البحث

التفاصيل

الحركة الإسلامية المعاصرة بين طورين

الرابط المختصر :

تمر الأفكار والجماعات بسُنة كونية ماضية ، تُشبه تلك السُنة التي تمر بها الكائنات الحية النافعة

كنت في شبابي دارساً لعلوم النبات بشيء من التفصيل ، وتعلمت بأن الله تعالى قد جبل الأشجار المثمرة على السير في أطوار متتابعة ، فالشجرة تحمل في داخلها ( عناصر هويتها ) ويحتوي جنين البذرة على المكونات الأساسية التي تميز أي ثمرة عن غيرها ، ...

وتمر الأشجار بمراحل عديدة ، ولكني سأقسم هذه المراحل إلى خمس مراحل من أجل توصيل الفكرة

المرحلة الأولى : هي مرحلة التشكّل ،والحيوية ،والانطلاق للحياة ، وذلك إذا وجدت البذرة من الظروف البيئية ما يساعدها ويمهد لها

المرحلة الثانية : مرحلة الصعود والاستواء على السُوق ،وتفتق البراعم ،والأوراق، والأزهار

المرحلة الثالثة : مرحلة الإثمار ،وتقلب ثمار الشجرة في مراحل النضج والإيناع

المرحلة الرابعة : مرحلة تساقط الثمار اليانعة ، وانتشارها على الأرض لينتفع بها الناس والدواب ،

المرحلة الخامسة : مرحلة اختراق بذور الشجرة لتربة الأرض والإنبثاث فيها من جديد لتعيد دورة حياتها بإذن ربها .

في تقديري إن أي جماعة ،أوتيار أو مذهب، قام على فكرة رجل من الرجال – مهما بلغت عظمته وتمّ رُشده – ستمر بمراحل وأطوار تشبه أطوار ودورة الشجرة بشكل عام ، والحركة الإسلامية المعاصرة ليست بدعا من المذاهب أو الجماعات ، حتى لو حاول بعض المتعصبين السطحيين تقديسها ووضعها في مقام الدين ، أو حاول بعض الغيورين إثبات أنها خارج سنن وسياق هذا القانون الرباني ،

لقد مرت الحركة الإسلامية بحسب دراستي المستفيضة لها ؛ بأطوار ومراحل تشبه هذه المراحل ، ويمكن توصيفها بما يلي :

المرحلة الأولى : طور نشأة الحركة ، وتجمّع خيوطُ فكرتِها الإصلاحية ،وتبلورها في أدبيات مكتوبة ومسموعة ، ِصيغَت هذه الأدبيات صياغةً، تناسبُ الظرفَ الزماني والمكاني ، واستجابة ًللسياق السياسي ،والاجتماعي ،والثقافي،... الذي كانت تعيشه الأمة والمجتمعات آنذاك ، وتميزت هذه المرحلة بالتجرد ،والحماسة ،والتضحية ،والحفاوة الكبرى بالمولود الجديد ،...

المرحلة الثانية : مرحلة انسياب ِالفكرة في المجتمع ،وصعود الحركة ،وحضورها الواسع ، بعد معاناة ورفض واستهجان للوافد الجديد ،من جمهور التقليدين من العلماء والمثقفين آنذاك . وقد تميزت هذه المرحلة بتوسع الجمهور وانتشارها في القرى والمدن ، وعكوف العلماء والأدباء على شرح فكرتها وتأصيلها والدفاع عنها والتعريف بها وتبسيطها للناس ، ورد الشبهات التي تثار حولها ،... مما زاد انتشارها في أوساط الشباب وانتقالها لأقاليم وبلدان أخرى .

المرحلة الثالثة : وهي مرحلة النضج ، وكسب مساحات مجتمعية ومؤسسية أوسع ، وتطلعها لتنفيذ رؤيتها وتمكين مشروعها ، واستثمار التوسع الذي تم في المرحلة الثانية ، والتطلع لنفع الناس وخدمتهم ، والتأكيد على قضايا الأمة والتصدي لها ، ... وربما من ملامح هذه المرحلة - وهي سنة تتكرر في كل المذاهب والأفكار - أن الإبداع يضعف ، والرغبة في الارتقاء النوعي تقل ، ...

المرحلة الرابعة : وهي مرحلة بداية الضعف البنيوي الداخلي ، وسطحية الإنتاج ، والاهتمام بالامتداد الأفقي على حساب العمق في الطرح والمواكبة لتحديات العصر ، وانتشار التقليد والتعصب والولاء للوسائل على حساب الإبداع والحيوية والإنتاج ، ....

المرحلة الخامسة : وهي المرحلة التي تستشرفها الحركة الإسلامية الآن ، وهي مرحلة ما بين الإزهار وسقوط الثمار

حيث لازالت الحركة الإسلامية( كمشروع ورؤية ) تحمل أجنة الفكرة الإصلاحية التي تستمد قوتها من فهم الإسلام فهما معتدلا ،وارتضاء المؤسسية ، والاعتدال في الخطاب والوسائل ، وتتطلع لتمكين المشروع الإسلامي الحضاري الخالد ، وتؤمن بأهمية التعاون الجماعي لأداء هذا الواجب ، ولكنها تمر بمرحلة شرنقة وكمون وشلل حيوي وتزايد الإنكفاء على الذات وشغف باجترار الأمجاد السابقة والنجاحات الماضية وفخر واعتزاز بالرموز القديمة من الحركة ، وتنميط للشباب الوافد في صفوفها ، ونفوذ طبقة الحرس القديم ، .. وكل هذا مع تناوب الحرب الخارجية الماكرة ، والضعف الداخلي المتفاقم .

هناك تياران يتجاذبان الحركة في ظل هذه التحديات والظروف الداخلية والخارجية

تيار يريد الحفاظ على كل أفكار الحركة وأدبياتها ووسائلها ومناهجها التربوية ، وأعرافها وأهدافها وشكله التنظيمي ، بل حتى شعارها وخطابها الدعوي ، ...

وتيار آخر يريد تفكيك الحركة ، وحل رابطتها ، والتخلي عن كل إرثها وإنجازها ، واستبعاد روح فكرتها الإصلاحية القائم على المؤسساتية ، والشمول ، والاعتدال ، وجعلها تيارا عاما يسري في الأمة وينداح دون تنظيم أو نسق .

و أتباع هذين التيارين ، لهما مبررات ،وأدلة ،وحُجَج ،ورؤية استراتيجية، ونيات حسنة لخدمة الإسلام والمسلمين ، ولا يتسع المقال لمناقشة حجج كلا الطرفين

ما أتمناه ، بل أراه واجباً على أبناء الحركة وكل محبيها في العالم ، هو البحث عن طريق ثالث ، بحيث تحافظ هذه الشجرة على خصائصها وأجنتها ،قبل أن تصاب بالعقم ،وتبادر من داخلها ، وبإرادة مستقلة ، بإنتاج ثمار ،تحتضن في داخلها بذور الحياة على "نحو جديد" ، حتى إذا ما سقطت هذه الثمار على الأرض واختلطت بالتراب ( الجديد ) – وهذه سنة الحياة - عادت ثانية بزرع مبارك ، يحمل خصائص الإسلام ولكن يناسب البيئة الجديدة ، ويلبي الحاجات الحقيقية لهذه البيئة ويحمل آلامها ويُعبِّر عن آمالها ، ويستعمل وسائلها ، ويستوعب تحدياتها ، ويحسن صَوغَ خطابِها ، ويعرف كيف يتأقلم مع الواقع الجديد المتجدد .

أتمنى أن لا يقف القاريء عند ظاهر المثال وشكله ، فالمثل إنما هو للتقريب ،ومن المعلوم أن الأمثال لا ينتفع بها إلا من آتاه الله علما وحكمة ، قال تعالى " وتلك الأمثال نضربها للناس [وما يعقلها إلا العالمون] " .

 

ونيس المبروك


: الأوسمة



التالي
مهارات الاجتهاد التنزيلي لفقه المصالح والمفاسد وتطبيقاها على الواقع الإفتائي المعاصر
السابق
الاتحاد ينعى فضيلة الشيخ حسين حسن أبكر رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بجمهورية تشاد

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع