوك ما لا يليق به فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية فاعتبروها خيرا محضا، وهؤلاء أساءوا بها الظن، فعدوها شرا خالصا، وكانت نظرة الإسلام وسطا بين أولئك وهؤلاء.

فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق مركب فيه العقل، وفيه الشهوة، فيه غريزة الحيوان، وروحانية الملاك، قد هدى للنجدين، وتهيأ بفطرته لسلوك السبيلين، إما شاكرا وإما كفورا. فيه استعداد للفجور استعداده للتقوى. ومهمته جهاد نفسه ورياضتها حتى تتزكى: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).

وسطية الإسلام في التشريع:

والإسلام وسط كذلك في تشريعه ونظامه القانوني والاجتماعي، وأبرز ما تتجلى فيه الوسطية هنا: مجال الفردية والجماعية.

التوازن بين الفردية والجماعية:

وفي النظام الإسلامي تلتقي الفردية والجماعية في صورة متزنة رائعة، تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة، وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات، وتتوزع فيها المغانم والتبعات بالقسطاس المستقيم.

لقد تخبطت الفلسفات والمذاهب من قديم، في قضية الفرد والمجتمع والعلاقة بينهما: هل الفرد هو الأصل والمجتمع طارئ مفروض عليه، لأن المجتمع إنما يتكون من الأفراد؟ أم المجتمع هو الأساس والفرد نافلة، لأن الفرد بدون المجتمع مادة غفل (خام)، والمجتمع هو الذي يشكلها ويعطيها صورتها، فالمجتمع هو الذي يورث الفرد ثقافته وآدابه وعاداته وغير ذلك؟

من الناس من جنح إلى هذا، ومنهم من مال إلى ذلك، واحتد الخلاف بين الفلاسفة والمشرعين والاجتماعيين والاقتصاديين والسياسيين في هذه القضية، فلم يصلوا إلى نتيجة.

كان (أرسطو) يؤمن بفردية الإنسان، ويحبذ النظام الذي يقوم على الفردية، وكان أستاذه (أفلاطون) يؤمن بالجماعية ـ الاشتراكية ـ كما يتضح ذلك في كتابه (الجمهورية).

وبهذا لم تستطع الفلسفة الإغريقية ـ أشهر الفلسفات البشرية القديمة ـ أن تحل هذه العقدة، وأن تخرج الناس من هذه الحيرة، كشأن الفلسفة دائما في كل القضايا الكبيرة، تعطي الرأي وضده، ولا يكاد أقطابها يتفقون على حقيقة، حتى قال أحد أساتذتها: الفلسفة لا رأي لها!!

وفي فارس ظهر مذهبان متناقضان: أحدهما فردي ويدعو إلى التقشف والزهد، والامتناع عن الزواج، ليعجل الإنسان بفناء العالم، الذي يعج بالشرور والآلام، وهذا هو مذهب "ماني" ويمثل أقصى الفردية.

وقام في مقابله مذهب آخر يمثل أقصى (الجماعية) هو مذهب "مزدك" الذي دعا إلى شيوعية الأموال والنساء، وتبعه كثير من الغوغاء، الذين عاثوا في الأرض فسادا، وضجت منهم البلاد والعباد.

وقد جاءت الأديان السماوية لتقيم التوازن في الحياة، والقسط بين الناس، كما قرر ذلك القرآن الكريم، ولكن أتباعها سرعان ما حرفوها وبدلوا كلمات الله، ففقدت بذلك وظيفتها في الحياة، حين فقدت ميزتها الأولى وهي: ربانية المصدر.

لهذا، لم تقدم الأديان السابقة قبل الإسلام حلا لهذه المشكلة، فقد كان اليهود الذين تفرقوا في الأرض يؤيدون الفردية، بتفكيرهم وسلوكهم القائم على الأنانية: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل) كما سجل عليهم القرآن العزيز.

وجاءت المسيحية أيضا تهتم بنجاة الفرد قبل كل شيء، تاركة شأن المجتمع لقيصر، أو على الأقل، هذا ما يفهم من ظاهر ما يحكيه الإنجيل عن المسيح، حين قال: أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله!!

وإذا طوينا كتاب التاريخ وتأملنا صفحات الواقع، فماذا نرى؟

إن عالمنا اليوم يقوم فيه صراع ضخم بين المذهب الفردي، والمذهب الجماعي. فالرأسمالية تقوم على تقديس الفردية، واعتبار الفرد هو المحور الأساسي، وتعطيه الحقوق الكثيرة، التي تكاد تكون مطلقة، فله حرية التملك، حرية القول، وحرية التصرف، وحرية التمتع، ولو أدت هذه الحريات إلى إضرار نفسه، وإضرار غيره، مادام يستعمل حقه في "الحرية الشخصية"، فهو يتملك المال بالاحتكار والحيل والربا، وينفقه في اللهو والخمر والفجور، ويمسكه عن الفقراء والمساكين والمعوزين، ولا سلطان لأحد عليه، لأنه "هو حر".

والمذاهب الاشتراكية ـ وبخاصة المتطرفة منها كالماركسية ـ تقوم على الحط من قيمة الفرد والتقليل من حقوقه، والإكثار من واجباته، واعتبار المجتمع هو الغاية، وهو الأصل. وما الأفراد إلا أجزاء أو تروس صغيرة في تلك "الآلة" الجبارة، التي هي المجتمع، والمجتمع في الحقيقة هو الدولة، والدولة في الحقيقة هي الحزب الحاكم، وإن شئت قلت: هي اللجنة العليا للحزب، وربما كانت هي زعيم الحزب فحسب، هي الدكتاتور!!

إن الفرد ليس له حق التملك إلا في بعض الأمتعة، والمنقولات، وليس له حق المعارضة، ولا حق التوجيه لسياسة بلده وأمته، وإذا حدثته نفسه بالنقد العلني أو الخفي، فإن السجون والمنافي وحبال المشانق له بالمرصاد!

ذلك هو شأن فلسفات البشر ومذاهب البشر، والديانات التي حرفها البشر، وموقفها من الفردية والجماعية، فماذا كان موقف الإسلام؟

لقد كان موقفه فريدا حقا، لم يمل مع هؤلاء ولا هؤلاء، ولم يتطرف إلى اليمين ولا إلى اليسار.

إن شارع هذا الإسلام هو خالق هذا الإنسان، فمن المحال أن يشرع هذا الخالق من الأحكام والنظم ما يعطل فطرة الإنسان أو يصادمها. وقد خلقه سبحانه على طبيعة مزدوجة: فردية واجتماعية في آن واحد. فالفردية جزء أصيل في كيانه، ولهذا يحب ذاته، ويميل إلى إثباتها وإبرازها ويرغب في الاستقلال بشؤونه الخاصة.

ومع هذا نرى فيه نزعة فطرية إلى الاجتماع بغيره، ولهذا عد السجن الانفرادي عقوبة قاسية للإنسان، ولو كان يتمتع داخله بما لذ وطاب من الطعام والشراب.

والنظام الصالح هو الذي يراعى هذين الجانبين: الفردية والجماعية، ولا يطغى أحدهما على الآخر. فلا عجب أن جاء الإسلام ـ وهو دين الفطرة ـ نظاما وسطا عدلا، لا يجور على الفرد لحساب المجتمع، ولا يحيف على المجتمع من أجل الفرد، لا يدلل الفرد بكثرة الحقوق التي تمنح له، ولا يرهقه بكثرة الواجبات التي تلقى عليه، وإنما يكلفه من الواجبات في حدود وسعه، دون حرج ولا إعنات، ويقرر له من الحقوق ما يكافئ واجباته، ويلبي حاجته، ويحفظ كرامته، ويصون إنسانيته.

ما قرره الإسلام لرعاية حقوق الفرد؟

من هنا قرر الإسلام حرمة الدم، فحفظ للفرد "حق الحياة"، وأعلن القرآن أن: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).وأجبت الشريعة في قتل العمد القصاص، إلا أن يعفو أولياء المقتول، أو يقبلوا بدلا، وأوجبت في قتل الخطأ الدية والكفارة.

وقرر حرمة العرض، فصان للفرد "حق الكرامة" فلا يجوز أن يهان في حضرته، أو يؤذي في غيبته، بأي كلمة أو إشارة تسوؤه: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب)، (ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا).

3. وقرر حرمة المال، فصان للفرد "حق التملك" فلا يحل أخذ ماله إلا بطيب نفس منه، ولا يجوز للدولة، ولا لفرد آخر نهب ماله وأخذه بغير حق. قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".

4. وقرر حرمة البيت، فصان بذلك الفرد "حق الاستقلال الشخصي" فلا يجوز لأحد أن يتجسس عليه، أو يقتحم عليه بيته بغير إذنه، قال تعالى: (ولا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها)، وقال: (ولا تجسسوا).

5. وقرر للفرد "حرية الاعتقاد" فلا يجوز أن يكره على ترك دينه، واعتناق دين آخر: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي)، (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).

6. وقرر للفرد "حرية النقد" فمن حق كل فرد أن يعارض ما يراه من عوج، وما يلاحظه من تقصير، بل من واجبه ذلك إذا لم يقم غيره به، وهو ما سماه الإسلام "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

7. وقرر "حرية الرأي والفكر" فمن حق كل إنسان، بل من واجبه أن يفكر وينظر. فقد أمر الإسلام الناس أن يتفكروا، ومادام التفكير حقا ـ أو واجبا ـ لكل بشر، فمن حق كل مفكر أن يخطئ، ولا لوم عليه في ذلك. إن الإسلام لا يحرم المجتهد من المثوبة والأجر، وإن أخطأ إصابة الحقيقة. ففي الحديث: "المجتهد إذا أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران".

وليس في الدنيا دين ولا نظام يشجع على استعمال الفكر، ويرحب بنتائجه ـ أيا كانت ـ مثل هذا الإسلام، الذي يثيب على الاجتهاد الخطأ.

ثم تتعايش هذه الأفكار والاجتهادات المختلفة جنبا إلى جنب، دون ضيق ولا تبرم، كما رأينا ذلك في عهد الصحابة ومن تبعهم بإحسان.

فقد ظل هذه الحرية الفكرية ظهرت المدارس والمشارب المختلفة: في الفقه، والتفسير، والكلام وغيرها، من غير نكير، إلا ما توجبه المناقشة العلمية.

8. وقرر الإسلام "المسئولية الفردية"، وأكدها تأكيدا بليغا في كتابه فقال تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة)، (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)، (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

وهذه الآيات تطبق على الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، فهو في الحياتين لا يحمل وزر غيره.

ما قرره الإسلام لحماية حقوق المجتمع؟

ومع هذه الحقوق والحريات التي منحها الإسلام للفرد، فقد فرض عليه للمجتمع واجبات تكافئها، وقيد هذه الحقوق والحريات الفردية، بأن تكون في حدود مصلحة الجماعة، وألا يكون فيها مضرة للغير، وليس للفرد أن يستخدم حقه فيما يؤذي الجماعة ويضرها، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، أي: لا يضر الإنسان نفسه ولا يضار غيره، كما أن حق الفرد إذا تعارض مع حقوق الجماعة، فإن حق الجماعة أولى بالتقديم.

أ. فالحياة التي صانها الإسلام للفرد، إذا اقتضى المجتمع المسلم بذلها لحمايته وجب عليه أن يقدمها راضي النفس، قرير العين، معتقدا أن الموت هنا هو عين الحياة، وكذلك إذا اعتدى على حق نفس أخرى كقاتل العمد، أو على حق المجتمع في الأمن والاستقرار، كقاطع الطريق، أو خرج على دينه وفارق الجماعة كالمرتد ـ فقدت حياته مالها من عصمة.

ب. حق التملك مقيد بأن يأخذ المال من حله، وينفقه في محله، ولا يبخل به إذا طلبته الجماعة، فملكية الفرد للمال ليست مطلقة كما ينادي أنصار "المذهب الحر"، بل هي مقيدة بحدود الله وحقوق المجتمع، حتى إن انتزع هذا الملك من صاحبه يجوز للمصلحة العامة، على أن يعوض عنه ثمن المثل، ذلك أن المال مال الله، وهو مستخلف فيه، وبعبارة أخرى: هو وكيل الجماعة في رعايته وتثميره وإنفاقه، فإذا أساء التصرف في المال، كان من حق الجماعة أن تغل يده، وتحجر عليه، كما أن للجماعة عليه حقوقا في هذا المال، بعضها دوري ثابت كالزكاة بأنواعها، وبعضها غير دوري، كما في الحديث: "إن في المال حقا سوى الزكاة"، بعضها يفرضه ولي الأمر عند الحاجة.

ج. والحريات والحقوق كلها مقيدة برعاية أخلاق المجتمع وعقائده ومثله العليا، فليس معنى حرية الاعتقاد أو الرأي، إباحة الطعن على الإسلام وأهله، وإذاعة الكفر بالله ورسوله وكتابه، والتشكيك في القيم العليا، ونشر الخلاعة والفجور، فإن حرية الإفساد لا يقرها عقل ولا شرع.

د. المسئولية الفردية التي أكدها الإسلام، نراه قد أكد كذلك مسئولية الفرد عن الجماعة، فكل فرد في المجتمع المسلم راع في مجال من المجالات، كما في الحديث الصحيح: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، فكما أن الإمام راع مسئول عن الأمة، فإن الرجل في بيته راع مسئول عن الأسرة، والمرأة راعية في بيت زوجها، والخادم راع في مال مخدومه، وكل على ثغر الإسلام، فلا يجوز له إهمالها… وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقتضي مسئولية المسلم عن المجتمع، وتوجب عليه مراقبة أحواله، وتقويم عوجه إن اعوج بكل ما استطاع، بيده أولا، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه: وذلك أضعف الإيمان.

إن النصيحة لكافة المسلمين خاصتهم وعامتهم، ركن ركين من الإسلام، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

وليس لمسلم أن يعتزل الحياة والناس ويقول: نفسي نفسي! ويدع نار الفساد تلتهم الأخضر واليابس من حوله، فإن هذه النار إذا تركت وشأنها، لم تلبث أن تحرقه هو، وتحرق كل ما يحرص عليه. ولهذا يقول القرآن: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب)، وفي الحديث: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده".

هـ. ومن معاني الجماعة في الإسلام ما عرف في الشريعة باسم "فروض الكفاية" فكل علم أو صناعة أو حرفة أو نظام أو مؤسسة، تحتاج إليها الجماعة المسلمة في دينها أو دنياها، فتحقيقها فرض كفاية على المسلمين، على معنى أنه إذا قام بها عدد كاف فقد ارتفع الحرج، وسقط الإثم عن باقي الجماعة، وإلا أثمت الجماعة كلها، واستحقت عقوبة الله.

و. المسلمون مسئولون مسئولية تضامنية عن تنفيذ شريعة الإسلام، وإقامة حدوده، ومن هنا كان خطاب التكليف في القرآن إلى الجماعة. وتكرر قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)، بهذه الصيغة الجماعية ليؤكد وجوب التكافل بين الجماعة كلها بمثل قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)، (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة)، وإن كان الذي يقوم على هذه الحدود هو الدولة والحكام، لأن الجماعة كلها مسئولة عن إقامتها، مؤاخذة بعقاب الله إذا عطلتها.

ز. حتى العبادة التي هي صلة بين العبد وربه، أبى الإسلام، إلا أن يضفي عليها روحا جماعية، وصبغة جماعية، فدعا إلى صلاة الجماعة، ورغب فيها، حتى جعلها أفضل من صلاة المسلم وحده، بسبع وعشرين درجة، وكلما كان عدد الجماعة أكبر، كان ثواب الله عليها أعظم، بل هم الرسول أن يحرق على قوم بيوتهم، لتخلفهم عن الجماعة في المسجد، ولم يرخص لأعمى، يسمع الأذن، أن يصلي في بيته ويترك صلاة الجماعة، وقال: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" كراهية منه للشذوذ والانفراد، ولو في المظهر، وإذا صلى المسلم منفردا في خلوة لم تزل الجماعة في وجدانه وضميره، فهو إذا ناجى الله ناجاه بصيغة الجمع، وإذا دعاه دعاه باسم الجميع: (إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم).

كما شرع صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة، وصلاة العيد في كل عام مرتين، وفرض الحج في العمر مرة على كل مسلم، وكلها شعائر لا بد أن تؤدى في صورة جماعية.

ح. في مجال الآداب والتقاليد، حث الإسلام على جملة من الآداب الاجتماعية، أراد بها أن يخرج المسلم من الفردية والانعزالية، التي قد تروق للانطوائيين من الناس، فتحية الإسلام، والمصافحة عند اللقاء، وتشميت العاطس، والتزاور والتهادي، وعيادة المريض، وتعزية المصاب، وصلة الأرحام، وإحسان الجوار، وإكرام الضيف، وحسن الصحبة في السفر والحضر، والبر باليتامى والمساكين وابن السبيل، وغير ذلك من الآداب والواجبات، هي التي جعلت الشعور الجماعي، والتفكير الجماعي، والسلوك الجماعي، جزءا لا يتجزأ من حياة المسلم.

ط. وفي مجال الأخلاق، حث الإسلام على المحبة والإخاء والإيثار، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، ودعا إلى توحيد الكلمة وجمع الصف، كما دعا إلى التراحم والتسامح، وإلى البذل والتضحية، واحترام النظام، والطاعة لأولي الأمر في المعروف.

وبجوار ذلك حذر من الحسد والبغضاء والحقد، والفرقة والتنازع. وسائر الرذائل التي تنشأ من الأنانية والغلو في حب الذات، وحب الشهوات.

وبهذا كله، نعلم كيف أقام الإسلام ـ بالتشريع والتربية ـ الموازين القسط بين الفرد والمجتمع، أو بين الفردية والجماعية في حياة الإنسان، كما نتبين أن نظام الإسلام لا يعد في المذاهب الفردية، كما لا يحسب في المذاهب الجماعية، ذلك لأنه أخذ من كل منهما خير ما فيه، كما تنزه عن شر ما فيه، فقد اعترف بالفرد وبالمجتمع، وقرر لكل منهما حقوقه بالعدل، وألزمه واجبات تقابلها بالمعروف. وهذه هي الوسطية، وإن شئت قلت: هو التوازن الذي اختص به هذا الإسلام.

ــــــــ

- عن كتاب "مدخل لمعرفة الإسلام" للشيخ القرضاوي. 

 


: الأوسمة



التالي
الوحدة والخلافة والديمقراطية
السابق
الخطاب الديني لوزارة الثقافة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع